براغ ربما كوريّة .. وربما يابانيّة

nanaa

:: مسافر ::
8 ديسمبر 2018
1,002
0
0
40
ألصقتُ وجهي بنافذةِ القطارِ المتسخة قليلا .!!



تحرّك القطارُ ببطء .. ربما ليمنحني فرصة أخيرة ..!



ودّع مدينتك أيها الغريب .. فلربما لا تلتقيان .!!


تجاهلتُ وصاياه السوداء .. ونبرته الخبيثة .!!


أظنّنا سنلتقي .. قالت لي ميونخ بلا يقين .!!


لكنّ ذلك اللايقين في صوتها .. يقين .!!


لكنّي .. ودّعتها كنوع من الاحتياط .. فمن يدري .!!


وسمعتُ ضحكات ذلك الهاجس الأسود تتردّد في جنباتِ هذا القطار الذي لا أذكرُ اسمه .. ولا لونه!!


على الكرسي المقابلِ فتاة صينيّة ..


ربما كوريّة .. وربما يابانيّة .!! وجهها صالح لأن يحمل ثلاث جنسيّات دفعة واحدة .. وربّما أكثر .!!


تبدّلتِ الوجوه طيلة ست ساعات ..! كنتُ في الطريقِ إلى براغ .. هل قلتُ لكم ذلك .؟!! تبدّلتِ الوجوهُ وظلّت تلك الفتاةُ بقربي .!! لم تكنِ المسافةُ بين قدمينا كافية لأن أبحبح في جلستي .. ولم يكن أحدنا مستعد لأن يتنازل عن موقعه بقربِ النافذة المتسخة قليلا كما قلتُ لكم .! لـذلك تكررت حوادثُ الاصطدام بين قدمينا .!! ومعها تكرّرت كلمة واحدة يتيمة .. Sorry.!!


لم أكن دائما في دورِ الجاني والمتسبّب في الحادث ..


لقد تبادلنا الأدوار .!!


وبين الحادثةِ والحادثة .. كنتُ ألجأ لروايتي الجديدة .!


( قلعة في البيرينيه ) لجوستاين غاردر .!! قلّبتُ الرواية ومرّرتُ أصابعي على حوافّها .. لأتأكد أنها لا تعاني من خدوش ولا أيّة إصابات أخرى .!! ما يهمني حين أجهّزُ حقيبتي أن تكون كتبي في وضع آمن .!! أختارُ لها مكانا يليقُ بمكانتها في قلبي .!! مسحتُ عليها برفق..


إنّها طقوسُ ما قبل القراءة .!!


وعلى الغلاف سيّدة تنظرُ بيأس للناحية الأخرى .. تطالعُ سيارة حمراء .. وبحرا وجبالا بعيدة .!!


من هذه السيّدة يا ترى .؟! وما علاقتها بي ..؟!


هل هي ميونخ .؟ أم براغ .؟!


ولماذا تديرُ لي ظهرها .؟!!


أيّة رسالة تحملها هذي الصورة الحمراء ..!! أنا في الطريق بين مدينتين .. وعالمين .!!


هل كان عليّ الاختيارُ بين مدينتين .؟!!


أنا الآن مثل هذه السيّدة .. أديرُ ظهري لميونخ .!!


وكذا القطار .. والمسافرين .!!


فماذا يعني ذلك ..؟!


من أنت يا سيّدة الغلاف .؟! كلّميني ..!!


arabtrvl1446117706011.jpg
 
توقّف القطارُ ثانية .. وثالثة .!!



يا تُرى كم مرّة توقّف القطار .؟!



ومتى عبرنا الحدود نحو التشيك .؟!


لماذا تكون تلك الشجرة ألمانية .. وهذه تشيكيّة .؟!!


لم أجد جوابا لأيّ سؤال .. وحين توقّف القطار للمرة الأخيرة في براغ .. تركتُ " كومة " الأسئلة على مقعدي ودثّرتها جيّدا .. ونزلت .!!



