بسم الله الرحمن الرحيم
لم يحدث قبلاً أن عشقت بلداً قبل أن أزورها - باستثناء بلدي فلسطين طبعاً- ولم أصّدق يوماً أن كتاباً يمكنه أن ينقل حواسي بأسرها لآلاف الكيلومترات لتستقر في موطن أبطال الرواية وأشعر بأن لروحي مكاناً بينهم .. هناك، بعيداً على رمال صحراء الناميب المحرقة وفي موانئ كيب تاون وأسواقها التي تعجّ بالباحثين عن الثروة، ومناجم الألماس التي يحرسها رجال بلا قلوب. تعلّقت بالرواية وأبطالها لدرجة انني بكيت فعلاً عندما مات البطل -وانا من لا تبكيني الروايات ولا المشاهد التمثيلية أبداً- وشعرت بوحدة بطلتها وقوة شخصيتها التي جعلتها تسيطر على أفراد عائلتها وحياتهم. وعندما هدأت المشاعر وخفّ تأثير الكتاب بعد أن قرأت صفحاته الأربعمئة ثلاث مرات .. وهي رواية العبقري سيدني شيلدون Master of the Game.. عقدت العزم على ان تكون جنوب إفريقيا وجهة سفر قريبة، وقد كان لي ذلك بفضل الله تعالى في أبريل الماضي..
تحمل كيب تاون لقب the Mother City أو المدينة الأم دون سبب واضح، إلا أن أكثر الروايات شيوعاً تعزو ذلك إلى كونها المدينة الأكثر تقدماً وحضارة في حقبة ما، جعلتها المدينة الرائدة في بلد مترامي الأطراف، سادته العبودية والفقر والعنصرية لحقب طويلة من الزمن وصبغت تاريخه بالدم والسواد..
ولا يعني ذلك أن كيب تاون سلمت من العنصرية.. ففي تلك المرحلة المظلمة من تاريخ المدينة الوادعة بلغ الأمر بان وصل الفصل العنصري إلى تقسيم جسور المشاة واحواض السباحة ودورات المياه العامة ومواقف السيارات إلى جانب ما نعرفه عن الفروقات الطبقية الهائلة في الاجور ومناطق السكن وحق التملك وغيرها.
مدة رحلتي كانت ستة أيام آثرت أن أقضيها جميعاً في كيب تاون وحدها، وأتممت حجوزات الطيران والفندق بالإضافة إلى رحلة سياحية ليوم كامل عبر موقع موثوق.. وبهذا لم يبقَ لي سوى انتظار موعد السفر بلهفة لم أعهدها في نفسي قبلاً.. ورغبة كبيرة بالاستكشاف والوصول إلى ذلك البلد الذي استوقف كل من تحدثت إليه عنه .. فالغالبية رمقتني بنظرة استغراب .. والبعض اكتفى بهز رأسه بأسى .. وآخرون بالطبع تندّروا بالمعلومة المغلوطة بأنني سأعود من هناك سمراء محروقة اللون .. أما أنا فوعدت نفسي بأن أعود بالكثير من الحكايات الجميلة والذكريات والمغامرات والصور .. وقد كان لي ذلك بفضل الله تعالى وكرمه.
إلا أن بداية الرحلة لم تسر بالشكل المأمول: وصلت إلى المطار قبل ثلاث ساعات من موعد إقلاع طائرتي الأولى إلى دبي وكنت من أوائل الواصلين إلى كاونتر طيران الإمارات الخاص بمن أتموا إجراءات التسجيل عبر الإنترنت .. وهنا كانت المفاجأة..
- أختي انت ما بتقدري تروحي لكيب تاون .. مشكلة بالجواز
- لا عزيزتي الجواز ممدد .. شوفي الختم، لسنة 2020 ..
- الجواز صالح .. صحيح، لكن .. لحظة
- ما بنحتاج فيزا ان كان هذا قصدك؟
- لا .. مش فيزا..
تحاورت لدقيقة مع زميلها الذي اكّد لها الأمر. لا تسمح جنوب إفريقيا بدخول أي شخص يحمل جواز سفر تم تمديده بعد انتهاء صلاحيته، وعلى كل من يمر عبر مطاراتها استعمال جواز سفر عادي تم تجديده في موعده. كانت صدمة بالنسبة لي .. فقد قمت بكل ما خطر ببالي من بحث قبل السفر - المطاعيم اللازمة، التأشيرة، العملة .. ولكن لم أسمع قبلاً بقانون كهذا..
انتشلني صوت أحد الموظفين من حيرتي وقال لي أن واجبهم يحتم عليهم منعي من صعود الطائرة الآن وإلا كان مصيري العودة من كيب تاون بعد رحلة مرهقة للغاية، وقد حدث ذلك بالفعل مع مسافرين قبلي ..
نظرت إلى ساعتي وشعرت بالغضب.. كانت الثالثة إلا ربعاً، وموعد إغلاق الدوائر الحكومية هو الثالثة تماماً. سألته سريعاً، وأنا أعتقد أن الامر بديهي: ألا يوجد مكتب للأحوال المدنية في المطار!؟ أجابني بالنفي ولكنه صحبني سريعاً إلى أحد الضباط وسأله إن كان هناك مكتب مناوب للجوازات والاحوال المدنية .. فأكد له أن هناك مكتبا قريبا من المطار يعمل حتى ساعات المساء ..
اتصلت بزوجي على الفور ليعود إلى المطار، وفي تلك الأثناء سألت موظف طيران الإمارات عن الخيارات المتاحة لي كي لا يضيع حجزي والتذكرة، فأخبرني بأن عليّ تغيير حجزي فوراً إذا وصلت الساعة الرابعة ولم أكن في المطار فعلاً.. وإلا اعتبرت متخلفة عن السفر وألغي حجزي تماماً.
شكرته سريعاً وأخذت حقيبتي وخرجت من المطار لأجد زوجي ينتظر.. وسط عاصفة من المكالمات الهاتفية السريعة توجهنا إلى المكتب المذكور لنجد الموظف المسؤول يغلق بابه بالمفتاح
نظر إلى أشكالنا بتساؤل وشرحت له الأمر بسرعة البرق .. ولكن للأسف، يقول زوجي أن حتى الآلات تعجز عن متابعتي عندما أتحدث بتلك السرعة
فكرر هو الشرح نيابة عني وانا أستعجله لأن الوقت يمر سريعا وثميناً.. وأخيراً، عندما فهم الموظف المطلوب.. تنهّد بأناة وصبر قاتلين.. وتناول الجواز ليلقي نظرة سريعة...
- مش من صلاحياتي .. الجواز باقيله 4 سنوات ولازم موافقة من الأحوال المركزية ..
يعود السبب إلى أن قانون الجوازات يسمح لنا بتمديد الجواز المنتهي مدة خمس سنوات أخرى، ولكن الموظف لا يستطيع إلغاء جواز ساري المفعول دون موافقات سابقة..
ادركت أنني لن أسافر اليوم فاتصلت سريعاً بمكتب السفر الذي حجزت التذكرة عن طريقه، بعد ان ألقيت اللوم عليهم لعدم إخباري بتلك المعلومة الجوهرية، وطلبت منهم تأخير الحجز إلى الغد وتأخير العودة يوماً إضافياً.. رغم أن ذلك يعني وصولي صباح يوم الأربعاء وهو موعد بداية عملي هناك فعلياً مما يعني أن علي التوجه من المطار إلى العمل بعد سفر يقارب 20 ساعة
.
عدت إلى المنزل وسط دهشة الاولاد واتصالات العمل وإجراء بعض الأمور اللازمة، وتوجهت صباح اليوم التالي إلى دائرة الاحوال المدنية لتجديد جواز السفر. بالطبع اضطررت لشرح الأمر والحصول على بعض الموافقات، ولكني حصلت على جواز جديد خلال ساعة واحدة. بالطبع ملمس الجواز الخالي من التأشيرات والأختام كان سخيفاً نوعاً ما .. صفحاته النظيفة ورائحة الورق الجديد لا تقارن بالجواز السابق الذي أثقلته التأشيرات وغيرت معالمه الأختام وكثرة الاستخدام ..
توجهت عصراً إلى المطار من جديد. ارتديت نفس ملابس الأمس لأنها الأكثر راحة واحتشاماً أثناء رحلة الطيران الطويييلة تلك.. وهنا حدث موقف مضحك لكنه مفيد .. فأحد مشرفي المطار شاهدني أقف في نهاية طابور طوييييل فشهق وبسمل وقال لزميله... "مش هادي سافرت مبارح"؟؟ فطمأنته على الفور "لا رجعتوني من المطار وما سمحتوا لي أسافر
" يبدو أن إجابتي أشعرته بالذنب فقفز إلى أحد الكاونترات، تحدث إلى الموظفة سريعاً وأشار لي بالتقدم إلى بداية الطابور . ترددت ثواني، ولكن منظر 200 سائح ياباني يتقدمون الطوابير دفعني سريعاً إلى تجاهل الطابور والاستجابة للموظف وشكره سريعاً. "أقل واجب يا اختي بيكفي رجعتك مبارح".. كم أحب أهل بلدي عندما يكونون على سجيّتهم الطيبة
تخيلوا .. كل هذا وأنا لا زلت في الأردن .. إذا واصلتم القراءة إلى هنا فلا بد أن أشكركم على طول البال وسعة الصدر والتحمل .. فالرحلة لم تبدأ بعد!!
قبل الصعود إلى الطائرة تذكرت امراً بالغ الأهمية نسيته في غمرة الانشغال والانزعاج: كان موعد وصولي إلى الفندق هو 19 أبريل، ولكنني لن أصل قبل العشرين منه مما قد يعني إلغاء حجزي وضياع الغرفة ، بل وخصم كامل مبلغ الحجز من بطاقتي! سارعت بالاتصال هاتفياً بالفندق وأخبرت الموظفة بأنني سأصل متأخرة يوماً كاملاً .. أفهم أنني سأدفع تكلفة تلك الليلة لكن أرجوك لا تلغي حجزي ولا تعطي الغرفة لشخص آخر
والحمدلله أبدت تفهمها للأمر وأخبرتني بأن الغرفة ستبقى محجوزة رغم أن عليّ دفع قيمة الليلة الأولى بالطبع ..
ابتسمت لنفسي وأنا أتخذ مقعدي في الطائرة. إنها جنوب إفريقيا، فكيف للرحلة أن تكون سلسة خالية من الأحداث؟ منذ اللحظة التي قرأت فيها ذلك الكتاب سمحت للبلاد بأن تلقي بتأثير سحرها عليّ، ولهذا رأيت أن كل ما يحدث هو جزء من الرحلة - لا يمكن أن تمر بلا مفاجآت، تماماً كرحلة جايمي مكغريغور من اسكتلندا إلى كليب دريفت بحثاً عن الماس...
