الحَديثُ عن المَغرب لا ينتهِ أبداً في ذاكرتنا وأحاديثنا نحنُ نعشقهُ وهو يحبنا، يبادلنا المحبة في معادلةٍ من الدرجة (المجنونة)، يأخذني الحَنين ويرافقني الأنين إلى كل التفاصيل متمثلةً في تلك الأحياء الشعبية البسيطة وضجيج المركبات ، هنالك في المغرب سِر لا يعرف كنهه إلا العشاق .
ساقتني أقدامي إلى مثلجات (موطا) في شارع الحسن الصغير ، ذلك المقهى البسيط الذي يزخرُ بتفاصيل أخرى تحكي لك الجمال والدهشة التي تعقد لسانك ..!
هُنالك في الزاوية البعيدة شابٌ يطالع في الصحيفة والآخر ينفثُ دخان سجائره وتِلك تلاعب ابنها وتؤنبه كلما قام من على الطاولة وأنا وشقيقي نتأمل روعة المنظر .
كانَ التلفازُ يذيعُ نشرة الأخبار ومن المُسلم به بأن يكون هنالك بعض التعليقات من الحضور ما بين مؤيد ومعارض وغير مُبال .
كانَ الرعدُ ينشرُ الرُعب في بعض الأطفال بالخارج والبَرقُ جعل الغالبية العُظمى من المارين على الرصيف المجاور للمقهى يلجأون إلى أقرب مكان .
سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير.
إنها تُمطر يا سعد !!
لم يحرك ساكناً وراح يقلب صحيفته التي أدماها حِبراً وأحرق قلب الكلمات المتقاطعة بحثاً عن الحُلول..!
خرجتُ والشوق يدفعني وأدفعه يجذبني وأجاذبه لم أشاهد مطراً كهذا منذ سنين، اشتقتُ لذكريات الطفولة واللعب تحت المَطَر.
لا أحد من المُشاةِ على الأرصفة !!
وحيداً كنت تحت المَطَر ..!
سيارات الأجرة تمرُ كلمح البَصَر، والماءُ يكادُ أن يصل إلى الرصيف الآخر ، سيدةٌ واقِفة برفقة ابنتها تبللتا من المَطَر ولا أحد يَقِف، اشتد البرد وتغلغل في أعماق الأجساد والانتظار طويل هُنا ، كم وددتُ أن يقفُ أحدهم ..!
أشرتُ إليهن بأن يتوجهن إلى المظلة الكائنة في أقصى الرصيف قِبالة مخدع الهاتِف ، لكنهن واصلن السير حتى بلغن ذلك المقهى المقابِل.
لا اعلمُ كم سأمكثُ تحت المَطر رغم توقعي لنزلة البرد التي ستصيبني جراء هذا المَطر والبرد الذي جعل أطرافي تتراقصُ باحثة عن الدفء .
وفي خبايا نفسي قلت: لو اتصلت زوجتي الآن وأخبرتها ستقوم الدنيا وتدور الدوائر على رأسي
وسبحان الله ما هي إلا ثواني بسيطة حتى اتصلت قائلة: إنها تمطر بالخارج فأين أنت ؟
تحت المَطر يا أنشودة المَطَر ؟
ماذا ؟
هل أنت مجنون ؟
كلا إنها نوبة جنون فقط فلا تجزعي ..!
لا تتأخر على الغداء وأين ذهب شقيقك ؟ هل هو برفقتك ؟
(التحقيق النسائي الدائم شيء جَميل إذا ما كانَ قلبك أكبر محامي والصمتُ هو القاضي ).
حسَناً هل ينقصكِ شيء لأحضره من السوق ؟
كنتُ متوقعاً القائمة الطويلة العَريضة كالعادة النسائية السحرية خصوصاً حينما يرغبن في التفنن في الطبخ وإعداد الأطباق الخاصة.
احضر معك بعض الطماطم وبعض الجزر والكوسا و و و و و و !!
خَرج شقيقي ونظراته تطيشُ في الفضاء كيدِ طفلٍ تُنافس الكِبار في مأدبةٍ ما !!
أخذ ينادي : ساري مرة تلو الأخرى وهو أمامي لكنه لم يشاهدني أو لم يميزني ، أو خانهُ النَظر والعتبُ على النَظر ..!
دعنا نذهبُ من هنا فلقد تجمدت أطرافي .
وفي ذاكِرتي ما زالت الخضروات تدور حتى خُيل إلي بأني سأعدُ طبقاً (عقلياً) و ألتهمهُ دون توقف.
أين ركنت السيارة يا (أبو الشباب) ؟
أعني سعد ، قال : على رأس الشارِع من جهةِ موقف الحافلات.
هيا لنذهب لنأخذ بعض الخضروات .
فيما مضى كُنت أمازح ابن خالي (هيثم) وأقول له : يا عسكري يا عسكري مسكين أنت يا عسكري ، تطبق كل شيء وتنفذ الأوامِر لكن سبحان الله في موقفي هذا لم أستطع إلا أن اضحك بيني وبين نفسي لأني أنا الآن في العسكرية الزوجية ومعسكر مجنونتي .
المطَر ينهمر بغزارة ونوافذ المركبة مؤصدة لكن لأخي رأي آخر !!
فتح جزءاً بسيطاً من النافذة لـ يشعل سيجارته !!
إنها تمطر يا (صاحبي) هل جننت ؟
قال : أجمل إحساس أمر به الآن !!
ولكم أن تتخيلوا المشهد والموقف !!
قال شقيقي : لا تنس الخضروات وخذ بعض (الطون) كي (أنقنق) عليها في المساء و جبن أصفر ومورتديلا و زيتون و زيت زيتون حبذا لو كان وادي سوس !!
تحالف البطون !!
يقول سعد : المغرب يبقى في الذاكِرة يتغلغلُ في الأعماق تحبه النفس ترتاحُ له وله الأرواح تنساق فيه سِر ،بهِ إكسير الجنون وهو التِرياق ، عشقتُ المغرب لدرجة لم أتوقعها بل بلغت بي مراحل الجنون مراتب الخَيال فوق أرائك الحَنين الدائم ، أكونُ في اشتياق دائم حتى وأنا بين ترابه كل شيء لدي غامض أحب أن اكتشفه ومهما اكتشفت فإني أغرقُ قبل بلوغ قعرِ الدهشة التي تعتريني لحسنِ هذا البلد وأهل البَلد وتفاصيله.
وأقول له : حينما أسافِر إلى المغرب وأعود أكونُ متعلقاً بالذكرى وأشحنُ ذاكِرتي وقلبي منه لئلا أفقد النبض العاطفي وأرتعُ في خيالي الخصب وأغدقُ على نفسي بالذكريات وأملأ رئتي بأوكسجينِ الدار البيضاء حتى حين موعد رحلتي القادِمة..!
