التناقضات. محور رواية «الدكتور دجيكل والسيد هايد» للأديب روبرت لويس ستيفنسون. الدكتور جيكل طبيب محافظ ومتزن، وهايد شخصيته الثانية؛ غامضة وماكرة. صراع استلهمه الروائي الاسكوتلندي عام 1886 من طابع أدنبره المعماري. العاصمة الاسكوتلندية مدينة التناقضات. أدنبره القديمة عشوائية. شيدت في العصور الوسطى. طابعها قوطي، وواجهات مبانيها مداخل لسراديب وأزقة خفية. ساحرة بأرصفتها المبلطة وغامضة بساعاتها ومنحوتاتها التي تملأ ميادينها.
أدنبره الحديثة شوارعها فسيحة، مستقيمة، ومعبّدة. ممراتها وأبنيتها متلاصقة. تذكرك هندستها بجادات نيويورك المتوازية. طابعها، خلافا للأحياء القديمة، لا يربك «غوغل مابس» لأنه واضح و«ملتزم».
زرت العاصمة الاسكوتلندية الأسبوع الماضي، ولاحظت التناقضات التي ألهمت تلك الرواية. لكني لم أشعر بالصراع، بل انبهرت بالتناقضات المتجانسة. الأحياء القديمة كانت مكان ولادة سلسلة «هاري بوتر»، كما شهدت الأحياء الجديدة على ولادة أول تطبيق ذكي للهواتف. يكمن سحر أدنبره بذلك التكامل. شعبها ودود وطعامها شهي، خصوصا أطباق السمك الطازج. لم تغب موسيقى القرب عن شوارعها طوال أيام زيارتي. وشعرت بأنها كانت تزفني في كل جولة أجريتها في أنحاء المدينة.
- أغسطس شهر المهرجانات
تجبر موجات الحر والرطوبة سكان معظم المدن الأوروبية على هجرها في شهر أغسطس (آب). وبينما تدخل روما ومدريد وأثينا في سبات، تستيقظ عاصمة اسكوتلندا بمهرجاناتها السنوية مرحبة بالزوار من شتى بقاع الأرض. النسخة الأولى انطلقت عام 1947، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي استنزفت أوروبا، قررت أدنبره إقامة مهرجان يعيد الأمل للقارة العجوز ويوفر منبرا لازدهار الإنسانية من جديد من خلال الفن والمسرح والموسيقى؛ اللغات التي توحد الشعوب.
وتزامنت ولادة مهرجان أدنبره الدولي مع انطلاق مهرجان مواز للمسرح المستقل تحت اسم «فرينج» Fringe، الذي أصبح اليوم أكبر مهرجان استعراضي في العالم.
المهرجانان كانا فاتحة الطريق لتأسيس احتفالات أخرى ثقافية وعلمية وسينمائية وعسكرية يشارك به أكثر من 25 ألف فنان ومفكر من أكثر من 70 دولة حول العالم لتقديم أكثر من ألف عرض يوميا. ويزور الفعاليات المختلفة أكثر من 4.5 شخص سنويا.
تدر المهرجانات نحو 313 مليون جنيه إسترليني سنويا للاقتصاد الاسكوتلندي، أي ما يعادل دخل تشغيل 6021 وظيفة في المدينة. وتصل مبيعات تذاكرها إلى أعداد التذاكر التي تباع في مباريات كأس العالم والألعاب الأولمبية. ولأن الجنيه متدنٍ هذا العام جراء ضبابية «بريكست»، فإن عدد زوار أدنبره كان غير مسبوق. باقة فعاليات هذا العام أحيت الذكرى السبعين لتحول أدنبره إلى عاصمة الفن في أوروبا خلال شهر أغسطس. كنت محظوظة بتواجدي هناك لأربعة أيام ضمن رحلة نظمتها هيئة السياحة البريطانية (Visit Britain) بالتعاون مع هيئة السياحة الاسكوتلندية (Visit Scotland).
جدولنا كان حافلا. ورغم قصر المدة، حظينا بالتجربة الكاملة التي توفرها المدينة ومهرجاناتها. ما يحدث في أدنبره اليوم ليس بالمقدور استنساخه بأي مدينة أخرى. شوارعها المرصوفة وممراتها الضيقة والمسورة وسراديبها التاريخية تستقبل السياح لحظة وصولهم. لكن، لا يظهر سحر المدينة الحقيقي إلا عند استكشاف ما وراء تلك المعالم. والوقت الأمثل لذلك هو خلال أيام المهرجانات؛ لأن فعالياتها توظف كل زاوية في المدينة من قاعات جامعة أدنبره العريقة إلى غرف معيشة بعض السكان. العاصمة الاسكوتلندية تتحول إلى مسرح.