هل عدت بكم إلى الكتاب؟ حسناً، مرت الرحلة إلى دبي بكل سلاسة، وهناك كان بانتظاري ترانزيت لمدة 6 ساعات ليلية كاملة... ربما هو الوقت الأسوأ للانتظار بين الرحلات بين العاشرة ليلاً والرابعة صباحاً .. ورغم تلك المدة الطويلة كنت أعبر المسافات في المطار الضخم بسرعة يبدو أنها لفتت انتباه أحد المسافرين فصاح مندهشاً .. لماذا تسيرين بهذه السرعة!؟
نظرت إليه متسائلة فقال أنه يقصدني
ما بال الناس يتدخلون في ما لا يعنيهم!؟ لكن كبر سنه نسبياً جعلني أوميء برأسي واتمهل قليلاً فقال: يا بنتي، الدنيا مش طايرة، شوي شوي وانت بتمشي ..
كم مرة سمعت هذه العبارة في مواقف مختلفة؟ هل صحيح ان "الدنيا مش طايرة"؟ الحياة، كما أفهمها، تطير من أيدينا وتنساب من بين أصابعنا في كل لحظة !
واصلت سيري السريع غير عابئة بملاحظته. كنت قد حصلت على بطاقات البوردينغ والحقائب كاملة في مطار عمّان ومعها قسيمة تناول الطعام في مجموعة من مطاعم المطار، نظراً لأن الانتظار يستمر ستة ساعات. ولكنني كنت قبل ذلك حجزت في صالة "مرحبا" بغرض الاستفادة من اتصال الإنترنت وبوفيه الطعام ومكان الراحة والصلاة وغير ذلك ..
مرت الساعات سريعة في الصالة والحمدلله، وكذلك تكون ساعات الانتظار في طريق السفر.. أما العودة فتمر دوماً بطيئة مملة...
صعدنا إلى الطائرة في بداية رحلة تستمر 9 ساعات و 45 دقيقة .. نويت خلالها النوم المتواصل
ولهذا لم ألاحظ أصلاً الرجل الوقور الجالس على المقعد المجاور إلا بعد أن مرت حوالي ست ساعات على الرحلة. للوهلة الأولى قدّرت سنه بحوالي السبعين عاماً، وبعد ان حيّاني بابتسامة لطيفة، سألني إن كنت أرغب بتناول الطعام ليطلب من المضيفة إحضار وجبة لي. شكرته وانا اتململ وأبحث بين حلقات المسلسلات الكوميدية على شاشتي عن حلقات تقطع ما تبقى من الوقت.
إلا أن الرجل الطيّب لم يكتف بإجابتي وتحفظي الواضح، فكان يوجه سؤالاً كل بضع دقائق، أجيبه من باب الاحترام ومن ثم أعود إلى شاشتي .. ولكن في النهاية استسلمت للحوار معه .. اكتشفت فيما بعد انه رجل أعمال يمتلك فندقين، يدير جمعيات خيرية ورياضي حاصل على عدة بطولات محلية ودولية في ركوب الدراجات - وهو في عمر الثالثة والثمانين!! كان عائدا من بطولة ما في اسكتلندا ومتجهاً إلى أخرى في البرتغال بعد شهر ... وانا، أقضي وقتي بالنوم ومتابعة المسلسلات
اعطاني بطاقته عندما وصلنا وأوصاني بأن أتحدث إليه في أي وقت احتجت للمساعدة أو رغبت في رفقته وعائلته. ولشدة طيبة الرجل واهتمامه -حيث بعث إلى بعد يومين رسالة يطمئن فيها على احوالي و"يعتذر" عن سوء الأحوال الجوية التي قد تعطل جولاتي- أجريت بحثاً سريعاً عنه لأجد هذا المقال الطريف عن رفيق السفر الطيب ..
وصلت إلى كيب تاون أخيراً، ولم أكن أصدق نفسي بينما الطائرة تدور فوق المحيط مستعدة للهبوط في المطار الصغير نسبياً.. مطار هادئ متواضع دون تعقيدات.. صف لمواطني جنوب إفريقيا وآخر للأجانب ..
استقبلني موظف الجوازات بابتسامة واسعة وسؤال عن الحال، قبل أن يسألني "متزوجة"؟ أجبته بالإيجاب فعبس وسألني "لماذا لم يحضر زوجك معك".. فضحكت وقلت لا بد أن يبقى أحدنا مع الأولاد .. أجاب بـ "كشرة" مصطنعة: ومن سيعتني بك إن حدث شيء؟ فقلت له لن يحدث شيء في بلد أهله بهذه الطيبة والمرح ! تهلل وجه الرجل وأعاد لي جوازي وهو يتمنى لي رحلة سعيدة وإقامة جيدة,, وطلب مني أن أحضر العائلة في المرة القادمة. طمأنته بانها "زيارة استكشاف" وسنعود معاً في يوم ما .. قريباً.
إذا كانت جنوب إفريقيا استقبلتي بحفاوة وانا في الجو، وأنا في المطار، فكيف لها أن تعبس بوجهي بعد ذلك؟ ,المثل يقول "المكتوب باين من عنوانه"، وعنوان الرحلة إلى تلك الفاتنة السمراء كان ترحاب مواطنيها واستقبالهم الدافئ حتى قبل الوصول..
خرجت من صالة الجوازات وتوجهت فوراً لشراء شريحة هاتف وإنترنت، ومن هناك حصلت أيضاً على وصلة (فيش) كهرباء لأنني لم أجد ما يستخدم في جنوب إفريقيا في أي مكان قبل السفر. خرجت من المطار بسهولة وسرعة فمساحته صغيرة نسبياً، وكنت قررت ان أخذ تاكسي للفندق نظراً لعدم توفر المواصلات العامة المنتظمة بسهولة (يوجد باص من المطار إلى منطقة قريبة من الفندق) و بسبب تعب السفر الذي فاقت مدته 20 ساعة.
وصلت في أقل من نصف ساعة إلى الفندق، واسمه بورتسوود Portswood، وهو عبارة عن مجمع من الغرف الفندقية ومرافق المؤتمرات ومواقف طابقية للسيارات، على بعد شارع صغير من الواجهة المائية الشهيرة. لدى وصولي أخبرتني موظفة الاستقبال بأن حجزي قد تغيّر إلى فندق كومودور بورتسوود التابع لهم، على بعد 20 متراً أو أقل من المبنى. لم أعلم إن كان الفندق أفضل أو أقل درجة، ولكنها قرأت التساؤل في نظرتي فقالت لي فوراً "سيسعدك الانتقال كثيراً".
مشيت إلى الفندق وسط أجواء لطيفة ونسمات باردة، وطلبت استلام الغرفة سريعاً لأنني في الواقع مرتبطة بعمل بدأ بالفعل منذ ساعتين أو ثلاثة وهم بانتظار وصولي
يليق بالفندق وصف "عريق"، فهو ليس ذا طراز حديث وأثاث عصري، ولا هو بالقديم المهتريء الكئيب.. يمكن للناظر من أول وهلة أن يشعر بأن للمكان تاريخاً، فالثريات الضخمة تتدلى في بهو الاستقبال، بينما ترتفع ألسنة اللهب من موقد أشعل للتدفئة مع بدايات الخريف البارد، والأرضيات الرخامية والديكورات الخشبية والإضاءة الخافتة وألوان الأثاث بالأبيض والأزرق البحري جميعها أضفت على المكان فخامة وعراقة لا تخطؤها العين.
تتسع الغرفة لاحتياجات شخص واحد بكل سهولة فيها مكتب مناسب وتلفزيون، مع دورة مياه جيدة ينقصها وجود خرطوم الماء
إطلالة الغرفة .. إلى اليمين تماماً توجد الواجهة المائية (يحجبها فندق بورتسوود الأساسي) وإلى اليسار جبال جميلة واستاد كيب تاون الدولي الشهير الذي استضاف بطولة كأس العالم .. ولكن الضباب حجب تلك المعالم معظم الوقت
وجدت هذه الحلوى اللطيفة هدية عند الوصول ..
طال انتظاري للحقيبة فقررت قطع الوقت بشرب كوب شاي، لكن الابريق الموجود بالغرفة كان متسخاً للغاية وفيه بقايا لمادة سوداء غريبة .. فاتصلت على الفور بمكتب الاستقبال لأطلب الإسراع بإحضار الحقيبة واستبدال الابريق.. ورغم أنني تحدثت بهدوء لا ينم عن انزعاج أو غضب، فوجئت بصعود طاقم كامل من الموظفين يتقدّمهم المدير المناوب للفندق حينها، أحضر لي الحقيبة وامر من معه على الفور باستبدال الابريق مع تقديم قائمة اعتذارات مطوّلة لم يكن لها داعٍ، بينما انهال بالتقريع على موظفات خدمة الغرف اللاتي كنّ بصحبته. حاولت تهدئة الأمر بأن أخبرتهم أنها ليست مشكلة كبيرة وتحصل في أي مكان "جايين نهدي النفوس، وامسحها بوجهي يا معلّم" .. لكنه كان منزعجاً بشكل واضح..
بدلت ملابسي أخيرا وذهبت لمكان العمل حيث وجدت الزملاء يستعدون لختام فعاليات اليوم بسبب عدم تواجدي (نظراً لأنني المترجمة ولا يمكنهم التواصل بسهولة) .. فلم أبق هناك لأكثر من ساعة على أن نعاود الاجتماع مساءً ..
هنا تنفست الصعداء وادركت أن معي ساعات طويلة للمشي والاستكشاف في المنطقة المحيطة، وهي كما ذكرت لكم الواجهة المائية التي تحمل اسم فكتوريا اند ألفريد V&A - وهو اسم الملكة فكتوريا وابنها ألفريد.. أما قصة التسمية فتعود إلى عام 1860 عندما حضر الزائران الملكيان إلى المكان ووضع ألفريد أول حجر في بناء كاسر الأمواج ضمن أول ميناء في كيب تاون. واليوم أصبحت الواجهة معلماً سياحياً من بين أكثر المعالم استقبالاً للزوار في البلاد، إذ يزوره 22 مليون شخص سنوياً.
بمجرد الخروج من الفندق اتجهت يميناً بطريق مستقيم أوصلني إلى تقاطع صغير واضح المعالم، يبين الواجهة المائية بكل وضوح
فندقي خلف المبنى الأصفر الصغير، قريب جدا من مكان وقوفي على التقاطع
صورة من موقع الفندق لواجهته ..