يبدو أنّي لم أكن ممثلا مقنعا هذه المرّة .. لقد اكتشفوني بسرعة قياسيّة .!! سمعتُ بأنّ سائقي التكاسي في براغ يحتفظون بسمعة قديمة .. ويحافظون عليها .!! فهم يمتلكون قدرات استثنائيّة في النّصب على الغرباء الذين أنتمي إليهم .!! ويبدو أنّ أحدهم شمّ صيدا ثمينا فاقترب بلطف مصطنع .. عارضا خدماته .!!


شكرته بلطف مصطنع .!! إنّها قاعدة المعاملةِ بالمثل ..!


لكنّ نظرتي المتطرّفة والمتعجّلة لأصحاب التكاسي سرعان ما تصدّعت حين شكرني صاحبُ التاكسي .. واختفى من المشهد بهدوء .!! لقد تغيّر السيناريو الذي نسجتهُ في مخيّلتي ..! كان عليه أن يلاحقني ويلحّ في عرضة .. ويساومني .!! هل بالغتُ في مخاوفي ..


ربّما .!!







 
قرّرتُ الوصول لفندقي بالمترو .!! ولو كلّفني ذلك الضياع تحت الأرض لخمس ساعات قادمة .!! هل كنتُ أتجنّبُ مواجهة مباشرة مع أصحاب التكاسي ؟!



هذا صحيح جزئيّا .!



هل كنتُ أبحثُ عن مغامرة صغيرة .؟!


هذا صحيح تماما .!!


استعدتُ ثقتي بنفسي .. وبقدرتي على خوض مغامرات مسلّية .!! كانت الساعة تشيرُ إلى الواحدةِ والنصف .. وقت طويل حتى تغرب الشمس .!





المهمّة الأولى .. أن أتمكّن من نطق اسم المحطّة المقصودة.!! وبعد محاولات جادّة فشلتُ في المهمّة الأولى .. سأستعين بصديق إذن .!!


اخترتُ موظّفا بملامح هادئة .. ليتحمّل أسئلتي التي قد تطول حسب قدرتي على استيعابِ ما يقول .!!


طلبتُ منه أن يقترب قليلا .. ليقرأ اسم المحطّة المسجّلة على شاشةِ هاتفي .!!


انتهتِ المهمّة الأولى بنجاح منقطع النظير ..!!







المهمّة الثانية هي اختيار القطار الصحيح ..!!


لقد شرح لي الموظف شرحا وافيا ودقيقا كيفيّة الوصول للقطار الصحيح .. لكنّي لم أتمكّن إلا من حفظ المقطع الأول من كلامه .!!


هل يتكرّر سيناريو ميونخ ثانية .؟! بنسخة " براغيّة " هذه المرة .. وكلمة براغيّة نسبة لبراغ .!! وليس لأي شيء آخر .!!


لم يكنُ السؤال .. هل سأتوه بين المحطّات وتختلط عليّ الخطوط والمسارات والقطارات .؟!


فهذا سؤال نتيجتهُ محسومة ..!!


السؤال هو .. كم من الوقت سيستغرقُ ذلك .؟!


كم ساعة سأقضيها في هذه الدوّامة .؟!


وحين اكتشفتُ أنّي بدأت رحلة الضياع فعلا .. نظرتُ لساعة الهاتف .!! لأحسب الوقت بالساعة وبالدقيقة.!!


توقّعتها مغامرة متوسطة الحجمِ والتأثير .!!


لكنّ الألغاز جميعها تهاوت فجأة ..


وحلّت الخارطة نفسها .!!


إنّها مجرد خارطة إرشاديّة .. لا تحمل ألغازا ولا أسرارا.!


لقد صمّموها بحيث يفهمها أنصاف المتعلمين .. ومتوسطي الذكاء .!!