- تاتو
«تاتو» Tattoo، كلمة تعني الوشم بالإنجليزية. لكن في أدنبره وخلال شهر أغسطس بالتحديد تعني المهرجان العسكري الملكي. عرض يومي في تمام التاسعة مساء يحضره نحو 8 آلاف شخص (أي نحو 220 ألف شخص سنويا) ويتابع فعالياته 100 مليون آخرين على شاشة التلفزيون. وبحسب منظمة «تاتو»، وهي منظمة غير ربحية، فإن ريع الحفل يقدر سنويا بتسعة ملايين دولار، يتم إنفاقها في دعم أسر الجنود البريطانيين.
بطاقاتنا الصحافية وفرت لنا فرصة الصعود إلى أعلى المدرج. ومن الأعلى، وقعت في حب أدنبره. المدينة القديمة بشوارعها الضيقة خلفي، والقلعة العريقة أمامي. تنفست المكان وأغمضت عيني لتخزين لقطات ذهنية وسرعان ما بدأ العرض. مائة دقيقة من الموسيقى والاستعراضات العسكرية من مختلف دول العالم. موسيقى القرب أحيت الهوية الاسكوتلندية، ونغمات الكمان اصطحبتنا إلى باريس، ثم خطفتنا الأزياء الملونة والرقصات الفرحة إلى الهند، ضيف شرف هذا العام.
الألعاب النارية أنارت عتمة الليل، بينما غنى الحضور نشيد الحرية مع فرقة الاستعراض. الموسيقى لغة توحد الشعوب، والاستعراضات العسكرية أكدت هويتها. التقاء راق للوطنيات وترحيب بالعولمة في الوقت ذاته.
تجربة فريدة من نوعها، لا تتكرر. أنصح بالجلوس في المدرجات العليا للاستمتاع أكثر، وارتداء معطف دافئ؛ لأن أغسطس أدنبره مهما كان دافئا تباغته رياح الليل.
- المهرجان الدولي
مهرجان أدنبره الدولي يعتبر من أهم الاحتفالات الثقافية في العالم، يحيي فعالياته أكثر من 2400 فنان استعراضي ومسرحي محترف من أكثر من 30 دولة سنويا. كما يعتبر الشمعة التي أنارت الطريق لولادة مهرجانات تصاحبه في أغسطس.
عروضه المسرحية مدارة من قبل أعرق الشركات العالمية، وتتضمن الموسيقى والأوبرا والمسرحيات والعروض الراقصة من شتى بقاع الأرض. بعض التذاكر أسعارها معقولة، لكن أغلب العروض العالمية تذاكرها مكلفة، ويجب الحجز مسبقا نظرا للإقبال العالي.
العرض الذي أسرني كان أوبرا ماكبث لفيردي في المسرح الرئيسي وسط المدينة. كانت تجربتي الأولى لحضور عرض أوبرالي، ولم أتخيل أبدا أنني سأستمتع بهذا القدر بمسرحية تراجيدية لشكسبير ارتدت حلة الغناء الأوبرالي. بساطة في الأحداث وعمق في الحركة والغناء. ضحكنا وبكينا وتأملنا. لاحظت أن معظم الحضور من الأجيال الأكبر، وقد يكون السبب سعر التذكرة، أو المعتقدات المسبقة أن الأوبرا ليست للشباب. لكن ثبت لي العكس، أنصح بهذه التجربة.
برنامج المهرجان الدولي حافل جدا. لم تغب عنه الندوات والجلسات الحوارية وحلقات النقاش التي تحيي التراث الاسكوتلندي وتحتفل بالحضارات العالمية. الموقع الإلكتروني يفصل الجدول ويتيح الفرصة لشراء التذاكر مسبقا. مهما تنوعت فعاليات المهرجانات الأخرى، يبقى هذا المهرجان هو الأصل.
- مسرح مستقل
بعيدا عن العروض المنظمة والأوبرا مسرح مستقل. مهرجان «ذا فرينج» أو «على الهامش» أسسه محبو المسرح الذين أقصوا من المهرجان الدولي. شروط المشاركة: عدم خرق القانون الاسكوتلندي. المواصفات المطلوبة: شغف الاستعراض والفكرة المبتكرة فقط. بات يعتبر أكبر مهرجان مسرحي في العالم؛ إذ يتضمن أكثر من 3200 عرض سنويا، وأكثر من 50 ألف ممثل ومشارك يؤدون استعراضاتهم في نحو 300 مقر في أدنبره؛ المسارح والقاعات والمطاعم والسراديب... والشوارع.