لاحت لي اولى بوادر الواجهة المائية، واستبشرت خيراً بقربها من مكان إقامتي
بعبور شارع صغير (احتاج مني لتركيز كبير لأن القيادة عكس شوارعنا).. كنت في قلب الواجهة المائية الجميلة، لأنتقل من شارع الفندق الهادئ إلى مكان صاخب يعجّ بالبشر من كل الأعمار والألوان .. سياح ومقيمين وأطفال وكبار .. فرقاً غنائية وجماعات ترقص وأخرى تجلس على المدرّج الصغير تتابع ما يدور في المكان أو تطعم النوارس التي يفوق عددها عدد الناس..
ملأني المكان بالحيوية فوراً وطار شعوري بالإرهاق وحتى الجوع والنعاس .. ساعدتني بذلك الأجواء اللطيفة والنسمات الباردة، فتجولت في المنطقة لآخذ فكرة عمّا فيها في البداية، وتفرجت على مجموعة من العروض اللطيفة ..
واجهة المول الكبير
الموسيقى الإفريقية لها طابع مميز تشعرك بأنك دوماً على استعداد للحركة على إيقاعها والرقص معها .. كانت من بين الجمهور عجوز لا يسعني تقدير عمرها لكبر سنها وانحناء ظهرها، ولكنها شاركت الفرقة برقصة في غاية المرح وانتهت قبل أن أبدأ التصوير للأسف ..
قررت صعود العجلة، فهي لا تبدو مرتفعة وسيكون من الممتع أن أجربها وحدي
وكانت بالفعل تجربة هادئة خالية من الانفعال ههههه فارتفاعها ليس كبيراً، ولم يكن هناك اهتزاز يذكر في العربات كما أن عدد الركاب كان قليلا جدا، فلم تتوقف العجلة عن الدوران للتحميل .. احتللت عربة لوحدي وبدأت التصوير من كل مكان .. ولكن الضباب الكثيف حال بيني وبين المعالم الرائعة التي تطل عليها المنطقة، كجبل الطاولة.
فندق شهير وفاخر في وسط الواجهة المائية (فكتوريا أند ألفريد)
هنا يظهر بوضوح ستاد كيب تاون والتقاطع (الدائري) الصغير الذي يوصل إلى فندقي. أما المبنى الأصفر الذي يبدو سطحه كالقلعة، فهو سجن تحوّل إلى نزل وفندق اسمه بريك ووتر Breakwater Lodge
عدت إلى الأرض بسلام
وواصلت جولتي سيراً في المكان، وهناك لم يضايقني أي شخص او أي نظرة أو اي تصرف .. فعلياً لم أشعر بأنني قطعت نصف الكرة الأرضية ولم يساورني أي شعور بالغربة في هذه المدينة الحميمة..
كنت أسير وأنظر في وجوه الناس، ربما ينحدر هذا الأشقر من سلالة ماكغريغور .. وهذه الإفريقية ذات الجدائل الداكنة، هل تعرف تاريخ قبيلة بارولونغ ورجالها الشجعان من أمثال باندا؟ أيعقل أن يكون أحد المارة حفيداً للتاجر الجشع، فان دير ميرفي؟ كلا ... لقد قتل الوغد نفسه وليس له أحفاد ..
أوصلتني قدماي إلى مدخل المول الكبير، فقررت أن ادخل بحثاً عن مكان للراحة وتناول الطعام.. وهناك وجدت مطعم اوشن باست الشهير، والذي استدليت عليه من المواضيع القيّمة في المنتدى .. ووضعته في مقدمة مخططاتي الطعامية الشريرة لدى وصولي
فدخلت على الفور واخترت الجلوس في الشرفة الخارجية .. مع هذه الإطلالة الرائعة والأجواء اللطيفة
والرفقة الظريفة
والطعام الشهيّ ...
الطعام لذيذ والسعر مناسب جدا جدا، و طاقم الخدمة في غاية اللطف.. لم أرغب حتى بمغادرة المكان ولكن كان لا بد من المشي قليلاً بعد الوجبة الشهية .. فأخذت جولة أخيرة في الجانب الآخر من الواجهة..
وقفت لبرهة على الجسر الأبيض قبل أن أسمع صفارات تنبه بضرورة الابتعاد فوراً بسبب رفع الجسر ومرور سفينة مكانه ..
6000 كيلومتر إلى القطب الجنوبي .. يلا؟
أحب هذه الصورة كثيراً ....
بدأت السماء تمطر مع حلول الظلام، فاخترت العودة إلى الفندق سريعاً، فلا زال هناك اجتماع عمل آخر... فالتقطت الصورة الختامية للجولة الرائعة ..
وعدت إلى غرفتي لأجد رسالة الاعتذار اللطيفة هذه على المكتب مع قطعة شوكولاتة (جاءت في وقتها) ..
انتهيت من العمل قرابة التاسعة والنصف، فعدت إلى غرفتي أمارس طقوسي الخاصة بالسفر المنفرد .. والتي تتضمن دوماً مشاهدة حلقات مسلسل كوميدي قديم أضحك على أحداثه التي أحفظها، مع تناول كميات غير منطقية من الشوكولاتة حتى انام
في اليوم التالي استيقظت مبكرة ونزلت للإفطار في مطعم الفندق.. حيث يقدمون تشكيلة لا بأس بها من الأطباق وإن لم تكن جميعها مناسبة في مكوناتها لنا كمسلمين .. ولكن الشيف لبى رغبتي باستخدام مقلاة نظيفة لإعداد طبق من الأوملت وبهذا حصلت على وجبة ممتازة مبدئياً
رتبت أموري قبل التوجه إلى قاعة الاجتماعات بحجز تذكرة للباص السياحي "هوب أون - هوب أوف" City Sightseeing .. حجزت تذكرة للخط الأحمر عبر الإنترنت بسعر 170 راند (حوالي 9 دنانير أردني - 45 ريال / درهم تقريبا) .. وكانت تلك الوسيلة الأنسب للتنقل عبر المعالم الرئيسية، والسبب أولاً هو عدم توفر المواصلات العامة بالنظام والترتيب الذي نراه في مدن أخرى .. بينما التاكسي مكلف وغير عملي أبداً. أيضاً تواجدي لوحدي يجعل التنقل في هذه الوسيلة أكثر سهولة بالإضافة إلى السعر الممتاز للتذكرة..
لحسن الحظ تواجد جميع المشاركين بالاجتماع في الوقت المحدد رغم كونه مبكرا، فبدأنا سريعاً وأنجزنا عمل اليوم في وقت مبكر مما أتاح لنا جميعاً يوماً كاملاً من الفراغ وحرية التجول ..
انطلقت لتبديل ملابسي وتوجهت على الفور إلى منطقة الووتر فرونت لأستقل الباص من هناك وأبدأ الجولة .. وهدفي الأساسي كان زيارة حي بوكاب وجبل الطاولة ..
لفة صباحية على الووتر فرونت قبل موعد الباص
الشباب الطيبة
قتلتني هذه العبارة ضحكاً.. وخاصة أنني أم وأعرف صعوبة "العقاب" الذي يقترحونه:
"إن لم تنتبه لأطفالك فسنعطيهم إسبريسو مع قطة صغيرة مجاناً"
وهذه أيضاً.. توجدان أمام سوق الأطعمة V&A Food Market .. وهو مليء بالمقاهي والمطاعم المتنوعة
موقف الباص موجود بجانب الأكواريوم تماماً.. هناك أبرزت لهم حجزي على الهاتف فحصلت على السماعات وتذكرة ورقية ينبغي إبرازها للسائقين عند الصعود .. جلست في المقعد الأول في الطابق العلوي للحصول على أفضل رؤية ..
أولى محطات الباص هي الواجهة المائية ومنطقة الأحواض الجافة التي بدا لي إنها لإصلاح أو طلاء السفن وصيانتها ..
من بدايات الجولة
هنا توجد محطة القطارات .. سمعت في التعليق أن قطاراً فاخراً ينطلق من هنا إلى بريتوريا، التي تبعد حوالي 16000 كيلومتر شمالاً.. مما أثار فضولي لأبحث في الأمر لاحقاً.
بالفعل.. تستمر الرحلة 27 ساعة بين كيب تاون وبريتوريا وبالعكس .. في عربات فاخرة ومقصورات خاصة ولكن الخدمة تجري أربع إلى سبع مرات في الشهر كحد أعلى، بينما تبدأ الأسعار من حوالي 18 ألف راند وتصل في مواسم الذروة إلى 29 ألف راند .. !!
يمكنكم البحث عن صور مقصورات القطار وعرباته الفاخرة بالبحث عن القطار الأزرق blue train من كيب تاون إلى بريتوريا .. فلربما رغب أحدكم بعيش تجربة من الدلال على طراز القرن الثامن عشر
بعد ذلك يدخل الباص شارعاً مزدحماً نوعاً ما، يطلق عليه اسم لونغ ستريت 18، أعجبتني فيه طرازات المباني ونوافذها وألوانها الهادئة..
وبعد مسافة بسيطة جداً وصلنا إلى حي بوكاب.. أو حي الملايو نسبة إلى أصول معظم ساكنيه .. وربما كان الوجهة الأهم بالنسبة لي في هذه الجولة ..
نشأ هذا الحي الحافل بالألوان والصور في القرن 18 مع إحضار الهولنديين للعبيد من الهند وآسيا. في تلك الفترة المظلمة من تاريخ جنوب إفريقيا، منع المستعمرون العبيد من ارتداء الملابس الملونة فتمردوا على ذلك بطلاء منازلهم بهذه الألوان الجميلة.. ومع أن العبودية انتهت ولم يعد لها أثر في يومنا هذا، لا يزال سكان الحي محتفظين بهذا التقليد الجميل، وهم في غالبيتهم العظمي مسلمون (حوالي 90%)
ولعل اللغة الأنسب هنا لغة الصور والألوان الجميلة ..
كان المكان مزدحماً نسبياً بالسياح ولهذا لم أتمكن من التقاط الصور الواضحة كما أردت..
الالوان
دخلت شارعاً مختلفاً لاتجنب الزحام
على نافذة هذا المنزل وضعت صور تدل على وحشية التعذيب الذي تعرض له الأفارقة "وربما المسلمون، لأن إحدى الصور تذكر اسم البوسنة".. وتطلق عليها الهولوكوست الأسود نظرا لمقتل 35 ملين إفريقي وبيع 15 مليون آخرين إلى تجار الرقيق ..
مدخل مبتكر
اعتقد انه متحف صغير .. كان هناك زحام شديد في المكان ولم أرغب بالدخول لأنني بصراحة خفت من وجود صور تعذيب وقتل
قررت مغادرة الحي والتوجه إلى مكان آخر
ولكن بالطبع لا يمكن أن تزور بوكاب ولا تزول "أول مسجد" ...