ثلاثة خطوط للمترو .. بثلاثةِ ألوان ..


تلتقي جميعها هنا .. في المحطّة المركزيّة .!!


نظرتُ لساعتي .. كان ضياعا لمدة عشر دقائق فقط .!!








 
إنّ براغ تلعبُ معي لعبة مستفزّة ..وكأنها تستهينُ بي!



تحملني للحدود القصوى .. تعشّمني بمغامرات وبطولات



ثم تلقي بي في القاع .!!


سأكونُ حذرا في المرّةِ القادمة .. فأنا لا أفهم نفسيّة هذه المدينةِ متعدّدة الهويّات .. فهي الشرقيّة والغربيّة معا .!!


ومتعدّدة الأسماء والمسميات .. فهي أمّ المدن ومدينة المائة برج .. والمدينةُ الذهبيّة .!!


يقولون .. بأنّ أبراج المدينة كانت مذهّبة .!


وفي رواية أخرى .. أنّ أحد ملوكها كان يشجّع الخيميائيين ويدعمهم لصناعةِ الذهب .. في المختبرات!!




أظنني في حضرةِ مدينة محيّرة .. وغامضة ..!


وخفيفةُ الظل أيضا ..!!


لكنّها والله أعلم .. تخبئ مفاجآت من النوع الثقيل .!!


سأعقدُ معكِ صفقة منصفة .. سأمنحكِ نفسي .!!


سأهيمُ في شوارعكِ كالدراويش .. سأجلسُ في كل زاوية .. سأغنّي لفيروز فأنا أحفظُ بعض أغانيها الجميلة!! وأريدُ منكِ ألا تغدري بي .. ألا تكوني قاسية معي!!


مازحيني بلطف .. فأنا كالطفلِ بين يديكِ .!!






لقد حان الوقت .. مرّت ساعتين وأنا أتفقّدُ غرفتي!!


لا شيء يدعو للدهشةِ والإعجاب .. غرفة تتسم بالبرود!! لا تهتم لك .. لا تستقبلك .. ولا تشغل نفسها بمغامراتك ولا بمشاويرك .. يعني غرفة وخلاص .!!


أحيانا نشعر بالفقد وبالخسارة حين نودّع غرفة ..


هل جرّبتم ذلك الإحساس يوما .؟!!


أطلتُ عليكم .. أليس كذلك .؟!!
 
المهم .. شعرتُ برحابةِ المدينة .. باتساعِ الأفق ..



بتمدّد الزوايا والمقاهي والكراسي ..! بتبدّل الألوان والخطوط .! يا لرشاقة تلك الانحناءات ..


هناك عند الناصية .!!

درتُ حول نفسي .. هذه هي ساحةُ المدينة القديمة .!!

إنّها ساحة من الجمالِ الخالص ..

شعرتُ بالفرحةِ تشع من وجهي .. ومن جسدي .!!




يسمّونها " ستاري ميستو " .. ما رأيكم باسمها التشيكي .؟! انسيابي .. أليس كذلك .؟!!

يليقُ بساحة فاتنة ومبهجة .. لاحظتُ أنّ اللغة التشيكيّة لها طعم إيطالي .. فيها من جاذبيّة وحلاوةِ اللغة الإيطاليّة ..!! تقول الأسطورة بأنّ فنّاني إيطاليا ومفكريها ومبدعيها اجتمعوا يوما ليخترعوا لغة لبلادهم!! لغة جديدة .. توحّد بلادهم .. وتلملمُ شتاتهم .!!

جمعوا كل اللهجات المنتشرةِ في إيطاليا .. وانتقوا منها أجمل وأعذب الألفاظ والكلمات والمعاني ..

واخترعوا لبلادهم لغة جديدة .. فالإيطاليّة لغة أبدعها الفنانون والأدباء !!


أين توقّفنا .. عند اسمها الانسيابي والجميل .!!