بدأت دندنة سعد على أوتار الاشتياق لأزمور وجهة دكالة ، هُنا برمج العقل تلقائياً وحضر أبو فهد الدكالي في الذاكرة ، وقلتُ في نفسي : سعد الدكالي وأبو فهد الدكالي، قلتُ له لاحقاً ستذهب لا تخف ، وفي بداية شارع المقاومة على الجهة المقابلة توجد بعض المحلات الصغيرة ومحلبة في أقصى الزاوية ، ضحكت كثيراً حتى بادرني أخي بالسؤال والعتاب بسبب هذه الضحكة قائلاً : زلزلت أركان الشارع ما الذي جرى لك ؟ هل خَطرت على بالك دعابة أو شيء من هذا القبيل ؟
قلت له : هل سمعت بالمشروب الطحلبي ؟
هل جربت اللبن من تلك المحلبة في حي الولفا ؟
قال : الحمد لله الذي عافانا مما ابتليت به يا مجنون وقالها باللهجة العامية [ جالس تنكت وتضحك مع نفسك ] ..!
أخذنا الخضروات والطلبات الأخرى وإلى المَنزِل كانت وجهتنا والهاتِف تظهرُ على شاشته حروف أعز إنسانة وأغلى بَشر (والدتي)..!
أجبت على المكالمة وكلي شوق ولهفة ، سألتني عن الأحوال وعن شقيقي ثم اطمأنت حينما أخبرتها بأن كل شيء على ما يرام وبأنها تمطر الآن ، وسألتني : هل تناولتم الغداء ؟!
و الله لو جُمعت نساء الكون بعضهن فوق بعض وقلوبهن على قلوب بعض ولو أوتين من الجمال والمال والرفعة لما بلغت إحداهن ظِفر أمهاتنا في الحب والعطف..!
سنتناول الغداء بعد قليل بإذن الله...بلغ سلامي لشقيقك عافاك المولى ، وحملتها سلامي لوالدي وإخوتي..!
بعض التفاصيل لابد لنا من تجاوزها أحياناً ليس لأنها لا تعني شيئاً بالنسبة إلينا لكنها توقدُ النيران الخامدة في الذكريات ، قدمتُ إلى البيت بعد أن أخذ التعب ما أخذ من جسمي ، نسيتُ أن آخذ بعضاً مِنِّي حيثُ تركت ذهني معلقاً متأرجحاً في المدينة القديمة وجسدي هُنا ، العاطِفةُ عاصِفة والهُدوء يسبقها.
أقدمنا على اغتيال جميع الأطباق على المائدة وحمدنا الله على هذهِ النعمة بعد أن شعرتُ بأني ابتلعتُ نصف الكُرة الأرضية وحاولتُ مداعبة النوم واستعطافه لكنهُ أبى وشحذ همتي للتحرك إلى عين الدياب ..!
خرجتُ من المنزل برفقة زوجتي واتجهنا إلى هُناك ولا يخفى عليكم أمَر عشق النساء للخروج إلى أماكن الفُسحةِ والتنزه فالبيتُ صاخِبٌ بالمهام مثخنٌ بالأشغال ، ركنتُ السيارة في المواقف بالقربِ من أحد المطاعم (مطعم السعد) وقررنا السير على الأقدام إلى أن يأخذنا التعب .
الناسُ زُرافات في الكورنيش والحشودُ لا تعد ولا تُحصى وبعضُ البشر فُرادى كأحزان ليلٍ سرمدي كشَّر عن أنيابه أمام العُشاق ، بائعةُ الورد قادِمة و طِفلُ العلكة أيضاً ..!
والبطنُ يئنُ من جرائم التُخمة ولا مجال لدي بتعجيل الخُطوات والدخول في مضمار الهروب منهم .
(عاوني الله يعاونك) ..!
نظرات و انتظار وآمال وآلام والكُل ينظرُ إلينا، غلت مراجل زوجتي لفرط الغضب و قمعت بائعة الورد و تجاهلت صاحب العلكة.
وبدأت المعركة ....!
قالت تلك الطِفلة كلاماً جارحاً للغاية بحق زوجتي ولكم أن تتخيلوا !!
ابنةُ الحي المحمدي تخاطبها إحداهن هكذا و تخطئ بحقها !!
ماذا سيكون نصيب تلك الطِفلة لو تمادت في الكَلام ؟
تبدلت ملامح زوجتي وتمكن الغضبُ منها، صفعت الطِفلة على وجهها حتى خُيل إلي بأن الفتاة ستسقط !!
ولا ألومها حقيقة أ تعلمون لماذا ؟
قالت لها قبل أن تصفعها: إنكِ برفقةِ رجلٍ شرقي (أو كما قالت ) لا ذمةَ لديهم ولا ضَمير والخيانة تسير في دمائهم..!
وأنا على ثِقة بأن هذا الكَلام لو سمعه أحدهم لاستشاط غَضَباً، والانفعال الشديد من شيم زوجتي في هذهِ المواقف..!
أما ثالثةُ الأثافي فهي قدوم رجل الأمن الوطني إلينا مُهرولاً والشررُ يتطايرُ من عينه ، لدرجة بأني تخيلت بأنهُ سيلتهمني بعينه ونظراته.
أخذنا إلى القِسم (المقابل لمطعم تاغزوت) في الكورنيش والذي تكون خلفهُ تلك الأكشاك الصغيرة التي يباع بها الدخان والصحف المحلية.
بدأ بالحديث مع زوجتي وأخذ ينصحها ويخبرها هو الآخر بأن الوضع غير مطمئن لإنكِ برفقة (خليجي) ، عُقد لساني وتمالكت نفسي وعيني تقدحُ بالشرر ، قلتُ له : دع نصائحكَ لك ولا تُعمم هذهِ النظرة القبيحة فالناس ليست سواسية !!
أما الفتاة التي ضربتها زوجتي لم أشاهدها في القِسم !!
أخذت الوساوس تجرني إلى أوديةٍ موحشة من التفكير، هل يعقل بأن تكون تلك الفتاة متفقة مع هذا الشرطي ؟ أو ؟ لكني لم ألقِ لها بالاً وقلتُ للشرطي: لستُ أنا الذي يأتي إلى هذا البلد ليفعل الجرائم ويهتك أعراض البَشَر وإني أخاف الله رب العالمين.
قال لي : سأحتجزك أنت وهذهِ السيدة (يشيرُ إلى زوجتي) ، أجبته : لا تستطيع وسألاحقك قانونياً وستدخلُ في متاهاتٍ معي لا حدود لها وأعدك بأن اقتص منك لدى أعلى سُلطة في البلاد.
قَدِم شرطي آخر وأخذ يعزفُ على نفسِ الأوتار، رفعتُ صوتي وقلت لهم : اقسم بالله إن لم تجعلونا نخرجُ من هنا وإلا فإنكم ستندمون.
ثارت براكين غضبهم وتخبطت ردود أفعالهم ، سأتصل على السِفارة الآن فأعطني اسمك .