في الطريق هناك مسجدا أحدث وأكبر هو "نور الإسلام" .. اللهم أعز الإسلام في كل مكان
وهنا يوجد "أول مسجد" ..
بني المسجد عام 1794 وكان أول مسجد في جنوب إفريقيا، ومن هنا جاء اسمه اللطيف ..
اقتربت من المسجد بتردد واضح فسارع رجل عجوز طيب يجلس على دكة بجانب المدخل بدعوتي للدخول، وقال لي أن اليوم موعد حلقات التحفيظ للسيدات أصلاً، فتشجعت ودخلت ..
غمرتني مشاعر لا يسعني وصفها .. فهناك مجموعات من السيدات الجالسات في المسجد يستمعن إلى تفسير سيدة أخرى لآيات قرآنية، بلغتهم طبعاً .. كانت الحاضرات منشدّات إليها وإلى كلامها بحيث لم ينتبهن إلى دخولي ووقوفي قريبا منهن
بعد دقائق قررت الصعود للطابق العلوي، وقبل أن أصعد الدرج وجدت سيدتين تعدّان إفطارا ً جماعياً للموجودين على ما يبدو.. رحبتا بي ترحيباً لا يوصف، وانهالتا عليّ بالأسئلة التي لم تخلُ من استغراب - فكيف لك ان تأتي كل تلك المسافة إلى هنا.. من "الأراضي المقدسة"؟ وحدك.؟ أين تقيمين؟ في المرة المقبلة اتصلي بنا.. سندلك على فنادق أرخص ..
أعطتني إحداهن بطاقتها تاكيدا على توصيتهما الأخيرة.. وأخبرتني أن ابنتها درست اللغة العربية وتعمل مترجمة كذلك .. وأنها بالتأكيد سترغب بلقائي! أعربت لها عن سعادتي بالأمر ورغبتي الشديدة بلقائها وابنتها مرة أخرى، ومن ثم استأذنت بالصعود للأعلى والتصوير ..
والحقيقة أني نسيت امر التصوير وجلست أستمع إلى صوت السيدات وهنّ يسمعن ما حفظنه من أوائل سورة البقرة، في صوت واحد ونغمة منسجمة تماماً. كم تعجّبت بداية .. فكيف يحفظ المرء كلاماً بلغة لا يقنها؟ تذكرت المعتمرين حول الكعبة كيف يرددون الأدعية خلف شخص يلقّنهم إياها.. وحينها أدركت من جديد كم نحن محظوظون بأن العربية هي لغتنا .. وكم نحن مقصرون أحياناً في اغتنام تلك النعمة .. فها هم في أقاصي البلاد يجتهدون أيما اجتهاد لدراسة القرآن وتدريسه لأطفالهم وتفسير آياته وحفظه دون ان يتحدثوا من العربية كلمة واحدة ..
التقطت بضع مقاطع لكن ربما هذا المقطع الصغير هو الأنسب لسماع القراءة الجماعية الجميلة ..
"عجزت وانا احاول أدرج فيديو !!"
ودعت المشرفات رغم دعوتهن الكريمة لي لمشاركتهم الإفطار، وكم رغبت بذلك حقاً لكنني كنت أتطلع إلى استغلال بقية يومي .. وبصراحة ندمت على أنني لم أجالسهن لفترة أطول ..
ركبت الباص مجدداً في ظل أجواء سادها الضباب الكثيف والمطر الخفيف .. كما لاحظت أن هبوب الرياح اشتدّ ولكن الأمور كانت لا تزال عادية ..
في الطريق إلى جبل الطاولة تسمع حكايات جميلة عن المنطقة المحيطة به واسمها city bowl .. والحقيقة ان لكل مكان في كيب تاون حكاية، ولكل مكان اسم له قصة ..
الطريق صاعد بشكل حاد وملتو للغاية.. بالنسبة لأمثالي من كارهي الارتفاع كان من الصعب البقاء في الطابق الثاني والنظر إلى الهاوية التي تفصلنا عنها مسافة ضئيلة.. لكن "برستيجي" لم يسمح لي بمغادرة مقعدي فآثرت البقاء والتقاط بعض الصور لتسلية نفسي ..
وجدنا جبل الطاولة قد أغلق أبوابه أمام الزوار بسبب الضباب الكثيف .. والذي ازداد كثافة في الأعلى لحد استحالت معه الرؤية لأبعد من أمتار قليلة. توقف الباص حتى موعد انطلاقه المحدد في البرنامج وعاود المسير باتجاه كامبس باي .. الشاطئ الجميل على المحيط، والذي تطل عليه 17 صخرة مميزة المظهر، لقّبت ، كما يحمل كل شيء في تلك المدينة لقباً، باسم الحواريين الاثني عشر. لا شك في ان مطلق التسمية لم يتحرّ الدقة في الرقم أو لم يجد لقباً مناسباً للعدد 17
شعرت بهبوب الرياح بقوة مع اقترابنا من الشاطئ، ولكنني نزلت للتجول على أي حال .. على يمين الطريق منازل فاخرة ذات طرازات عصرية جميلة، وعلى اليسار منه يمتد شاطئ المحيط بأمواج هادرة ..
هنا في الأعلى يوجد جبل "رأس الأسد" Lion's head .. ولكن الضباب يلفه في معظم الأوقات في هذا الوقت من العام
صورتي المفضّلة للمكان
طبعا طبــــــــــعا.. لا بد من تصوير الكراسي الفارغة ..
للأسف بعض الصور مهزوزة بسبب قوة الرياح الشديدة
هنا بدأ المطر يهطل بغزارة، فاحتميت بمظلة موقف الباص السياحي إلى ان حضر في موعده، وجلست في المقاعد المغطاة بالطبع .. ورغم مرور الباص في أماكن جميلة إلا أن الضباب والمطر على النوافذ حالا دون التقاط أي صورة ذات مغزى ..
نزلت من الباص في موقف ووتر فرونت من جديد.. ومع قوة المطر، لجأت على الفور إلى السوق المغطى، والذي كان ملاذا ممتازاً حتى توقف تساقط حبات المطر الكبيرة .. المؤلمة.
المكان مخصص للحرف اليدوية والمشغولات الجميلة، ومنها بالفعل أعمال توقفت أمامها طويلاً.. لكنني أحتار دوماً بين التصوير أو عدمه في تلك الأماكن - فغالبية الفنانين والحرفيين يعترضون على الفكرة لأنها قد تعني نقل أفكارهم وتقليدها ..
ولكنني لم أتمكن من مقاومة الرغبة في تصوير هذه
بعد توقف المطر ذهبت إلى مول V&A في قلب الواجهة المائية، حيث تناولت غدائي واستعدت نشاطي قبل أن أتجول في السوق لأبحث عن توصية سيف الدين لي .. فقد طلب مني وأكد علي 100 مرة أن أحضر له الـ big 5 .. وهي الحيوانات الخمسة الكبرى التي تتواجد في جنوب إفريقيا جميعاً. المشكلة أنه طلب تلك الحيوانات معاً في شيء واحد .. على حد تعبيره "حطيها في سلة وحدة" .. وأنفقت الكثير من الوقت باحثة عن أي لعبة تجمع الأسد والفهد ووحيد القرن والجاموس والفيل الإفريقي ..لكن يومي الثاني انتهى دون العثور على طلبه ..
ونختم اليوم بهذه المقولة على باب أحد المقاهي ::
المرأة ككيس الشاي، لا تدرك مدى قوته حقاً حتى تضعه في الماء الحار (أي لن تعرف قوة المرأة إلا في الشدائد )..
وكمان في هالجزء بالذات عندي صور كتييير ومقاطع فيديو، بصراحة ما قدرت أتخلى عن أي منها لجمالها .. فرح أعتذر لكثرتها مقدما ..
والملاحظة الأخيرة قبل ما ابدأ الكلام المفيد، انه كل هالصور من التلفون للتقرير مباشرة بدون أي تحرير أو تعديل لا على الاضاءة ولا الالوان .. تخيلوا كم هي أجمل على الطبيعة! سبحان الله العظيم ..
صباح اليوم الثالث كان اجازة بدون اجتماعات تهمني (كل مجموعة اجتمعت لوحدها وتحدثت بلغتها وأنا ما الي لزوم).. طبعا كنت أعرف هذا الترتيب مسبقاً واستغليت الأمر أبشع استغلال
فحجزت رحلة ليوم كامل عن طريق موقع Viator الممتاز .. ميزة الموقع توفر رحلات متعددة بكل الخيارات .. رحلات قصيرة ونصف يوم ويوم كامل وعدة أيام .. رحلات شخصية ومجموعات كبيرة.. مناطق متعددة في كل مدينة مما يفتح المجال واسعاً أمام المسافر للاختيار..
نظرا لصعوبة المواصلات العامة في جنوب إفريقيا، ولأنني بالتأكيد لن أقود سيارة على اليمين
كان هذا الخيار هو الأمثل بالنسبة لي .. فاخترت التنقل مع مجموعة متوسطة العدد بسائق خاص وباص صغير عبر رحلة ليوم كامل بعنوان "رحلة شبه جزيرة الكيب انطلاقاً من كيب تاون" .. حجزتها قبل سفري ودفعت ثمنها في نفس الوقت ليصلني التأكيد على الفور
وقبل الرحلة بيوم واحد، اتصلت الشركة المسؤولة عن الرحلة بالفندق لإبلاغي بموعد حضور السائق/الدليل إلى الفندق، حيث عليّ أن أكون جاهزة وبانتظاره في الثامنة والنصف صباحاً.
استفاقت كيب تاون على اجواء غائمة وباردة ... حتى إن الموقد كان مشتعلاً في بهو الفندق في منظر غير مريح لي نفسياً
فأنا وبكل أسف أكره البرد بكل أشكاله وتوابعه
الأجواء في الساحة الخارجية للمطعم
تسليت بالتقاط بعض الصور بعد الإفطار في انتظار بداية الرحلة .. ولا أعرف فعلاً لماذا أشعر بالخجل عند التصوير في الاماكن المغلقة، وكأنني أ
سرق الصور سرقة !!
في تمام الثامنة والنصف حضر مندوب الشركة، وهو رجل أسمر لطيف المحيا بشوش ومبتسم طوال الوقت .. حياني بابتهاج كما لو كنت أول سائحة سيصحبها في حياته، ورافقني إلى الباص حيث مجموعة من سبعة أشخاص آخرين هم رفاق الرحلة .. أربعة ألمان، زوجان ماليزيان وشاب أسترالي ..