نفسي مفتوحة للركض والرقص الهستيري ..

للصراخ والضحك المجنون .!!

لكنّي فرملتُ كل نزعاتي الطفوليّة .. وتمسّكتُ بأقنعةِ الرجولةِ الزائفة ..!! توقّفتُ عند تمثالِ جان هوس ..!

وكأنّ النحّات استجمع كل طاقته القوميّة والوطنيّة وبثّها في هذا التمثال .!! إنّه يعني الكثير للشعب التشيكي ..

هل سمعتم بجان هوس .؟! وأنا كذلك لم أسمع به .. لكنّي قرأتُ عنه حين جهّزتُ لرحلتي .. لدرجة أنّي سلّمتُ عليه باسمه .!! ليعرف أنّي أعرفه ..

لقد تمّرد جان هوس على الكنيسة الكاثوليكيّة وباباوات روما والفاتيكان .. واتهمهم بالفسادِ والبذخ .!!

وشكّك في قداستهم المزعومة ..فدّبروا له مصيدة .!! فاستدعوه ليمثل أمام محاكمة عادلة في الفاتيكان .. وسرعان ما اتهموه بالزندقةِ وأعدموه .!!

كان ذلك في العام 1415 م .!!

فثارت لأجله براغ .. وحوّلته لبطل قومي .!!

وانتظرت 500 سنة كاملة .. لتقيم له هذا النصب التذكاري في العام 1915 م .!!

ما رأيكم بمعلوماتي .؟!

لا تنتظروا منّي معلومات مشابهة في كل مرّة .!!
arabtrvl1446118865951.jpg



arabtrvl1446118866112.jpg



arabtrvl1446118866193.jpg








 
سأكتفي بجان هوس الآن .. لا داعي لأن أكتشف كل شيء مرّة واحدة .!! سأقسّطُ هذه المتعة ..



أيّ الطرق تؤدي إلى جسر تشارلز يا صاحبي ..



شكرا للطفك ..! لقد توقّعتهُ في الاتجاه المعاكس ..!!


إنّ براغ معرض فنّي كبير .. أبدعته السنين .!! وأجيال من النحاتين والفنانين والملوك الملهمين .!! ما أجمل تلك الأزقّة الموصلةِ لجسر تشارلز .. إنها وصلة فنيّة وجماليّة لا تكاد تنتهي ..!! لا فجوات تعيدك لعصر الأبراج الزجاجيّة .!! إنّ الذين أبدعوا هذه الحارات والحوانيت والحانات والدكاكين كانوا في قمّة الانبساط .. والاسترخاء أيضا ..!

لقد اختاروا أن تكون لوحة بديعة بحجم وطن ..!!


إنّها مسارات للعاشقين والشعراء والحالمين ..! إنّها فلسفةُ حياة .. فهذا الجمال المسكوب على الأرصفةِ والطرقات يبث الأمل في قلوب اليائسين .. والبهجة في نفوس البسطاء والمحرومين .!!


" الحياة حلوة .. بس نفهمها " .!!


إنّها مدينةٌ للحياة .. وهذا يكفي .!!
 
توقّفتُ عند إشارةِ المرور التي تفصلني عن برج الجسر.. كنتُ بموازاةِ المئات الذين يتراصون عند الإشارة ثقيلة الدّم .. أظنّ القيّمين على هذه الإشارة يتسّلون بنا .!! لقد أوجدوا هذه الإشارة عامدين متعمّدين ليؤججوا أشواقنا .!!



بدليلِ أنّها إشارة بمؤقت .. عشرين ثانية لعبورِ المركبات



وعشر ثوان لعبورِ الكائناتِ البشريّة .!! وحين حانتِ اللحظة المباركة عبرنا .. مسرعين ومتدافعين .!! لقد تنازلنا عن حركاتنا الاصطناعيّة .. عن تلك الأقنعة التي تكبلنا بدعوى الحضارة .!! فلنكن همجيين قليلا ..!! كائنات تعمل بطاقة الشعور .. لا ببطاريّات العقل والمنطق .!! فلنكن أحرارا في تحريكِ مفاصلنا ..!!