كانَ يظنُ بأني أهدده من فراغ وبأني خائف ومرتبك ولا يعلم هذا الشرطي بأني على (قوالب ثلج) ولكني أحاول الخروج بهدوء.
أخرجتُ جميع الوثائق وعقد الزواج، بل وأخرجت زوجتي بطاقتها المعتمدة من وزارة الداخلية السعودية والسفارة وأخرجتُ أنا بطاقة إقامتي المغربية..!
هُنا ظلت الأفواه فاغرة مشدوهة والأنفاس مضطربة !!
اسمح لنا و اعذرنا !!
بدأت الأعذار تأتي من كل صوب وحدب بل وتشدقوا بالغيرة،عُذرٌ أقبح من ذنب.
سأذهب إلى السفارة الآن وقبل ذلك اتصل على رئيسك في الشرطة فإني لن أخرج من هنا..!
وبعد محادثةٍ طويلة معهم خرجنا والأمزجةُ مكتئبة لكننا تخطينا هذا الموقف ونسيناه..!
علماً بأن الشرطي حينما كنت أناقشهُ بشأن إخراجنا قبل أن اظهر الأوراق الرسمية سألني أن أعطيه (إكرامية) وإلا ظللنا في المركز..!
وأقولها بكل ثقة : من المستحيل أن يُقاس المغرب أو تُحسب عليه هذهِ العينات من البَشر فالمغربُ أكبرُ من هؤلاء المتنطعين ولن يغير أحد نظرتي تجاه المغرب ما حييت..!
عين الدياب : جوهرةُ الدار البيضاء ولؤلؤة عشاق عَبق المحيط الأطلسي ، فيما مضى كنت لا أهتمُ كثيراً بهذا الكورنيش وبأنه مصدرٌ للصخب فقط حتى أدمنتُ القدوم إليه طواعية والاستسلام لترانيم خطوات الأقدام.
الجَميل في هذه الجوهرة تلك الدُرر المرصوفة على طول الطريق ، توحي لمن يراها بأنهُ وسط الأعماق يجمعُ اللؤلؤ ويسابِق الأمواج ، وعلى الجهتين تجدُ المحلات والفنادق والمطاعم التي يزخرُ بها الكورنيش في صورةٍ تغنيك عن الحَديث وتغريك بكتابةِ ما يدور في خلجات نفسك.
تجاوزنا قصة الشرطي والفَتاة وقررنا تناول الشاي فلم يكن لدي خيار إلا أن أعتمد قرار زوجتي بتناوله في المقاهي البسيطة رغم إلحاحي على تناولها في (تاهيتي) أو تروبيكانا ..!
ولم أجد إلا أقدامي تُدغدغُ الطريق إلى (مقشدة الأمواج) التي لا تبعدُ عن فندق السويس إلا بضعة أمتار، سألتها لماذا قدمنا إلى هُنا ؟
قالت : لحاجةٍ في نفس يعقوب !!
الهواء يتسابق لدخول رئتي وكأنهُ يبحث عن ملاذ والعكس صحيح !
فأنا من أعيته أتربة الأجواء وأدخنة المصانع بالمدينة ومن امتلأت رئتيه بشتى أصناف المواد الكيمائية ، أخذتُ استنشق الهواء بعنف ونشوةٍ عارِمة وعلامات الاستغراب تتجلى على ملامح زوجتي ، قالت : [ مصطي وحق الله ] ..!
الهواء مجاناً يا قَلبي فما الأمر ؟
الكحلا !!
والسكر قليل
وقطعة كعكٍ
محلى..!
وكوب ماء
بلون السماء..!
آهٍ يا كازا..!
ما زلتِ في قلبي
الأغلى..!
ما بينَ همسات المحيط وعَبق الدار البيضاء تكونُ النفس متأرجحة ، تحدوها آمال البقاء لمدة أطول في هذهِ النواحي ، بدأ النوم يدبُ إلى أجفاني والعينُ لا تُشاهدُ إلا أطيافاً أمامها ، قررنا العودة إلى المنزل بعد محاولات جاهدة مني باقناع (الداخِلية) واعتماد أوراق القَرار
في الطَريق غيرت وجهتي ودخلتُ المدينة القَديمة نحو تلك المخبزة التي حفظتها عن ظهر قلب
و اصبحتُ مشهوراً لدى العاملين الذين يدركون عشقي لما يقدمونه ، والغالب لأني اشتري اغلب الكعك الموجود لديهم حتى أن أحد الموظفات قالت : ما شاء الله دامت الأفراح !!
كل يوم (طورطه) وكل يوم حلويات ،و يا ليتها تعلم بأن الكعك لتوقيع هدنةٍ مع زوجتي أثناء خِصامها
والآخرى لتسوية الأوضاع
كيف السبيلُ إلى رضائهن أخبروني ؟
كانت زوجتي في المركبة وتأخرتُ عليها في خضم الحديث مع الموظفين وما أخرني هو وجود أكثر من نوع لذيذ للكعك مما دعاني إلى استشارةِ إحداهن في المخبزة .
اتصلت (الداخلية) وأخبرتها بأني خارج الآن ..!
بعدما أخذتُ الكعك وصعدت المركبة رغبتُ في زيارةِ تلك (الزنقة) التي طالما داعبت الكُرة مع ابنائها وتبادلنا الذكريات تحت المَطَر ، استغربت زوجتي من دخولي الزنقة وسألتني ما الأمر ؟
قلت لها : زيارة خاطِفة لذكرياتي فقط !!
ردت بتعليق طريف في قولها : مُرشد الدار البيضاء الجديد ساري !!
وقفتُ عند ذلك البقَّال ونزلتُ لشراء الجبنةِ الصفراء التي اعشقها بجنون وسلمتُ على حُسني
فأخذني بالأحضان قائلاً : فين هاد الغبور يا صاحبي !!
وأخذ يعاتبني وشعرت بأني افتقدهم فعلاً فلقد مرت فترة طويلة لم آتِ إلى هذهِ الزنقة..!
اشرتُ إليه بيدي بأنها مُصفدة مما دعاهُ إلى فهم الإشارة
إشارةً إلى عُش الزوجية فأخذ يدعو لي بالتوفيق والبركة وكل خَير وأصر أن أزوره أنا وزوجتي في منزله لاحقاً ضحكت وقلت له : لا تدع حزب النساء يتكاتف ضدنا فنكون أنا وأنت خارج الحسابات !!
في الطريق إلى الحَي
الزحام شديد جداً خصوصاً قُبيل الزوال تكون البشر متأججة والشوارع مُتخمةٌ بالسيارات
وتكادُ أن تغص بهم الأرض فهنالك لا يشغل بالك إلا الزحام الفظيع الذي يبعثُ اليأس في نفسك
لكنها فرصتي لإلقاء نظرة على الطَريق والمقاهي المنتشرة على الأرصفة .