انطلقت بنا الحافلة الصغيرة مع ترحاب ومقدمة مرحة جداً من الدليل، والذي كان اسمه صعباً للغاية ولم اتمكن من حفظه .. وخيّرنا بين الحديث بالإنجليزية أو الألمانية لأنه يتقن كليهما، ولأن نصف المجموعة ألمان لا يفهمون الإنجليزية كثير اً.. بالطبع انتهى الامر لصالح الإنجليزية وأصبح يكرر الكلام باللغتين في كل مرة ..
محطة التوقف الأولى كانت في كامبس باي الذي مررت به بالأمس ولكن في منطقة أكثر جمالاً وملاءمة للتصوير .. أمام صخرات "الحواريين الاثني عشر" .. ومع هبوب ريح شديدة جدا كادت تزيحني من مكاني.. لكن المنظر الأخاذ أنساني البرد والعواصف ..
الصخرات المقصودة هي هذه المكسوة بالغيوم ..
مقابلنا صخرة رأس الأسد ..
منظر مكرر لكن قلبي لم يطاوعني ان أترك أي صورة
تركنا المكان بعد قليل وتوجهنا إلى هوت باي Hout Bay.. وقبل الوصول دعوني احدثكم عن الريح في كيب تاون تحديداً، فلها قصص وأسماء وأهمية كبيرة - حتى أن أسعار العقارات ترتفع وتنخفض حسب سرعة الرياح في المنطقة..
ومن أشهر الرياح عندهم تلك التي تهب بين الربيع وأواخر الصيف (في القطب الجنوبي يكون ذلك من سبتمبر إلى مارس) .. ويسمونها "رياح طبيب الكيب Cape Doctor" لأنها تهب من المحيط وتنظف الجو من التلوث والشوائب ..
أما الرياح القادمة من الجنوب الشرقي الخريف والشتاء فهي غالبا مزعجة ومحملة بالأمطار، ومنها الريح التي سببت فيضاناً عارماً عام 1981 تسبب في قتل 104 أشخاص وهدم جميع منازل قرية لينغسبورغ، باستثناء 21 منزلاً فقط صمدت في وجه الفيضان.
وصلنا إلى هوت باي.. وهي منطقة جميلة فيها ميناء للقوارب الصغيرة وسوق متواضع للتحف والمشغولات اليدوية. خيّرنا الدليل بين التجول في المكان وبين أخذ رحلة بحرية إلى جزيرة الفقمات seal island. في البداية اخترت البقاء في المكان رغم أن كل زملائي في الرحلة اختاروا زيارة الجزيرة.. ولكنني سرعان ما عدلت عن رأيي عندما رأيت ثلة من الكلاب -اكرمكم الله- ترتع في المكان دون ضبط أو ربط
.. عندها فضّلت الذهاب معهم على البقاء وحدي .. واشتريت تذكرة لصعود القارب الذي أكّد لنا الدليل أنه الأكثر أماناً - خاصة في هذا الجو العاصف المكفهر...
ميناء هوت باي الجميل ..
القارب متواضع فيه جلسة داخلية ببضع طاولات وأخرى خارجية لا يمكن الجلوس فيها بل التمسك بالحواجز فقط.. اخترت الجلوس في الداخل نظراً لحالة الطقس التي ازدادت سوءاً مع تقدم الوقت .. حتى انني كنت أسمع صرخات الركاب في الخارج كلما ضربت القارب موجة كبيرة ترفعه عالياً قبل أن يهبط بحدة .. لم يكن الوضع مطمئناً صراحة، ولكني كنت أخبر نفسي أن بإمكاني السباحة إلى أية صخرة قريبة لو حصل أي شيء ... وبعدها ربك يحلها ..
خرجت إلى السطح عند اقترابنا من الصخرة التي تتجمع عليها مئات الفقمات او تسبح حولها ...
منظر مقرب من إحدى الجهات
صورت مقطع فيديو عندما هدأ الجو نسبياً.. ولكن رحلة العودة كانت سيئة بسبب هطول المطر واشتداد الرياح فلم أصور شيئاً تقريباً بعد الابتعاد عن الجزيرة
والحقيقة أنني لم أعرف ما تفسير تواجد هذا العدد الكبير على الصخرة، والمسماة مجازاً بالجزيرة، منقطعين في وسط البحر .. ولم أسأل عن السبب لأنني لا أحب الفقمات ههههه
استقر الجو عند وصولنا الميناء فقط ..
ويبدو أن هذه الفرقة تقدم عروضها كلما ترجل ركاب القوارب .. أحزنني كثيرا وجود رجل مسن للغاية بينهم
وهذه الفقمة اللطيفة كانت ترقص على انغام الموسيقى امام المصورين، ومدربها يجمع المعلوم هههه
ودعنا هوت باي متجهين إلى محطة التوقف التالية - تشابمانز بيك Chapman's Peak
المحطة التالية هي تشابمانز بيك، وهي الجزء الأبرز من طريق بديع الجمال يسمى Chapman's Peak Drive. وقصة الاسم، يا رعاكم الله، هي أن سفينة إنجليزية توقفت في خليج هوت باي عام 1607 وأرسل قبطانها مساعده جون تشابمان للبحث عن المؤن والماء.. وتقول القصة أنه صعد تلك القمم ووقف على أعلاها ليشير للسفينة بأنه لا يزال موجوداً، وذلك بعد أن ضل طريقه لفترة طويلة وخشي ان تغادر السفينة بدونه بسبب اعتقاد طاقمها بأنه تعرض لحادث ما
توقفنا عند الصخرة ذات الإطلالة الجميلة، ولكن سرعة الرياح كانت قد ازدادت بشكل مخيف تعذّر معه تثبيت الكاميرات والهواتف في أيدينا ..
دليلنا الرائع وهو يصور أحد أعضاء الرحلة ..
كنت أحاول تصوير شيء ما .. بالتأكيد ليس الصخور، ولكن هذه النتيجة بسبب هبة ريح قوية ..
لم نبق هنا أكثر من 5 دقائق نظرا لسوء الطقس .. وركبنا من جديد باتجاه سايمونز تاون..
الطريق في غاية الجمال، وهناك حواجز من الشبك المعدني تغطي غالبية أجزائه الجبلية التي كانت إلى يسارنا، تم وضعها في مكانها لتجنب الانهيارات الصخرية التي وقعت في السابق وأدى بعضها إلى وفاة أشخاص.. ومنها حادث تسبب برفع قضية على مجلس مدينة كيب تاون. خسرت المدينة القضية ودفعت تعويضات كبيرة وأغلقت الطريق لثلاث سنوات للقيام بالإصلاحات والإجراءات التي من شأنها منع تكرار تلك الحوادث..
من تلك الإجراءات فرض رسوم على استخدام هذا الطريق بالذات. عندما توقفنا عند كشك دفع الرسوم بدأ السائق يتحدث بلغة غير مفهومة لنا، أخبرنا فيما بعد انها لغة القبيلة التي تعود أصوله إليها .. وهي لغة سوازي، واحدة من بين 11 لغة رسمية في جنوب إفريقيا !!
يكفي معلومات مملة .. وصلنا إلى سايمونز تاون.. سرعة الرياح حوالي 120 كيلومتر في الساعة وبانتظارنا شلة من البطاريق الإفريقية.. كنت في غاية الحماس أسابق الجميع لأصل إلى مكان مشاهدة البطاريق.. ورغم أنني أكره تلك الأجواء الباردة إلا أنها أضفت على المكان جمالاً مدهشاً . أترك لكم الصور لتعبر عنه أفضل من أي كلمات ..
مخلوقات في غاية اللطف والرقة .. حركتها مضحكة ومحببة للغاية .. طبعا لولا وجود سور خشبي يفصل بينها وبين الناس لتحولت جميعها إلى كبسة بطاريق
في أجمل
؟؟؟؟
تركت البطاريق اللطيفة بعد أن صورت ثلاث مقاطع رائعة .. لا يعكر جمالها صوت هدير الرياح المزعج
كان السائق قد سألنا في الطريق إن كنا نرغب بتناول الغداء في سيمونز تاون لأن المطعم الموجود هناك يعمل بنظام الحجوزات فقط، فاتفقنا على ذلك واتصل هاتفياً ليحجز للمجموعة في موعد الغداء ..
اسم المطعم سيفورث Seaforth .. طعامه جيد جداً والسعر كان ممتازاً نظراً لأنه مطعم "مرتب" يقدم قائمة اطباق كبيرة مع مقبلات وسلطات وغيرها ..
إطلالة المطعم
الموقف المضحك في المطعم هو ان الألمان الأربعة توسطوا المائدة تقريباً، وبقي الأسترالي في طرف وأنا في طرف آخر، والماليزيان مقابل بعضهما. اندمج الألمان في حديث بلغتهم، والماليزيان كذلك .. وبقيت أنا والأسترالي ساهمين لا نتحدث إلى أحد. بالطبع أنا أفهم الألمانية وأتحدث بها جيدا ولكنني لم أقحم نفسي في الحديث معهم - بل تسليت بسماعه وحسب، ولكني أشفقت على الأسترالي الذي ارتسمت على وجهه كل علامات التعجب والاستفهام والترقيم أجمع
تخيلوا أن بطريقاً كان يسير قريبا من نافذتي ! تماماً كما تقترب القطط من نوافذ المطاعم .. !
أعود لتكملة الموضوع من حيث توقفت – إذ توجهنا من المطعم في سايمونز تاون إلى رأس الرجاء الصالح.. اسم يرنّ في ذاكرتي منذ طفولتي المبكرة، ربما سمعته لأول مرة في برنامج تلفزيوني أو نحو ذلك، وأذكر تماماً كم ضحكت مع شقيقتي على الاسم الغريب وألفنا النكات الطفولية عن رأس رجاء وراس صالح...
كما يحضرني صوت معلمة الجغرافيا بصوتها الرنان وهي تحكي لنا قصة اكتشاف المكان واهميته الجغرافية والتجارية .. إلا أنني لا أنسى يوماً اهتمامي الغريب وتعلقي برأس الرجاء الصالح فقط لأنه النقطة الأبعد جنوباً في إفريقيا...كنت أتخيل شغف المستكشفين ومثابرتهم للوصول إلى المجهول الذي قد يموتون في سبيله، وأتخيل فخرهم بالاكتشاف الكبير .. فأشعر أنني بحاجة لأقف في ذلك المكان استعيد الأحداث وأستحضر الأجواء ..
ولكن الحياة الواقعية ليست حالمة بهذا الشكل. اخترت الجولة السياحية لأنها تتضمن زيارة رأس الرجاء الصالح بالفعل، ولكن الرياح لا تأتي دوما بما نشتهي -والمثل في هذه المرة ينطبق حرفياً:
سارت بنا الحافلة حوالي الساعة قبل الوصول إلى محمية رأس الرجاء الصالح، وهي منطقة شاسعة تمتد حتى اطراف المحيط وتعيش فيها أنواع عديدة ومحمية من النباتات والحيوانات، لم نر منها إلا غزالا واحداً بسبب الأجواء السيئة.