إنّه الجسر البديع أخيرا .. من هنا تبتدي براغ .. وهنا تنتهي .!! ومررتُ بوابة الجسرِ مظهرا التبجيل للزمان والمكان .!! حان الوقتُ لأن أحتفي بنفسي .. لقد حضّرتُ لهذا اللقاء جيّدا .. وضعتُ تصورات وسيناريوهات .. لكنّها تلاشت جميعها .!!



أقفُ الآن وحيدا .. بصحبةِ قلبي .!!



لا يمكنني تحمّل هذه السعادة وحدي ..!!



سأغنّي .. فلا شيء سوى الغناء ..



سأستعيدُ ألحانا قديمة ..



ولا تحضرني سوى ألحان حزينة ..!



لماذا نستدعي الحزن حتى في لحظاتِ الفرح والانبساط..؟!!



لا يمكنني فهمُ هذه النزعةِ السوداويّة في شعرنا العربي .. في ألحاننا .. وفي أصواتنا المبحوحة!



إنّها مدينة ساحرة ومسحورة ..



كل شيء دفعة واحدة .. يتداعى الجمالُ دفعة واحدة .!!



جسر تشارلز .. وطريقُ القديسين ..!



ونهر فلتافا .. وقلعة المدينة .!!



فهل تكفيني خمسةُ أيّام يا براغ .؟!


أعرفُ أنّها لا تليقُ بكِ .. لكنّها كل ما بجعبتي الآن .!!
 
" كارلوف موست " .. إنّه اسمُ جسرنا البديع باللغة التشيكيّة ..!! أظنّ هذه التسمية أكثر وقعا من نظيرتها الإنجليزيّة التي أجدها جافّة .. وغير معبّرة .!!




إذن .. لنسّمه كارلوف موست ..! ليوم واحد على الأقل .. وفاء لأولئك الذين حلموا به .. وشيّدوه .. وضحّوا لأجله ..!!



تقول الأسطورة .. بأنّ المهندس الشهير بيتر قرّر خلط البيض والنبيذ مع المواد الكلسيّة والترابيّة عند بناء الجسر ليزداد متانة وصلابة .!! ولأنّ براغ لم تكن تنتج الكميّة الكافية من البيض لبناء جسر بطولِ 516 مترا فلقد طلب الملك تشارلز من كل المواطنين التشيكيين في كل أنحاءِ البلاد بأن يشاركوا بالبيض في بناءِ الجسر!! وهذا ما حصل فعلا .. كان البيض يصل من القرى البعيدة مسلوقا لأنهم كانوا يخشون تكسّر البيض في الطريق .!! آخرون شاركوا بطريقة مختلفة .. لقد قدّموا الجبن واللبن كنوع من المساهمةِ في ذلك المشروع القومي العظيم .!!


أتصدّقون .. هذا الجسر العجيب يعرفُ تاريخ ميلاده بالسنةِ والشهر واليوم والساعة والدقيقة أيضا .!!


فهو من مواليد 9 يوليو 1375م ..


في السّاعة الخامسة وإحدى وثلاثون دقيقة .!!


لا تعليق ..!!


فكّرتُ في تطبيق نفس الإستراتيجيّة التي طبقتها في ساحة البلدة القديمة .. " ستاري ميستو " أتذكرونها؟!


ألا أستهلك طاقتي من الحب .؟!!


أن أترك كل شيء في مكانه .. حتى أعود .!!


هل أخبرتك بأنّي سأعود للقياك .. يا جسري العزيز؟!!