إذا ما رأيت باب المدرسة الثانوية القريبة من الحي فاعلم بأنك في قلب الحَي ، خرجت وفود الأطفال من الحَي الذين حفظوا لون السيارة وعرفوني
ينادوني سي أحمد !!
وأنا اسمي ساري ، لا اعلم إذا ما كان اسمي صعب النطق لكن لا بأس فوالدي " أحمد" والعتب كله على ابنة عمة زوجتي هي أول من كانت تناديني بـ سي أحمد !!
كنتُ أوزع الحلويات والسكاكر على الأطفال في الحي سابقاً لكني اليوم لم أجلبها فلقد غابت عن بالي ونسيت الأمر عن بكرةِ أبيه !!
لم يدع لي النوم مجالاً أبداً في الاستمتاع بأحاديث ومقالبِ (مروان) الذي يزورنا باستمرار ، مروان ذو الـ 12 عام
يذكرني بطفولتي إلا أنه يتفوق علي في الشقاوة والمقالِب ، وعدتهُ بأن اذهب معه إلى الملعب !!
لحضور مباراة الرجاء والوداد ..!
سأحدثكم لاحقاً عن مجريات هذهِ المُباراة والأحداث التي رافقتها ..!
استيقظتُ والأتاي معلقٌ في رأسي ، ارغب بتناوله وتعديل المزاج والهُروب من المنزل ، ولكم أن تتصوروا الهُروب لإشعال سيجارة !!
كيف لا وأنا لم أشعل واحدة ، فحزب النساء المُعارض وخالتي أيضاً تمنع التدخين ولا تطيق رائحته ( لا أحد يطيق رائحته نهائياً) نسأل الله السلامة وأن يتوب علينا .
خرجتُ من الدَّار وقابلتُ الجاَر
إنهُ أبو (شعيب) ، الأربعيني مفتول العضلات طويل القامة ذو الابتسامة البريئة المتأصلة من جذور الزمن الأصيل
و خفة دم لا تضاهيها أي روح عرفتها ، ولسان متقد ومرطبٌ بالذِكر والاستغفار.
قال : لا سَلام ولا كَلام على المُدخنين ، تقفُ خارج المنزل وتشعل سيجارتك ، والله لقد رحمتك ولقد أرهقت نفسك صعوداً ونزولاً ..!
( بإمكاني أن اشعلها في المنزل لكن لا أحد يرغب في إضرار أحبته علاوةً على ذلك الروائح التي تُنفر البَشَر)..!
أبو شعيب ما رأيك أن نخرج في نزهةٍ قصيرة على الأقدام في الحَي ؟
أشار بالإيجاب ورحنا في جولةٍ سريعة على الحَي ، وكأس الأتاي والسيجارة في يدي !!
لكني ألقيتها وأعدتُ الكأس ووضعتهُ على (عتبة الإقامة) ، بعض العادات تبقى معنا إلى الأبد
يقولون بأنهم سيفرغون بعض الإقامات يا أبا شعيب ؟ أ حقاً ؟
نعم يا صاحبي لإن مالكة الأرض تُريد أرضها !!
لكن يا أبا شعيب العوائل هذهِ لها 40 سنة أو أكثر و !!
يا صاحبي دعنا لا نتحدث في هذا الأمر لأني كلما سمعته انفجرت غاضِباً !!
هل هنالك تعويضات يا صاحبي ؟
الله يرحم ليك الوالدين ما تفتح الموضوع تاني !! هكذا قالها صاحبنا !!
وإلى (الحانوت) اتجهنا وأخذتُ بطاقة شحن بعد أن قلت للبقّال : اتصالات المغرب أغلى اتصالات في العالم !!
ورسومها مرتفعة حتى في العلبة الصوتية !!
الأعينُ كُلها تتجهُ نحونا ونحنُ في الأزقةِ نطلق ساقينا للريح ، والبعضُ يكادُ أن يلتهمك بنظرته أو حتى يطلق كلمة لتخرج عن طورك وتبادله الكَلام والبعضُ يحترمُ الجَميع ولا يفرق بين أحد ، كانت الأحاديث متشعبة لدرجة وصولنا إلى نهايةٍ مفرغة وحلقة مفقودة ، أبو شعيب مُصرٌ على تناولي العشاء برفقته ، وحينما لاحظت اصراره ازداد تذكرتُ صاحبنا (حسني) الذي دعاني إلى حضور العشاء في منزله ، الكَرم والجود يبقى في كل القُلوب الندية النقية.
اعتذرتُ لأبو شعيب وشرحتُ له السبب لكنه قال : مساء الغد العشاء لدي في المنزل فلا تظن بأنك ستهرب أو تعتذر ، حسناً لك ذلك .
عدتُ إلى المنزل وسمعتُ الضجيج والضوضاء ، دخلت فإذا بعمة زوجتي وأبنائها (العواصف) الطفولية والأعاصير ذات المقالب ، أهلاً بمن زارنا في دارنا .
لم أطل الجلوس في المنزل وخرجتُ للاتصال على سعد والإطمئنان عليه في أزمور أو الرباط ، حينها لم أكن أعلم أين وصل .
حدثته وقال بأنهُ في أزمور الآن والأجواء لا مثيل لها وأروع من الروعة وكل يغني على ليلاه !!
(وكاد تزورني ولا تقاطعنا ترانا نحتريك و جاي ولد خالي في الطريق بعد يوم )
هذهِ كلماته التي قالها قبل أن يغلق الهاتِف .
اتصلتُ على زوجتي وقلتُ لها : ما رأيك لو تناولنا العشاء خارجاً هذا المساء ؟
( طبعاً كنت قاصداً كي تقول لي زوجتي : إن عمتي لدينا ولن أخرج )
قالت : نعم سأخرج معك فعمتي لن تطيل المكوث وستدع مروان معنا فقط
لا بأس لكني سأنزل مروان في منزل جدته وأذهب أنا وأنتِ !!
وإذا عدنا قبل الساعة العاشرة بإذن الله سأخذه معي إلى عين الدياب فيوم غد إجازة ولا مدرسة لديه هذا هو الرأي الآن .
ماذا تقول يا مراون ؟
لكن أمي ذهبت ولن أستطيع الذهاب إلى جدتي !!
سأوصلك فلا تقلق ....!
اصعدي يا مُقلتي واستعدي للذهاب إلى العَشاء فلا أريد التأخر على صاحبي ( وسط صمت وذهول من مروان)
استراحة ..!
فِي دُرب عُمر هُنالك العجائب التي لا تنتهِ وكذلكَ في شارع للا ياقوت علاوة على "سيدي مومن" والمارشيه و زنقة ابن بطوطة ومحج الحسن و سباته ، حتى مقبرة الغُفران مررتُ بها ..!
وقصص حقيقية أقربُ للخيال مررتُ بتجارب عديدة جعلتني أعيش الواقع عن قُرْب وحقائق أدمت قلبي وزادتني عشقاً للمغرب ..