هذه الصورة تم تصغيرها . الحجم الافتراضي لها هو 1328x747.
وصلنا إلى مكان المنارة وترجلنا من الحافلة .. تباطأ البعض في تجوالهم واحاديثهم معاً أما أنا -وهي من فوائد التنقل وحيدة- فأسرعت إلى مكتب التذاكر وحصلت على تذكرة صعود ونزول بالقطار الجبلي funicular وتوجهت هناك بسرعة. في تلك الأثناء كانت سرعة الرياح بلغت اوجها، إلى حد أنني لم أتمكن من التماسك والثبات بينما صعدت الدرجات المتبقية بعد محطة القطار وصولاً إلى المنارة.
المكان جميل جداً والإطلالة أكثر من رائعة، ولكن الصور للأسف سيئة جداً بسبب اهتزاز الأجسام والأيدي والكاميرات مع كل هبة ريح بينما تطايرت الأوشحة وجاهد الجميع للبقاء ثابتين في أماكنهم!
حاولت كثيرا إدراج الفيديو بالشكل الصحيح ولم أفلح أبداً !!
إليكم الرابط
بحسب كلام الدليل، فإن الفكرة السائدة بظهور التقاء المحيطين الهندي والأطلسي من هذه النقطة غير صحيحة، إنما يمكننا أن نرى ملتقى تيار دافئ وآخر بارد بما يشبه نقطة فوران للماء ...
هنا كانت للريح الكلمة الفصل، فقد هبّت بقوة أعنف مما سبق فقررت العودة إلى القطار ثم الحافلة – فالرؤية لم تكن واضحة والتجربة تخلو من المتعة بينما أحاول أن أتماسك كي لا أسقط أو يطير وشاحي الذي منعني من الرؤية لغالبية الوقت
ليست الريح العاتية بالظاهرة الغريبة هنا. فعندما اكتشف بارثلوميو دياز رأس الرجاء الصالح في القرن الخامس عشر، أطلق عليه اسم "رأس العواصف" .. إلا أن الملك البرتغالي جون الثاني غيّر الاسم إلى "رأس الرجاء الصالح" تيمناً و تفاؤلاً بما سيعود به الاكتشاف من فوائد تجارية نظراً لوجود طريق بحري يربط أوروبا بالهند..
نزلت سريعاً، وما إن وصلت إلى الحافلة حتى بدأ المطر بالهطول قبل أن يتحول إلى عاصفة من البرَد الكثيف ويهبط الظلام قبل أوانه. بقيت في الحافلة مع الدليل ننتظر رفاق الرحلة السبعة الذين تأخروا كثيراُ.. فلا يعقل أنهم يستمتعون بالمناظر من الأعلى في هذا الجو التعيس. مرت أكثر من نصف ساعة قبل أن يظهر اولهم، يتبعه رتل من البشر الذين يقطرون ماء من كل مكان : فقوة الريح والمطر سببت انقطاع الكهرباء وتوقف القطار الجبلي، وبالتالي كان عليهم النزول لمسافات طويلة سيرا على الأقدام!
ساد الوجوم الأجواء فالجميع يعاني من الإرهاق والبرد والبلل، ولا زال الجو في أسوأ أحواله.. فهبطنا إلى الشارع الرئيسي لاستكمال الطريق بدورة كاملة حول منطقة الرأس الغربي وفقاً للمخطط ... إلا أننا فوجئنا بأن الطريق مغلق بسبب سقوط الأشجار فعدنا أدراجنا من حيث أتينا سالكين الطريق ذاتها..
هنا زادت حدة التوتر في الأجواء، وحاول الدليل أن يلطفها ولكنه لم يفلح -بل إن البعض حاول إلقاء اللوم عليه- فآثر الصمت على الجدل والكلام. وليزيد الطين بلة، علقنا في أزمات مرورية خانقة نظراً لإغلاق الكثير من الطرق بسبب الخوف من سقوط الأشجار أو الانزلاقات الصخرية وغيرها... مما زاد حدة الزملاء الغاضبين الذين صبوا حنقهم على الدليل المسكين! كان بودّي ان أتحدث إليهم ولكن عدائيتهم الواضحة أخبرتني أن من الحكمة تجاهلهم تماماً.
وصلت إلى فندقي مع غروب الشمس تقريباً، واستعدت نشاطي بحمام دافئ وكوب من الشاي الساخن قبل أن أقرر الذهاب إلى مول ووتر فرونت للعشاء وشراء بعض الأغراض ... ومن ثم عدلت المخطط، احتياطاً، وقررت شراء لوازم العشاء وتناولها في الفندق بدلاً من البقاء في الخارج لوقت متأخر. صحيح أنني لم أواجه أي موقف أو ألاحظ وجود خطر .. لكن الحرص أفضل في كل الأحوال..
طبعا لوازم العشاء والغداء وكل الوجبات في السفر هي كل أنواع الخضار المناسبة للسلطات - أكيد ليس لمحاولات تخفيف الوزن بل لأنها الأنظف والأسهل ولأن الجسم يحتاج دوما إلى مذاق المالح والحامض بعد التعب (ربما ليس الجميع) ... أتبعها طبعا بقطعة من الشوكولاتة الشهية
هذه المرة اشتريت هذه الشوكولاتة المصنوعة في إفريقيا ... لذيذة جدا
وعند عودتي إلى الغرفة وجدت هذه القطعة اللطيفة بانتظاري على الوسادة
وكانت القطعتان وحدهما كفيلتين بإزالة الإرهاق والقليل من الاستياء الذي شعرت به في نهاية الرحلة، لأنام وأنا أتطلع إلى يوم جديد أفضل من سابقه
استيقظت في اليوم التالي على أجواء أفضل بكثير .. تظهر فيها الشمس من خلف الغيوم لتبعث دفئاَ محبباً وتخفف من حدة الكآبة التي أصابتني بسبب أجواء الأمس.
قررت استغلال الفرصة فوراً والعودة إلى جبل الطاولة، ولم أجد وسيلة أفضل من ذلك سوى ركوب الباص السياحي مجدداً، فتذكرته رخيصة وركوبه ممتع في هذا الجو.. ومواعيده مضمونة ومناسبة.
اشتريت التذكرة عبر الإنترنت مجددا لتلافي الزحام المتوقع نظراً لجودة الطقس، وتناولت إفطاري ثم سرت إلى مكان انطلاق القطار قرب الأكواريوم. قررت عدم النزول في أي محطة سابقة للجبل – رغم رغبتي الشديدة بالعودة إلى حي بوكاب الملون من جديد في هذه الأجواء- لكن تقلب الطقس السريع قد يعني ضياع الفرصة من جديد، وهذا ما لا أريده.
من المباني الجميلة في شارع لونغ ستريت بالطريق
من الخدمات الممتازة في الباص السياحي إمكانية شراء تذكرة التلفريك ودخول المحمية في جبل الطاولة Table Mountain من السائق مباشرة، حيث تكون لديهم معلومات حول ما إن كانت الوجهة متاحة للزوار ومفتوحة أمام الفعاليات أو لا.
في الطريق عبر منطقة City Bowl تسمع قصة مثيرة عن عمارتين شاهقتين حاول سكان المنطقة الاعتراض على وجودهما، وذلك لأن قوانين البناء في هذه المنطقة بالذات تمنع البناء لأعلى من ارتفاع معيّن للحفاظ على جمال المنظر العام امتداداً من جبل الطاولة وصولاً إلى المحيط .. ولكن الشركة المطوّرة للمشروع وجدت ثغرة في القانون وتمكّنت من البناء رغم ذلك – وقرر السكان تسمية المبنيين بعلبة الملح والفلفل salt and pepper shaker، ربما محاولة منهم للانتقاص منها.. ولكم بالطبع أن تتخيلوا جمال الإطلالة المذهلة من تلك المباني..
وصلنا جبل الطاولة – وبالمناسبة أعرف ان اسمه العربي مضحك وغير جذاب ولكن طالما التقرير بالعربية أفضّل الالتزام بالأسماء العربية للأماكن- وهناك كان عدد الزوار هائلاً، يصطف معظمهم على شباك التذاكر. أما أنا فمن حسن حظي أنني حصلت على تذكرتي من سائق الباص السياحي فاتجهت إلى طابور آخر -ليس أقل طولاً ولكنه أسرع في الحركة- وهو الطابور المؤدي إلى التلفريك مباشرة.
الوادي من خلفكم والتلفريك من أمامكم فأين المفر!
رغم علمي المسبق بأن التلفريك يصل إلى ارتفاع يفوق 1000 متر فوق سطح البحر، لم أشعر بالتردد أو الخوف إلا عندما رأيت هذا المنظر ::
يعني على الأقل يجب أن أرى الطريق والنهاية قبل الصعود
تم تجميعنا في مكان الصعود إلى التلفريك - 65 شخص في كل عربة ، وهما اثنتان فقط حسب ما شاهدت. صعدت العربة الأولى وكنا بانتظار وصول الثانية لتفرغ حمولتها .. وحينها صرت أتلفت حولي لأرى إن كان هناك مجال للتراجع أو تغيير رأيي. هنا لمحتني السيدة العجوز التي تقف بجانبي وسألتني "ما بك.. تبدين متوترة"... اجبتها "هل فات أوان التراجع؟" فقالت لي بمرح
"تأخرت كثيراً.. لن تتراجعي وستقومين بالأمر .. سنقوم به معاً".. ثم تأبطت ذراعي معلنة أنها لن تسمح لي بالاستسلام
.. ابتلعت ريقي وسلمت أمري لله .. فالعربة وصلت والسيدة البريطانية لا تبدو مستعدة للنقاش..
صعدنا جميعا إلى العربة التي تتميز بنوافذ زجاجية تحيط بهيكلها الدائري من كل مكان، وبأرضية تدور باستمرار طوال الصعود .. ولأكون منصفة تماماً.. فليس في حركة العربة ما يخيف أو يبعث على التوتر فهي ثابتة تماماً وسريعة بشكل مريح ..
أثناء الصعود
وطوال الصعود، كانت السيدة الطيبة تراقبني عن بعد لتطمئن إلى أنني على ما يرام
لم أقاوم الرغبة بتصوير كل زاوية وكل مشهد وإن كان مكرراً.. المنظر من الأعلى خلاب بحق .. ويكفي أن تشعر أنك تعتلي واحدة من عجائب الدنيا السبعة (العجائب الطبيعية)..