لأطمئن عليك .. لأتلمّس حوافك .. لأغمض عيني وأنصت لهذا المزيج الرائع من الأصوات واللغات ..! وتأسرني الضحكات .. وأختلس النظرات للعاشقين الذين تواعدوا .. وتعاهدوا هنا .!
 
تردّدتُ في النزول على درجاتِ الجسر .. فكّرتُ في العودةِ .. لكنّي خجلتُ من نفسي .!



لكنّ مفاجأة صغيرة كانت بانتظاري .. جسرٌ صغير .!!


حتى كلمة صغير كبيرة عليه ..!!

لقد قرّر العشّاق أنّه المكان المناسب لإعلانِ دولتهم ..!

فعلّقوا أقفالهم .. أقفالُ المحبّين إيّاها .!!

التي تفوحُ منها رائحة تجاريّة ..

اكتشفتُ لاحقا أنّها مجموعة من الدويلات المتناثرة .!!
arabtrvl1446274951954.jpg


arabtrvl1446274951995.jpg


arabtrvl1446274951841.jpg


arabtrvl1446274951882.jpg


wol_error.gif
هذه الصورة تم تصغيرها . الحجم الافتراضي لها هو 801x601.
arabtrvl1446274951913.jpg


arabtrvl1446274952026.jpg


arabtrvl1446274952067.jpg








 
قادتني خطاي لبيوت نوافذها الأنيقة والمنقوشة ملاصقة للأرض .. عليك الجلوس لتحيّةِ ساكنيها .!!



إنّها تشبهُ بيوت الأقزام الملوّنة .. يستفزّني هذا الجمالُ المفرط ..! ويدعوني للتشكيك في كل ما حولي .. فأينا واقعي وصادق .. وأيّنا مجرد ظل مخادع .!!



هذا الجمالُ يمنحني سعادة .. ممزوجة بكآبة .!!


ستمتدُ بي هذي الطرقات والساحات والقصور لساعات .. لأيّام .!!


هذا العالم السحري الوادع سينتهي في لحظة ما ..!!


لكن .. لماذا هذه العجلة .؟!





لماذا لا أعيش هذه اللحظة الحلوة .؟!


وعندما تحينُ ساعة الرحيل ..


سأرحلُ معها بنفس راضية .!!


لكن .. أي رحيل أعني .؟!!


يا نهر فلتافا " الجميل " ..!


أدري بأنّ ملايين قبلي توقفوا عند ضفتيك .. وفضفضوا لك .. وغنّوا .. وبكوا .!!


وملايين بعدي سيفعلون الشيء ذاته .!!


لكن .. هل تحفظ أسماء الذين عبروا ذاكرتك .؟!!


أليس من القسوة ألا تلتفت لزوّارك .؟!!


ألا تحفظ أسماء عشّاقك ..!


ظننتك تعرفني قبل أن نلتقي .. أرجوك لا تشعرني بالغربة في حضرتك .. هل تعرفُ عمرك يا صديقي .؟!!


منذ متى وأنت تعبرُ هذه المدينة العاشقة .؟!


صارحني .. أيكما كان أولا .؟!!


تصبح على خير يا نهر فلتافا ..


تصبحُ على خير يا جسري العزيز .!


ألقاكما غدا ..
 
فتحتُ نافذتي .. كانت السّماءُ صافية .!!



في المرّة القادمة سأدفعُ مالا ..



أو رشوة لتكون إطلالتي أفضل حالا .!


أريدهُ مشهدا بانوراميّا ممتدا لما لا نهاية .!!


لا حاجة لأن أتوقّف عند النافذة لكي لا أبدو كالأبله .!!


فلا شيء يستحق التوقّف عنده ..!!





عبرتُ ساحة البلدة القديمة ..


لوّحتُ لجان هوس من بعيد ..


رمقني بنظرات منكسرة .. أظنّه يشعرُ بالوحدة .!!


يمكنني تسميتهُ بالاكتئاب الصباحي ..