سأتفردُ بكل موقعٍ بعد أن أكمل الأحداث تِباعاً..!
لكن تبقى مواقِفُ " مقبرة الغفران" في الذاكِرة و شارع للا ياقوت
سأتجاوز الحديث عن العشاء لدى صاحبي حسني وأدخل في تفاصيل ما ذكرته أعلى
لنبدأ بشارع للا ياقوت ..
هذا الشارع الصاخِب المزدحم بشتى أنواع البَشَر المرصوف بالمحلات التجارية والمطاعم والمخابز يمتازُ بحيوية وحركة دائمة و أغلب المباني التي فيه مبنية على الطراز الفرنسي العَتيق ، به العديد من البنوك الكائنة على يمين وشمال الطَريق كذلك محلات أخرى كالمقاهي والفنادق الصغيرة .
عقاربُ الساعة تُشيرُ إلى التاسعة مساءاً وبرفقتي شقيقي سعد الذي عاد سريعاً من جولته الخاطِفة إلى أزمور
والجوع يقتلنا تارة ونقتله تارة ، قررنا الوقوف عند [ سناك كويكي ] القَريب من بعض المقاهي الصغيرة ، ويقبع خلفه [ سناك البحار ] الرائع المُلبد بغيوم دخان الشواء وروائح السمك التي يُبدع فيها بصورة خيالية .
كانَ بائع السجائر واقفاً أمام السناك يخاطبُ إحداهن بفظاظة وهي لا تلقِ له بال ولم تخاطبه ، أشار شقيقي إلى هذا البائع وإلى الفِتاة وهمس في أذني : يجب أن نعود قبل أن تشتعل الحَرب ..!
لا شيء يعدل طعم كُفتة أبا محمد أبداً في للا ياقوت والتي أصر دائماً على تناولها باستمرار ، تناولنا الطلب وسرنا باتجاهِ موقف سيارتنا بالقربِ من فندق " ماجستيك" وكنا نسمع خُطوات سريعة خلفنا وأنفاس مضطربة .
افترقنا أنا وسعد ومشينا متباعدين لنسمح للمارة بالعُبور لكن كانت المفاجأة بوقوفِ تلك الفتاة بيننا !!
اعوذُ بالله من الشيطان ، لا حول ولا قوة إلا بالله ( خير اللهم اجعله خَير ).. في نفسي كانت تلك كلماتي
سلمت علينا وردينا السلام ، قالت : هل أنتم غُرباء عن المغرب ؟
هل هذهِ أول زيارة لكم ؟
والعديد من الأسئلة .. قلت لها : لا أحد غريب في المغرب وليست أول زيارة وشكراً لاهتمامك..!
بدأت تُثير غضبي وبدأتُ افقد أعصابي وسعد لم يحرك ساكناً على غير عادته ،سألتنا إذا ما رغبنا في تناول القهوة
تأففتُ منها وطلبتُ منها برفق الانصراف !!
لكنها مُصرةٌ على ما يدور في نفسها ..!
طلبتُ من سعد بأن يأخذ العشاء ويضعهُ في السيارة لأنهي المسألة الشائكة العالقة مع هذهِ الفَتاة الغريبة الأطوار ، وتبعت شقيقي حتى بلغ السيارة !!
لم استطع أن أناديها فإني خشيتُ أن يجتمع حولنا الناس وتصبح كارثة في وسط الشارع المختنق ..!
التفتُ إلى الوراء فإذا ببائع السجائر يقتربُ هو الآخر !!
ما القصة يا تُرى ؟
هل هنالك شيء خَلف هذهِ الكواليس ؟
أم إنه سيناريو يُحبك بطريقة احترافية ؟
لا شيء في ذهني سوى الخروج دون ارتكاب أي حماقة أو اشعال فتيل المشاكل .
اتصلتُ على [ عبد الرحيم ] وطلبت منه القدوم إلى شارع للا ياقوت ومن حسن الحظ بأنهُ كانَ قريباً جداً لتواجده مع صديقه في المدينة القَديمة .
عاد شقيقي وأخذت تلك الفتاة تتحدث معه وأخي واقف بكل برودة وبائع السجائر يتحين الفرصة للقيام بشيء لا اعلمه ، لكني جلست على أحد المقاعد القَريبة [ بالمقهى ] الذي خلفي وانتظرت الحديث الطويل بين شقيقي وتلك المأسأة التي تتحدث إليه ..!
قدم عبد الرحيم وبرفقته [ سفيان ، سيمو (محمد) و محسن ] ، اتجهوا مباشرة إلى الفَتاة وابعدوها عن شقيقي
وهو يبتسم ويقول لهم : لا بأس دعونا نرى النهاية فقط !!
ازداد العدد وتجمهرت الناس من حولنا ، إنها مصيبة لو حدثت مشادة كَلامية أو ارتفعت الأيادي !!
دخل سفيان على الخط الساخن مع شقيقي وقال له : هيا بنا إلى أقرب مقهى لنرى ماذا لديها ؟!
وفي ترددٍ مني طلبت من سعد أن يصعد المركبة لكنه أبى وقال : أريد معرفة النهاية أنا هنا في كازا وأريد معرفة النهاية ..!
دخلنا المقهى ونحنُ مجموعة وطلبنا القهوة للجميع فيما انتظر بائع السجائر بالخارِج !!
كانَ للمقهى باب آخر من الجهة الخلفية وطابقٌ علوي أيضاً ، أمرتُ (أبناء الحي المحمدي) بالخروج فرادى و تفادي عقبات هذا الموقف ونظراً لعناد أخي فإن المسألة قد تطول ولقد أعطيت عبد الرحيم مفتاح السيارة ليأتي إلى الجهة الأخرى من المقهى وبالتحديد عن مواقف (الدراجات النارية) قبل زنقة الديوري..
أخذت تشرح الفتاة وضعها وبأنها محتاجة للمال لتساعد والدتها وبأن المسألة كلها مبلغ بسيط للأدوية ، طلب سعد أن تعطيه الفتاة الوصفة الطبية لشراء الأدوية ، هنا عقد لسان الفتاة وتلكعت !!
إلي بالوصفة وإلا اتصلت بالشرطة السياحية !!
تغيرت ملامحها لفترة بسيطة ، ثم قالت : إن بائع السجائر هو من قال لي كي أوزع المبلغ بيني وبينه !!
فلا تأخذكم بي الظُنون ولقد هددني أكثر من مَرة.
( كيف مر الموقف أمامي أول مرة حينما كان يخاطبها ذلك البائع بفظاظة وكيف ابتلعتُ أنا الطُعم)
أحياناً تخوننا الخِبرة لإن هذهِ الأمور لا تكون عن خِبرة بل تكون عَن دِراية بشتى تفاصيل البَشر والتي نعجز تماماً عن قراءة أي تفاصيل سوى المظاهر .