المنطقة في الأسفل هي كامبس باي
مجسم للجبل بالكامل. من الجانب الغربي للجبل يوجد المحيط والواجهة المائية والمعالم التي رأيناها حتى اليوم .. أما من الجانب الشرقي، وهو الذي يشهد القدر الأكبر من تساقط المطر، نجد حدائق كيرستن بوش، وهي حدائق غناء ذات شهرة واسعة .. بالإضافة إلى المزارع وكروم العنب .. لأغراض معروفة طبعا
محاولة لتصوير البانوراما
بدأت التجول على الجبل.. وفيه الكثير من الممرات المعدّة للسير والحواجز التي تمنع الوصول إلى المناطق الخطرة .. ورغم ذلك بالطبع تجد الكثير من المستهترين أو المتذاكين ممن يتجاوزونها ليقفوا على الصخور الشاهقة ويلتقطوا الصور والسيلفي
الغطاء النباتي للجبل متنوع للغاية توجد فيه حوالي 2200 فصيلة نباتية ..
صعدت للتصوير من فوق صخرة وسط الجبل
بعد جولة في محلات التذكارات في الأعلى، قابلت خلالها صديقتي العجوز
قررت النزول والاكتفاء بما رأيت.. فالريح بدأت تشتد وأنا لا أرحب كثيراً بذلك
كانت كيب تاون في هذا اليوم (وهو يوم سبت) فعاليات الجولة الثالثة من بطولة الترياثلون العالمية .. وبطولات الترياثلون كما تعرفون هي سباقات متتابعة من السباحة وركوب الدراجات والجري .. ولهذا السبب تم إغلاق بعض الشوارع الرئيسية في المدينة وتحويل المسارات، بما فيها مسار الباص السياحي، إلى شوارع داخلية مكتظة بعض الشيء. أدى ذلك إلى ازمة مرورية وتأخير غير متوقع، ولكن لحسن حظي لم أكن مرتبطة بأي حجوزات أو أعمال وقتها فاستمتعت بالشمس ومراقبة الناس والمباني والحياة وهي تدبّ في كيب تاون الجميلة
استوقفتني هذه اللافتة والتي تذكر تعليم الرقص الشرقي
في "أكاديمية المسرح" ..
هالأسد نشوفه من كل مكان
ومع اقترابنا من محطتنا الأخيرة نرى استاد كيب تاون الشهير
وصلنا إلى الواجهة المائية، وهناك تجوّلت قليلاً والتقطت بعض الصور في اجواء خرااافية
عدت إلى الفندق وأنا أفكر بالخطوة التالية .. كنت أتطلع إلى التسوق في مول عادي، ليس سياحياً، فقررت الذهاب إلى مول كانال ووك Canal Walk حيث مجموعة من المحلات المتنوعة بين المتوسط والفاخر، ومطعم ناندوز الذي أعشقه
طلبت من الفندق إحضار تاكسي وتوجهت للمول بحدود الرابعة.. وهو فعلاً ضخم وكبير لكن ميزته الحقيقية بالنسبة لي أن 90 بالمائة من مرتاديه، إن لم يكن أكثر، هم من سكان المدينة - كل الألوان والأصول والجنسيات، الكثير من العرب والأفارقة والأوروبيين ولكنهم جميعا مقيمون فيها..
لاحظت الكثير من الأسماء التجارية المحلية لمتاجر رخيصة جدا، وهناك أيضاً مستر برايس Mr. Price الذي يشابه برايمارك في أوروبا .. بالإضافة إلى الماركات المتوسطة المعروفة والعديد من المطاعم والمقاهي ..
بعد التسوق لفترة وجيزة شعرت بالجوع وقررت الذهاب إلى ناندوز، والذي وجدته بعد عناء في ردهة المطاعم الكبيرة التي تتوسط المول. كانت المفاجأة بأن المطعم بدون موائد .. فقط تأخذ طلبك وتجلس في ردهة الطعام - أما ردهة الطعام بحد ذاتها فكانت ممتلئة عن آخرها بأناس من كل الأعمار ينظرون جميعاً باتجاه واحد: إلى شاشة عملاقة تنقل فعاليات مباراة غريبة، ربما الرجبي او ما شابهها، ويصرخون معاً.. يبتهجون معاً ويقفزون معاً ..
طلبت من ناندوز وجبتي المعتادة كما اشتريت الصلصات الحارة الشهية لوالدي.. ولكني استأت بالفعل عندما وضع الطلب في كيس ورقي امتص كل الصلصة والتتبيلة
ووجدت صعوبة كبيرة بتناول الدجاج بشوكة وسكين من البلاستيك
على طبق من ورق!
بعد تناول الطعام تمشيت في المول ولكني شعرت بتعب مفاجئ وارتفاع في الحرارة، فآثرت العودة قبل أن يسوء الحال.. مشيت كثيراً في محاولة لإيجاد بوابة لا تفتح على مواقف السيارات - بهدف إيقاف تاكسي- ولكن في النهاية سألت أحد حراس الأمن فقام على الفور بالاتصال عبر اللاسلكي بشخص ما على إحدى البوابات ليرسل تاكسي حيث أقف أنا .. مؤكداً لي انه لا داعي لأمشي إلى الجانب الآخر
سرني تصرفه وبشاشته كثيراً.. وكذلك دماثة سائق التاكسي الذي أبدى اهتماماً كبيراً بمعرفة أكبر قدر من المعلومات عن الجانب الآخر من العالم - الجانب الذي أتيت منه.. كل من قابلت في كيب تاون كان بشوشاً لبقاً يتحدث باحترام .. ولم يطلب أي شخص زيادة على العداد او الحساب أو بقشيشاً، لا تلميحا ولا تصريحا..
وصلت الفندق منهكة.. ولا زلت جائعة بعد الوجبة "الخرطي" التي تناولتها في ناندوز.. فقررت أن أطلب من خدمة الغرف. اتصلت بالمطعم للاستفسار عن الوجبات الحلال سواء الدجاج أو اللحوم فرد الشيف بأنها ليست حلال - فانتهى بي الأمر إلى طلب هذه الوليمة الاحتفالية
وقبل أن ينتهي يومي الرابع ,,, أشارككم مقالاً كتبته وأنا في كيب تاون ونشرته على صفحتي بعدها بفترة..
"قبل سنوات نشرت مجلة بريطانية صورة لأحد معالم جنوب إفريقيا ذكرت أسفل منها أن لغة الأفريكانز، وهي من اللغات الرسمية في البلاد، لغة قبيحة بل الأكثر قبحاً في العالم. فما كان من أحد أثرياء جنوب إفريقيا، وهو رجل أعمال، ملياردير ورئيس لمجموعة تختص بالسلع الفاخرة، إلا أن سحب كافة إعلانات علاماته التجارية من تلك المجلة، مما كبّدها خسائر بالملايين.
حينها قال يوهان روبرت، والذي سحب إعلاناته لأسماء ذات وزن كبير مثل كارتييه، مون بلان وفان كليف أند أربلز وغيرها، أنه لا يمكن أن يقبل أي استهزاء بلغته، وأن أي شخص "يحترم نفسه" كان سيقوم بالعمل ذاته مهما كانت اللغة التي يتحدث بها.
تعود تلك القصة إلى مخيلتي في كل مرة أرى فيها الانحدار الشنيع في مستوى اللغة العربية لدينا نحن العرب، وفي كل مرة تستخدم فيها اللغة الإنجليزية للتخاطب والمراسلة في مجموعة لا تضم سوى العرب. عملت مع الكثير من فرق العمل التي كان كل أفرادها متحدثين باللغة العربية، لا يقيم أي منهم خارج حدود الوطن العربي، ومع ذلك يستخدمون الإنجليزية في كل شأن من شؤون العمل حتى التحية والأمور الشخصية وغيرها. شاهدت ولا زلت أشاهد تعليقات مئات العرب عبر منصات التواصل الاجتماعي بلغة تبدو أقرب إلى لغة عامل آسيوي تغرّب سنتين او ثلاثا في دول الخليج. أما الأسوأ من هذا وذاك فهو ان تجد من يستهزئ بكلمات عربية ومعانيها بينما تسمع متعلمين ومثقفين يسألون عن معنى كلمات أكثر من عادية، وتسود الكتابة بالـ "عربيزي" على ما عداها. وبالطبع لا أنسى ما يصيبني كل بضعة أيام من أسى بسبب اعتراض عميل ما على كلمة عربية لأنها "غير مفهومة" أو تبدو بالنسبة له ذات وقع صيني أو ياباني.
لا أتوقع من الجميع أن يكونوا نسخاً من سيبويه وخلفاء لأحمد شوقي، ولكن أرى أن طريقة البعض في الكتابة هي بحد ذاتها إهانة واستخفاف بلغتنا.. وأرى أن إقامة فعاليات مؤتمر يحضره 150 عربي و 4 أجانب باللغة الإنجليزية انتقاصٌ فادح لهويتنا العربية .. ناهيك طبعاً عن اولئك الذين لا يمكنهم إلا الحديث بمصطلحات غير عربية -بلا ضرورة- غير منتبهين إلى نطقهم المضحك لها. كل هذا يجعلني اتساءل: ماذا لو خرجت مجلة ما باستطلاع يقول أن العربية لغة قبيحة؟ بالتأكيد سنغيّر جميعا صورنا على فيسبوك !"
وصلنا لليوم الأخير فعلياً في رحلتي القصيرة إلى الساحرة كيب تاون.. وعلى عكس الأجواء التي سادت ليلة الأمس، استيقظت على جو صحو مشمس ودافئ، دفعني إلى تناول إفطاري في الحديقة الخارجية لمطعم الفندق ..
خطتي لصباح اليوم كانت تنطوي على تحدٍّ كبير لمخاوفي الدائمة من الارتفاع والطيران .. لم يكن ركوب العجلة الدوارة ولا صعود الجبل بالتلفريك يرتقي إلى مستوى التحدي، ولكن مخطط اليوم يندرج دون شك تحت هذا البند -وهو بند مهم لشخصيتي ومن هم مثلي.. إن لم اواجه تحدياً بين الحين والآخر، فأنا لا اتطور!
تحدثت إلى زوجي وأخبرته بما عقدت العزم عليه
فقد أردته أن يعرف مسبقاً بأنني قررت ركوب المروحية - الهليكوبتر- واستئذانه قبل أن أحجز تذكرة لمغامرتي الصغيرة .. فوجئت بأنه شجعني على الأمر وقال انه بانتظار الصور والفيديوهات.. هنا ساورني الشك بأنه لا يصدق أنني سأنجز المهمة فعلاً وسأتراجع في اللحظات الأخيرة، ولكنني لم أعبر عن ذلك فأنا بالفعل لا اصدق نفسي وهل سأصل إلى هذا الحد ام لا ..