فلا أحد يهتم لأمره .. كلهم يعبرون السّاحة مسرعين .!!


حتى المجانين يتركون أماكنهم ..


حتى المهرجين .. والراقصين .. والرسّامين .!!


كلهم تركوا المشهد .. ليبقى وحيدا .!!


لا أحد يجلس عند حافّةِ حديقته الصغيرة ..


لا أطفال يرشقونه بالورود ..!!





لكنّه مجرّد اكتئاب مؤقت .. سينتهي عند المساء .!!


أظنّه يدعوني لأن أجلس عند قدميه .. ليفضفض لي ..


لكني لستُ مستعدا لذلك الآن ..


ربّما في وقت آخر ..!


ربّما في المساء .. ما رأيك .؟!


لم أكن أنتظر موافقته على ذلك .. وأكملتُ طريقي .!!
 
في أحدِ الشوارعِ الواسعة صادفتُ طريقة مبتكرة في البيع والشراء .!! تقومُ على ابتزاز المشاعر الوطنيّة والقوميّة والدينية لو استدعى الأمر .!!



تتسلّم قطعة من الفلّين كما أظن .. وتقوم باستلام الفرشاة والألوان .. وتتفنّن برسم علم بلدك .!!



وربّما تكتب تعليقا .. ثم تضعها في المكان التي تختاره .!



المئات سبقوك في هذه اللعبة .. فاخترعوا جدرانا ومتاهات صغيرة .!! وضعتُ يدي خلف ظهري لكي لا أتسبّب بانهيارِ هذه الدول جميعها .!



شدّني قيامُ أحدهم بوضع علمين .. على قطعة واحدة .!



علمين .. ودولتين .!!



فلسطين .. وإسرائيل



لا أظنّهما كانا على هذا القرب من قبل .!!



لقد قرّر هذا الحالم أن يجمعهما .. ولو بدونِ رضاهما .!!



اصنعوا السلام .. ولا للحرب



ولم ينس أن يرسم قلبا أحمر .. صغير !!



بين السلام والحرب .. قلب صغير .!!



وسكّة طويلة غير مرئيّة ..



من الكراهية .. والأحقاد .. والدماء .!



والخرائط .. والتواريخ .. والأديان .. والأساطير .!!



وأخذتُ أطوف بتلك الجدران الملوّنة .. لم أغامر بدخول تلك الطرقات الداخليّة لهذا البناء الهش .!!



وفجأة عثرتُ على لقطة غاية في التعبير ..



أكثر حميميّة .. وصدقا .. وواقعيّة .!!



أظنهم اختاروا أن يكون بهذا القرب .. وربما أقرب .!



كان عليهم أن يكونوا في قطعة واحدة .. وقالب واحد !!
 
وأكملتُ طريقي ..



ما رأيكم لو غيّرنا قليلا .؟!!



ماذا لو خرجنا من دوّامة الجمال هذه .؟!


لماذا لا نشاهد أشياء مضادّة للحياة .؟!


لم تفهموا قصدي .. أليس كذلك .؟!


ماذا لو دعوتكم لزيارة أبشع .. وأقبح أبراج العالم .؟!


برج جيجـكوف ..


فلترافقوني .. لتشاهدوا قلّة الذوق .!


إنّه مجرّد كتـلة من الحديـدِ والصّلـب ..


ولتلك الكتلة قدرة عجيبة على إثـارة الكآبة


واليأسِ والإحبـاط ..!


وهي بالإضافةِ لذلك مكان مثالي للانتحار .!!


كان عليّ دفع عدّة كورونات لصعودِ البرج ..!


أليس هذا مدعاة للسخرية .؟!


ندفع حتى للقبح .. والبشاعة ..


ما علينا .!!




أضحكتني تلك التماثيل الصغيرة .. للأطفال الذين يتسّلقون البرج .! كانت محاولة لإضفاء حس جمالي على هذا البرج المتعجرف .. والمغرور .!