لكني مستغرب من كلام شقيقي الذي كانَ لا يرغب في اشتعال هذهِ المشكلة وكيف لم يتعامل مع الموقف ؟
وهو الذي لا يريد أي صداع يؤرق رأسه ؟
هل كان حديثه معها مماطلة لبائع السجائر أم قاده حدسه إلى معرفةِ بعض الأمور ؟
عادَ عبد الرحيم إلى نفس المقهى بعد أن تأخرت في الاتصال عليه وبرفقته مجموعتنا البيضاوية
بدأت الألفاظ النابية تخرج من البائع و حمي الوطيس !!
وراح الكل في صِراع ، وظهرت مواهبهم المدفونة من ركل ولكم وألفاظ غريبة جداً تتخطى كل مقاييس ادراكي للهجة المغربية .
ما إن قدمت الشرطة حتى لاذ الغالبية العظمى بالفِرار وسط ذهول ودهشة اعترت الجَميع
أحمد الله بأن نجانا من قبضتهم لكنهم أخذو عبد الرحيم و سيمو وسفيان وبائع السجائر والفَتاة
اتصلت على عبد الرحيم وقال لي : بأنهم في قسم الشرطة السياحية القريبة من محطة القِطار !!
وطلب مني عدم الحُضور نهائياً لئلا أكون فريسةً سهلة هناك في القِسم.
وبين مطرقة الحيرة وسندان الدهشة طحنَ تفكيري وشُل كل شيء في ذهني وكيف اسمح لنفسي بتركهم في القِسم ؟
نصف ساعة بعد الاتصالات عادَ إلينا عبد الرحيم وكنا قد اتجهنا نحو الحَي وبالطبع لم نخبر أخته [ زوجتي ] لأن القيامة ستقوم ولن تقعد أبداً ..!
كيف تخلصتم من الموقِف ؟
قال : بائع السجائر عليه سوابق عديدة والفتاة مشتركة معه في النصب والاحتيال ولحسن حظكم بأنكم السبب الكبير للقبض عليهم .
مصائبُ قوم عند قومٍ فوائد !!
سفيان في التاسعة عشر من عمره طويل القامَة شديد البَياض يذكرك بأهل الحُسيمة عيناه ذات طابع حاد ومزاجهُ يغلي وانفلات أعصابه أسرع من البَرق !!
سيمو اصغرهم ذو الثلاثة عشر رَبيع !!
يُشبه اللاعب المغربي مروان الشماخ كَثيراً ولديه علامات فارقة في ملامحه (حصاد العراك في الحي )
أما عبد الرحيم فبين الطول والقصر وعريض المنكبين لسانهُ لا يشق له غبار في ساحات الوغى (ساحات الحي المحمدي والقيسارية) لا يلق لأي شيء بالاً ولا يفكر في النتائج ولكم أن تتخيلوا اجتماع الثالوث هذا !!
أبسط تعبير للحال الذي يمرُ به الشباب العاطِل عن العَمل في شتى أنحاء الأرض ، في الأحياء الشعبية تكدس العاطلين والبطالة في أعلى مستوياتها تجعل الكثير من أبناء الحَي يقدم على افتعال المشاكل أو القيام بأعمال أخرى ولنا في كل دولةٍ مثال وهذا أمر عالمي وليس حصراً على أي دولة .
فلم الرعب يبتدأ حينما تتجه إلى "سيدي مومن " بالقرب من القُنطرة !!
بالتحديد ما بين إقامة الكوثر والجَوهرة ..!
لن أتعمق ولن اتغلغل كَثيراً لكن زيارتي الأخيرة كانت مفارقة عجيبة في السفر إلى المَغرب !!
ولا يخفى عليكم كثرة الأصحاب والمعارف في ذلك الحَي فهنالك [ مُراد و محسن و كَريم و محمد ]
وأنا على معرفةٍ تامة بهم جميعاً وأزورهم جميعاً ونجلس سويةً في كل مكان إذا ما حانت الفرصة ، وأقربهم إلي مُراد الذي كان يرافقني مع سعد دائماً ووالده في سلك الشرطة
أما محسن فهو من رجال الدرك وكَريم صاحب عقار ومحمد (فيدور سابِق)..!
حينما ذكرت هذهِ الأسماء والأوصاف لأحد الإخوة قال : مجنون في أعلى قمم الجُنون !!
اسمٌ يُثير الدهشة في الأذن ، يبعث البهجة إلى القلب فتنصاع له كافة الحواس الخَمس ولا عجب !!
فالنجمةُ على علم المغرب لها خمس زوايا !!
إذاً فالمغرب الحواس الخَمس للدنيا !!
من لم يزر المغرب لم يسافر أبداً ..!
تشدك معالمه من تلابيبك تحتضنك الجِبال ، يداعبك الربيع ويطربك المحيط الأطلسي ، تغريك جبال الأطلس تحرك بك كوامن الفضول للاستطلاع.
يُعقد لسانك لفرط الدهشة حينما تجد التناغم الرهيب في تفاصيل هذا البلد .
وبين الحقول تأخذك النسمات تحملك فوق بساط الريح لتجعلك تعانق ذرات الجمال.
وإذا ما كنت محظوظاً فإنك ستزوره كل عام فالبعدُ عنه صعب جداً .
الدار البيضاء :
قلب المغرب الاقتصادي النابض ، صاخبةٌ دائماً هذهِ المدينة ، تفرض عليك الانصياع لضجيجها وتجبرك على احترام ثرثرة طرقها العامرة بالبَشر.
هي قبلة العشاق التقليدية .
لاحظتُ بأن الكثير من عشاق المغرب لا يحبون الدار البيضاء ولا يمكثون بها طويلاً بل لا يكاد أحدهم أن يصل إليها حتى يحزم حقائبه مغادراً إياها باتجاه مُدن أخرى وللناس فيما يعشقون مذاهب.
عن نفسي لا حاجةَ لي بسرد تفاصيل عشقي للبيضاء ، لكنها باختصار [ بوصلتي في محيط الجنون ]
أحب كل شيء بها .
في المدينة القديمة تجد الجمال المضمخ بالأصالة ، تشاهد المباني القديمة فتشعر وكأنك في القرن الماضي ومزامير السيارات وصراخ البَشر وخطوات العابرين في الساحات !!
كل شيء يتحرك ليل نهار .
الأسواق والمحلات كأنها عَناقيد متدلية من عنقِ الدار البيضاء ، تجمعُ في الغالبية العظمى هُنا أغلب ما تبحث عنه ، والأصوات لا تهدأ ونار الضجيج لا تخبو ، كانَ مروري سَريعاً لدرب عمر حيثُ كانَ بيني وبين أحدهم موعداً لكراء سيارة لشقيقي .
ظَهر لي رجل ممتلئ الجَسد غليظُ النظرة في وسطِ الطريق ، سألني إذا ما كانت لدي بعض السجائر !!
لكني تفاديته واعتذرتُ منه بأني لا أدخن !!
عادَ إلي قائلاً : أنت تُدخن رأيتك ليلة الأمس في عين الدياب !!