ذهبت إلى الواجهة المائية مبكراً، حيث تنتشر اكشاك لحجز النشاطات المختلفة، ومنها بالطبع ركوب الهليكوبتر، ولكن يبدو أني وصلت أبكر من اللازم فانتظرت فترة إلى أن بدأت الأكشاك والمحلات بفتح أبوابها ..
اخترت واحداً من الأكشاك المتواجدة هناك، وسحبت نفساً عميقاً وسالته عن الأسعار والخيارات، فأعطاني قائمة شرح لي بعض بنودها، وهي بالأساس 4 رحلات تتفاوت في مدتها واتجاهها ومدى تغطيتها .. 15 دقيقة، 20، 30 و 60 دقيقة، اخترت منها عشرين دقيقة بسعر 1000 راند على ما أذكر .. واتفقنا على ان آتي في الواحدة الا ربعاً للانطلاق
كانت معي ثلاث ساعات إلا قليلاً فقررت التجول في مول ووتر فرونت.. احتجت لصرف بعض النقود فاتجهت إلى محل الصرافة (كانت المرة الثانية لي ولكن الأولى مرت بلا أحداث تذكر).. إجراءاتهم معقدة نوعاً ما حيث تملأ استمارة ببيانات عديدة لعنوانك الأصلي وعنوانك في جنوب افريقيا وأرقام هواتف ورقم جواز السفر وغيرها .. إلى جانب إبراز جواز السفر والتوقيع مرة او مرتين .. ينقص فقط أن تؤدي لهم اليمين القانونية بأنك ستستخدم النقود لأغراض شخصية
المهم، على هاتفي تطبيق Xe الشهير لتحويل العملات، أضبطه دوماً قبل السفر بحيث يحتوي عملة البلاد التي اتجه إليها لتسهيل حساب العملة عند الشراء أو الصرف وغيرها. طبعا التطبيق يعرض لك السعر العالمي وبالتأكيد سيكون هناك فرق بسيط في الصرف كالعمولات وغيرها .. ولكنه ممتاز ليعطيك فكرة عن السعر الذي ستحصل عليه. هذه المرة كنت أعرف أن المبلغ الذي انوي صرفه يقابله حوالي 3600 راند حسبما أعلمني التطبيق عندما تفقدته على عجالة قبل الوصول إلى مكتب الصرافة. أطلعتني الموظفة على المبلغ، حوالي 3500 راند، فوافقت على الفور وشرعت بملء الاستمارة المطولة. بعد عدة إجراءات وضعت النقود في الآلة، وقالت لي "ها هي 2500 راند انظري إليها على الجهاز" .. وسلمتني إيصالا أوقعه باستلام المبلغ.. في تلك اللحظات انشغلت برسالة على هاتفي واستلمت المبلغ ووقعت سريعاً.. وبمجرد خروجي لمعت الفكرة أخيراً برأسي .. وأدركت فرق 1000 راند ..
عدت إليها بعد ان عددت النقود ونظرت إلى الإيصال .. 2500 و 3500 راند .. أخبرتها على الفور بأن المبلغ يجب ان يكون 3500 راند ... صحيح؟ أجابت بالإيجاب وهي مستغربة، فأشرت لها إلى آلة عد النقود التي لا زالت تحمل الرقم 2500 .. وأدركت خطأها على الفور واعتذرت بأنها نسيت الرقم الأصلي..
ذكرت الموقف لأنبهكم إلى استخدام التطبيق في حال كنتم تفضلون حمل النقد على البطاقات، وللانتباه دوماً إلى هكذا اخطاء قد تكون بحسن نية او مقصودة لاستهداف ذوي التفكير المشتت أو المنشغلين بهواتفهم مثلي
.. وفي هذه الحالة أعتقد بأن الأمر كان محض خطأ.
اكثر ما أثار إعجابي في محلات الهدايا والتذكارات هي أشغال الخرز المتقنة للغاية ... ومنها هذا المجسم الكبير للزعيم نيلسون مانديلا والمصنوع بكامله من الخرز والأسلاك الدقيقة
واصلت تجولي في المول، أخطأت خطأ فادحاً بتناول عصير مثلج "سلاش" جمّد لي دماغي وأصابني بصداع شديد، اشتريت عدداً من الهدايا والتذكارات وأوصلتها إلى غرفتي في الفندق، صليت وانطلقت لجولة المروحية !
كنت طيلة الوقت أشاور نفسي بين أخذ وردّ، قد لا تكون الجولة خطيرة ولكني أخشى رد فعلي تجاهها، ولا أريد أن أتعرض لنوبة هلع مثلا وانا وحدي .. في نفس الوقت كنت أدرك أن الفرصة لن تسنح قريباً وأن المناظر ستكون رائعة الجمال دون شك.. فما العمل؟
وصلت إلى الكشك وانتظرت بقية الركاب (تحمل المروحية 4 أشخاص + الطيار) .. وجاؤوا تباعاً خلال عشر دقائق وهم زوجان من جوهانسبيرغ وسيدة فرنسية، وأنا.. نقلتنا عربة غولف عبر ممرات الواجهة المائية والميناء إلى مكتب صغير .. وهناك استمعنا إلى تعليمات سريعة للأمن والسلامة: ممنوع الحركة او الوقوف نهائياً .. ممنوع محاولة فتح النوافذ أو أي شيء .. ممنوع إزالة السماعات الواقية للأذنين ..ممنوع حمل الحقائب.. باختصار .. ممنوع كل شي
عند مغادرة المروحية لا بد من التوجه إلى مقدمتها وليس إلى الخلف .. إخفاض الرأس قدر الإمكان والجري إلى مكان التجمع المناسب ..
هنا كانت اللحظة الحاسمة .. إما أن أتراجع الآن أو أركب معهم وأتجاهل خوفي الذي بدأ يسيطر على حواسي الأخرى .. فماذا فعلت ؟
استجمعت شجاعتي المتناثرة في المكان ومشيت في ذيل الطابور القصير الذي اتجه إلى مكان المروحية. وهناك قامت فتاة باختيار من يركب أولاً، فركبت السيدتان قبلي، وركب الرجل بجانب الطيار بالطبع، ثم أنا .. وكان ذلك من حسن حظي لأنني كنت في الجهة الأفضل لرؤية المناظر الجميلة ... بينما الآخرون كانوا بجانب البحر معظم الوقت
وخدلك يا تصووويييير .. وخد فيديوهات
وسيلفي والمروحية خلفي
بدأت بمقطع فيديو سأضعه في الرد التالي .. ثم بعض الصور للمدينة الجميييلة
المنطقة في الأسفل هي شاطئ كليفتون.. من أكثر المناطق رقياً وغلاء في كيب تاون
رأس الأسد ما غيره
جبل الطاولة
كامبس باي
سبحان الله لون الماء
طبعا حتى هذه المرحلة لم أشعر بأي خوف ولا رهبة ولا اهتزازات ولا غيرها .. الحمدلله كان الطيران سلساً باستثناء منطقة معينة خلف جبل الطاولة.. بسبب ارتداد الرياح من الجبل ..
وهذه هي المنطقة، معظمها مزارع وكروم ..
اقتربت جولتنا من نهايتها
أجمل ما في المروحية انها تصعد وتهبط في لحظة.. شبّهتها بالذبابة
نفذنا التعليمات بمجرد الهبوط وأسرعنا إلى المكتب .. ومن هناك صورت مروحيتنا الصغيرة للذكرى
عرضت على السيدة الفرنسية أن أخذ عنوانها الإلكتروني لأرسل لها الصور .. فالجانب الذي تجلس فيه لم يساعدها على التصوير نهائياً إلا لبضع دقائق .. والباقي كله بحر ممتد. المهم أنها رحّبت بالأمر وأرسلت لها الصور بمجرد وصولي إلى الفندق. أما السيدة الأخرى، فزوجها كان يجلس في مكان استراتيجي مثلي فلم أهتم لأمرها هههه
سأضع مقاطع الفيديو جميعا في الرد التالي .. وارجو الانتباه إلى أنني حاولت تغطية صوت المروحية المزعج بالموسيقى فاخفضوا الصوت أو اكتموه إن كنتم لا ترغبون بسماعها ...
لم يتبق الكثير لأتحدث عنه في كيب تاون. كانت مخططاتي لبقية اليوم زيارة حديقة كيرستنبوش أو جزيرة روبن آيلاند .. ولكن تمت مباغتتي بطلب عاجل للتواجد في اجتماع غير مخطط له
ورغم أن الاجتماع استغرق ساعة واحدة فقط إلا أنه كان كفيلاً بإفساد ما تبقى من الزمن.
تناولت غدائي في المطعم الذي أعتبره "صديقي اللدود" ماكدونالدز ..
وهذه المرة لا بد أن أشهد شهادة جديدة في صالحه، فهو يتمتع بإطلالة خرافية على الميناء والواجهة المائية، وبمذاق رائع جداً .. كما هو الحال في كل مكان خارج الدول العربية (برأيي طبعا) .. أمضيت وقتاً أتأمل الناس والإطلالة .. أفكر بكل ما يمكن أن يمر بالبال، وأشعر بالندم لأني لم أتجرأ على استخدام تطبيق سناب تشات طوال تلك الرحلة رغم أني كنت أرغب بذلك
أمضيت بقية اليوم في التسوق وشراء الهدايا للأولاد .. وأخيراً بعد طول عناء، وجدت ما طلبه سيف الدين .. بالطبع مع بعض التحريف
وفي ساعات المساء، وجدت في محل Woolworths المميز ركناً خاصاً بالعناية بالأظافر وتقليمها، فحجزت جلسة بسعر 200 راند أو أقل قليلاً.. حدثتني الموظفة كثيرا عن الحياة في بلادهم وكم هي صعبة مع انخفاض العملة والوضع الاقتصادي السيء .. وكنت على وشك ان أقول لها "الحال من بعضه ... عالأقل انتو عندكم بحر هههه" ولكنني اكتفيت بعبارات المواساة والتشجيع التقليدية في تلك المواقف ..
بالمناسبة، أكثر المحلات التي تسوقت فيها ووجدت أسعارها معقولة نسبياً هو Wool Worths، خاصة للملابس الرجالية. هناك أيضاً سوبرماركت تابع للمحل نفسه يبيع بهارات رائعة خاصة البهارات الإيطالية والأعشاب المجففة ..
عدت إلى الفندق، شاهدت بضع حلقات متتابعة من مسلسلي المفضل، تناولت الشوكولاتة ونمت
مغادرتي كانت في صباح اليوم التالي، دون أحداث تذكر، لأصل بعد 22 ساعة كاملة إلى المنزل
حاملة معي أجمل الذكريات من أبعد البلاد التي زرتها جنوباً