لا شـيء يغفـرُ لك يا جيجكـوف ..


فحتى نوافـذك العلويـّة التي نطـل منها على براغ .. متسخة .. وعاكسة ..!


أمّا حسنتـك الوحيدة ..


فهي موظّفـة الاستقبال الفاتنة ..


تلك التي قلّلـت من فاقدِ الحيويّة .!


وأشعرتني بأنّ الدنيا لا تزالُ بخير ..!


وداعا جيجكوف ..


وداعا لا لقاء بعـده .!!


لم ألتفت حين ودّعته .. لقد تعمّـدتُ ذلك


خشيتُ أن يفسّر ذلك نوعا من التعاطف معه .!


وأكملتُ طريقي .. ها قدِ انتصف النّهار .!


سأعودُ لغرفتي .. وأنتظرُ المساء .!
 
دلّيني يا براغ .. وقودي خُطاي .!



خذي بيدي .. وباركيني .!



أنـا مدينٌ لـكِ ..


ولـن أقـول بمـاذا .. ولمـاذا .؟!


سين سؤال .. نشّطوا ذاكرتكم .!!


سين واحد .. ما الاسمُ التشيكي لساحةِ البلدةِ القديمة؟


سين اثنين .. ما الاسمُ التشيكي لجسر تشارلز ..؟!!


لا تغشّوا أنفسكم .. لا تقلّبوا الصفحاتِ مثلي ..!


لقد نسيتُ كما نسيتم .. وهذا مخجلٌ فعلا .!!


ما رأيكم لو غيّرنا الموضوع .؟!


على فكرة .. اسمٌ واحد لم يرق لي في هذي المدينة .!


" بـرج الجـسر " .. ماذا يعني ذلك .؟!


لماذا لا تمنحونه اسما خاصّا به .؟!


لماذا تحكمون عليه أن يكون مجرّد إضافة .. وتابع .؟!


تذكّروا .. لتخجلوا


أنّ "جيجكوف" يحملُ اسما .!!





طبطبتُ عليه .. لا عليك يا صاحبي .!


ألا يكفيك أنّا التقينا ..


ها أنا أرتقي درجاتك الواسعة برفق ..


وأتلمّسُ جدرانك الباردة ..!


إيه يا صاحبي .. يا أيها المتحرر من الأسماء .!


أنا لوحدي هنا .. وأنت لي وحدي .!


يا لهذه الوحشة .. ما كل هذا الصّمت .!


أين تلاشوا جميعا .. هذا الجدارُ يفصلني عن الحياة .!


لماذا اخترتَ أن تكون عازلا بين الحياةِ واللاحياة .؟!


وعند العتبة الأخيرةِ .. تعثّرت .!


شاهدتُ شابا يحتضنُ فتاة جميلة ..


بالمقاييس العالميّة للجمال .!


وحين لمحني .. تمادى .!


ثم تمادى


وكأنّه يغيظني .!


لن أسامحه ..!
 
تجاوزتُ ذلك المشهد الملتهب بمشقّة .!



لأطلّ على المدينة ..



شعرتُ بسعادة غامرة ..


لقد غمرتني براغ بحبّها .. وبعطفها .!


أظنّها تقول ..


شكرا لأنّكَ اخترتني .!


أنت تستحق ذلك ..


لا تنس .. تجوّل جيّدا .!


لقد خبأتُ لك مفاجآت صغيرة ..


كن صافي القلب .. ومتسامحا حين تفكّرُ بي .!


وسأتجلّى لك .. كيفما تشاء ووقتما تشاء ..


أعدكَ بذلك .!


ولا تفكّر بأنثى غيري ..


والآن .. لا تتوقف كثيرا هنا .!


ليس لدينا متسعا من الوقت ..


هل كانت تلك روحُ براغ .. تحدثني وتنصحني .؟!


أظنّها هي .؟!