هل يتحاذق هذا الرجل أم ماذا ؟
وما شأنك أنت ؟
أدخن أو لا أدخن ما هي قصتك ؟
انظروا كيف استطاع هذا الرجل أن يجعلني أثورُ بغضبي في ثواني بسيطة ...!
على العُموم لقد رأيتك ليلة الأمس برفقة " محمد رمضان " !!
محمد رمضان !!
وما شأنك إذ رأيتنا معاً ؟
شعرتُ برغبةٍ جامحة لافتعال مشكلةٍ معه ولستُ أبالي بالنتائج لكني تمالكت نفسي لئلا أقدم على شيءٍ عواقبه وخيمة.
قال لي : هل ترغبُ بسيارةِ أجرة ؟
أو شقة ؟
أو أي شيء !!
وفر على نفسك خدماتك يا صاحبي فلستُ بحاجةٍ لأي شيء شكراً لك.
فأخذ يرسل سيلاً من الشتائم والاتهامات لأهل بِلادِي وأخذ يقدح في أبناء وطني حتى أنه تطاول في حديثه وتمادى كثيراً و حتى أبناء بلاده اتهمهم بأشياء يندى لها الجَبين وبأننا جميعاً " نأتي للبلد لأهداف " أخرى
و زعم بأنهُ يعرف تفاصيل كل شيء وعن النوايا .
عَجَبي !!
اطلع الغيبَ أم عنده علمٌ لا نعلمه ؟
هل رأيتَ ما في القلوب ؟
ولماذا هذا الأسلوب الهمجي "الغجري" في التهجم والتهكم والقذف ؟
حذرتهُ من مغبةِ التمادي في الحديث والاتهامات الباطلة وأن يتقِ الله في نفسه فلستُ أنا بالذي يأتي إلى المغرب ليقدم على ما ذكره من اتهامات واجحافات باطِلة !!
ثم صرختُ في وجهه : إن كانَ لك حق فخذه بيدك ممن أخطأ بحقك وسبب لك ضرراً أما أنا فلست أبالي بك و بأي من كان !!
( محمد رمضان معلق رياضي مشهور وقديم في بِلادي ، قابلتهُ في الدار البيضاء وجلسنا سويةً لمدة طويلة وترافقنا في أغلب النواحي كانَ يبحثُ عن رفيقٍ له واجتمعتُ به في مقهى الزهور ، استفدتُ من خبرته الطويلة جداً في المغرب حيث مضت عليه 30 سنة وهو يزور المغرب )
بعد أن ضاقت به كل الحيل وتاهت به السبل حاولَ إيجاد كذبة أخرى أو حبك رواية جديدة ، ولا أخفي عليكم أمرا بأني اصبحتُ مستعداً لسماعه وهو يتحدث ؛ كيف لا وأنا اقضي وقتي دونَ رَفيق !!
روى صاحبنا هذا بأنه يطالبُ (محمد رمضان) مبلغ 500 درهم نظير إيصاله إلى الفندق بسيارة الأجرة !!
500 درهم يا رجل !!
لماذا من أين قدمت به ؟
إذا كانَ المطار مشواره لا يكلف هذا المبلغ ؟ فلماذا الخمسمائة ؟
قال كلا !!
من عين الدياب إلى الفندق !!
يا إلهي !!
هل اصبح مشوار الـ 18 درهم بـ 500 درهم ؟
(18 درهم من المدينة القديمة إلى عين الدياب بالقرب من فندق رياض السلام) !
يا رجل اتقِ الله في نفسك وحاول تمرير هذه الدعابة على شخص آخر !!
عزيزي لقد سعدتُ بالحديث معك رغم فظاعة ما ذكرت وأقوالك القاسية لكني استفدتُ كثيراً ولا يخفى عليك بأن جنوني ازداد في المغرب أكثر وأكثر فشكراً لك ، وقتي ثمين وأرغب في الاستفادة منه ، واعذرني على أسلوبي الجاف معك !!
لكن !!
لا تعمم النظرة وتحكم على المجتمع ، في أمانِ الله !!
وقبل أن أنسى !!
لا أظنُ ولا أعتقد ولا أتوقع نهائياً بأن محمد رمضان سيبخسك حقك ، فهو رجل كريم معطاء لكن لا تبالغ في الأمور
وحدِث العاقِل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل له !!
في الطَّريق كانت أنغام (يوم يشبه يوم حياتي هادي..حياتي اللي تمنيت ماشي هادي) للداودية ترافق مسمعي
وصاحبكم مندمج مع الأغنية التي وجدتها في الإذاعة بالصدفة ، مررت بالعشق الأزلي (المدينة القَدِيمة) واتجهت إلى المخبزة وأخذت ما كانَ يدور في نفسي (كراوسان بالشوكلاته وفطائر أخرى).
ولأني "عميل" دائم و "مميز" لديهم فإن السعر يكون أرخص بكثير !!
والسبب بسيط جداً !!
لم تتبق كعكة " طورطة" كبيرة أو صغيرة إلا واشتريتها وكافة الأنواع جربتها
علقت إحداهن مرة قائلة : اعتقدُ بأن الحفلات في البيت كثيرة !!
فأجبتها : ما دمتُ في المغرب فالسعادة لا تفارقني وكل يوم لدي "حفلة" و "كرنفال" عائلي..!
الله يسعدكم ويوفقكم .. هكذا كانت دعواتها.
[ الدار البيضاء عشقها يُدمي الفؤاد يجعلك تكتب بالدمع المِداد ، مدينةٌ حالمة هائمة عائمة وكل ملامحها عروس في ليالي الأعياد ]
أخذتُ شقيقي واتجهنا إلى [ مكتب اتصالات المغرب ] الكائن في "موسى بن نصير " وما أن داعبت قدمي المكتب حتى وجدت الحشود المتجمعة بالداخِل ، أخذني الفضول فرحت أشاهد العروض الموجودة على زوايا المكتب الصغير وما أطول الانتظار..!
وحينما أتى دوري قدمتُ ورقة "الرقم" للخدمة وشرحت المشكلة التي سرقت النوم من زوجتي !
حيث تقول حفظها الله : كلما اشتريت رصيداً للجوال لا تقبل العملية وتذهب الأموال سُدى !!
ورغم دفاعي المستميت عن الاتصالات " ليس حباً بالاتصالات" بل ذريعة للهرب من الذهاب إلى المكتب
إلا أنها اصرت على ذهابي ومعرفة الوضع ، شرحت الأمر للموظفة فقالت : اتجه إلى مكتب الاتصالات القريب من "التوين سنتر" فهنالك سيقدمون لك الخِدمة ..!
وليس التوين سنتر ببعيد وماهي إلا إشارة ضوئية واحدة تفصلنا عنه فقررنا الذهاب على الأقدام حتى بلغنا المكتب ، لكننا دخلنا المكتب مهرولين ومسابقين المطَر لإن المطر اغرقنا في الطَّريق.
شرحت الموضوع للموظفة واكتفت بابتسامة عريضة قائلة : هنالك خلل في النظام وبالغد سيكون الوضع سليماً !!
أيقنتُ بأن جميع شركات الاتصالات في العالم هدفها "ربحي" وليس خدمة العملاء كما يدّعون..
خرجنا من المكتب وإذا بأطفال متجمعين أمامنا ، ذلك يبتسم والآخر حزين وطفلةٌ صغيرة أمسكت بيدي حتى انفطر قلبي لنظرات البؤس ، قلت لهم أمهلوني دقائق فقط وسأتيكم بالحلويات .
مؤلم هذا المنظر حتى وإذا ما كان البعضُ غير محتاجاً أو متمرساً لهذهِ المهنة لكني لا استطيع مقاومة حزن الأطفال أبداً ..
طلبتُ من شقيقي أن يذهب إلى "أسيما" الكائنة بداخل التوين سنتر في الطابق الأرضي لإحضار بعض الحلويات والشوكلاته ، وانا انتظر والناس تشاهدني والأطفال من حولي ، والمزاح فيما بيننا قائم ولا شيء يعكر الأجواء ، الهاتف يرن !!
إنها "زوجتي" ، أجبتها : أهلاً "قلبي"
فسمعتني الطِفلة وقالت : أهلاً يا عمري !!
ضحكت بصوتٍ مرتفع ، لكن المصيبة أن زوجتي سمعت الطفلة وهي تقول : أهلاً يا عُمري !!
قالت زوجتي : من هذهِ التي تقول لك أهلاً يا عمري !!
إنها طفلة صغيرة تتغزل بي
لم تطل المحادثة و أشارت بأنها ستذهب إلى منزل خالتها في " القُدس " ، فأجبتها : لا بأس حفظكِ الله.
قدم شقيقي وبيده الحلويات والشوكلاته وقمنا بتوزيعها على الأطفال فعمت الفرحة ملامحهم جميعاً ، وسألت الطفلة الصغيرة : من أين تعلمتِ هذهِ الجُملة ؟ أهلاً يا عُمري؟
قالت : مسلسل يعرض في التلفاز "خليجي" وحفظت الكلمة ، المدهش بأنها استطاعت أن تقولها في وقت حبكت به الجملة وخرجت موافقة للموقف !!
أتت مجموعة من الفَتيات ثم سألنني : هل سبب الأطفال لكم ازعاجاً ؟
ابتسمت وقلت : كلا إنهم ابنائي وفلذات كبد هذا البَلد وليس ازعاجاً بقدر ماهو كَرمٌ منهم ، شكراً لك.
إن من يشاهد التجمع يخالنا في "مدرسةٍ ابتدائية" أو في رحلةٍ مدرسية ولست ألوم أيا من كان لو سألنا عن هذا التجمع .
[ حاولت الهُروب من الدار البيضاء لكني وجدتُ نفسي متعلقاً بها لدرجة أني أجوب المدينة سيراً على الأقدام وأتلذذ بالجلوس في الأماكن البسيطة الشعبية دونَ خوفٍ أو حَذر و دون إهمالٍ أيضاً مع الاكتفاء بالعبور السريع الخاطِف ، آهٍ يا كازا !! لو كنتِ بشراً لطلبتِ مني التوقف عن حبك لإني أدمنتكِ حتى النخاع ]
[ مَوطِنُ الأحرار خلدتك في قَلبِي دَهْراً و غرستك بالفؤادِ زهراً ، لو كتبتُ عنك كل المشاعر وكل الأحاسيس لما بقي لدي حِبراً ، حينها سأكتبُ بالدم عشقك يا مغربنا وسأدمي العينَ بكاءاً وسَهراً ]
مَن مِنكم مَر بهذهِ السَّاحة ؟
من منكم تناول القهوة في ذلك المقهى البسيط ؟
وجلس أمام تلك الحديقة الصغيرة التي بالكاد تُسمى حَديِقة ؟
هل رأيت البَساطَة في هذهِ الساحة ؟
هل تجولت بسرعة بها ؟
تشعرُ وكأنك في عالمٍ آخر ، وترى بعض المحلات المتراصة المتلاصقة ، كأنكَ خرجت من المَدنية وسافرت إلى سطح الخَيال !!
مررتُ بهذهِ الساحة مع " عبد الرحيم " وشربنا القهوة ومرة مع زوجتي !
أخذني الحَنين ذاتَ مساء إلى زنقة ابن بطوطة وما جاورها ، اشتقتُ لمتابعة أبناء الحَي وهم يلعبون الكُرة
اشتقتُ إلى كل الأصحاب ، إلى كل الوجوه التي شاهدتها والتي تدخل البهجة إلى قلبي كلما رأيتها !!
تكفيك ابتسامة إنسان أحياناً لتدفعك إلى الأمام بل وتجعلك تكتبُ الشعر والنثر وتسطرُ أحرفا تنبعُ من قلبك .
عرجتُ على الزنقة ثم مررتُ بعبد الكَريم الديوري واتجهتُ إلى نهايةِ الشارع ، ومن يراني يقول عني : مجنون يقطع الشوارع ذهاباً وعودة !
"سعيد "
القادِم من مراكش صاحب " البقالة" الصغيرة أقول له : اشتقتُ إليك يا صاحبي !!
واصبحت الزنقة من بعد رحيلك "أطلالاً " !!
" كَريم "
يا مدمن البيتزا كم تتوق النفس لجلسةٍ بسيطة معك وتناول الأتاي في مقاهي المدينة القَديمة .
" حَسن "
هل تذكر إدماني للجبنةِ الصفراء ؟ وتلك المجنونة التي أقدمت على فعلتها وأنا بداخل البِقالة ؟
هل تذكر ذلك "الخارج عن الخدمة " الفاقد عقله جراء شربه المُحرمات؟
حينما قال : أريد بيضة !!
وكسرها على الرف !!
يظنها بيضة مسلوقة !!
بل كان يظن بأن الحانوت " محلبة " !!
أم محمد !!
اشتقتُ إلى قراءة الصحف كل صباح ، افتقدني كثيراً يا خالة ، لم يعد للصحف طعماً من بعدك
هل تذكرين ؟ حينما كتبتِ لي أوقات الصلاة في وريقة لا تكاد أن تُرى ؟
وأشرتِ إلي بأن اقرب مسجد يكون في [ 11 يناير ] !!
وبأن هنالك "صاحب المسمن" الأسطوري ؟!
" نعمان "
" حسني "
" مصطفى "
"رشيد "
تركتم المدينة القَديمة وخرجتم بعيداً ، وظلت ذكرياتي تطاردني إلى تاريخ كتابة هذهِ الثرثرة !!
[ ذكريات تتأجج وكأن أراها تعود ، فعلاً لقد اشتقتُ للمدينة القَدِيمة ]