بالفعل، تتحول أدنبره القديمة إلى مسرح. جدرانها مكسوة بإعلانات العروض المتنوعة، وعلى أرصفتها المبلطة تنتصب المسارع الصغيرة للمؤدين. غناء وكوميديا في جميع الأزقة، من الصباح حتى ساعات الليل. شباب وشابات يوزعون المناشير أينما مشيت. فبعد كل نهار لي هناك، نظرت إلى محتويات حقيبتي لأجد أكثر من 20 منشور عرض خلال تجوالي.
ورغم الجدول الحافل، استطعنا حضور عرضين للمسرح البديل، إلى جانب عروض الشوارع التي استمتعنا بها بمجرد تنقلنا من مكان إلى آخر. العرض الأول كان في سرداب من العصور الوسطى. عرض موسيقي بطابع كوميدي أعادنا إلى أغاني الثمانينات قدمه مؤديان اثنان فقط، لكن المرح والطاقة الإيجابية لم تغب عن العرض طوال مدته. أما العرض الآخر فكان داخل خيمة سيرك ملونة أعادتني إلى أيام الطفولة. ساعة ونصف الساعة من المهارات البهلوانية والموسيقى والضحك قدمتها لنا فرقة سافرت من أستراليا للمشاركة بالمهرجان. كما سافر مشتركون من أكثر من 70 دولة ليكونوا جزءا من «على الهامش». اللوحات الإرشادية المعلقة على الجدران، توضح للزوار اتجاهات الأماكن، حتى لا يضل السياح الطريق وسط الأزقة الكثيرة. كما جرى تمييز مكان الحدث الفني أو العرض المسرح برقم في البرنامج وعلى تذاكر الدخول التي تباع بأسعار معقولة جدا، حتى يتمكن الزوار من العثور على أصغر الأماكن في الأزقة البعيدة والمترامية. لذا؛ كانت عملية البحث عن العروض غير معقدة. ويوفر «ذا فرينج» عروضا مناسبة لجميع الفئات العمرية.
لاحظت خلال جلوسي في المطاعم والمقاهي أن الأحاديث الجانبية للطاولات المحيطة بي في معظم الأحيان كانت عن فعاليات هذا المهرجان. انتقادات وملاحظات وإشادات. لذا؛ قررت أن اجعل كلام الألسن بوصلتي في تحديد العروض التي سأشاهدها عند عودتي إلى المهرجان السنة المقبلة. نصيحتي لكم أن تكون اختياراتكم للعروض عفوية وحضور ما يستهويكم لحظتها؛ لتتماشى قراراتكم مع وحي المهرجان الغير رسمي.
- فنون جميلة
للفنون الجميلة حصة أيضا. لوحات فنية ومنحوتات وجداريات من حول العالم تملأ أكثر من 40 متحفا في المدينة. معظم الدخول مجاني خلال أيام المهرجان (27 يوليو/ تموز إلى 27 أغسطس). ويعتبر المهرجان الأكبر في المملكة المتحدة المكرس للفنون المرئية.
الفن الحديث لم تعد تحده جدران المتاحف، فحتى شوارع المدينة تستضيف قطعا فنية رائعة متناثرة فيها.
والبعض الآخر معروض داخل مبان عريقة ذات طابع معماري متميز. فرصة جميلة لاستكشاف تلك المقرات وراء الأبواب المغلقة عادة، إلا أن جمالها قد يطغى على الفن المعروض في بعض الأحيان. حيث كان من الصعب الاستمتاع بمعرض للصور الفوتوغرافية أقيم في النادي الخاص بالمحامين؛ ذلك لأن المبنى ملوكي من الداخل وتعلو جدرانه لوحات زيتية من القرن الثامن عشر.
أنصح محبي الفنون عدم إهمال المعارض الفنية؛ لأنها مكملة للفعاليات الاستعراضية، تجسد الحضارة الاسكوتلندية، والتقاء الحضارات الأخرى في أدنبره. بالإمكان الحصول على خريطة لأبرز المعارض من نقاط الاستعلامات وقضاء يوم في شوارع أدنبره بحثا عن لوحاتكم المفضلة على جدران المتاحف، أو أحد الأزقة.
- معرض الكتاب
تتحول حدائق «شارلوت سكوير» الخاصة إلى واحة كتب بين شوارع وسط المدينة. هناك يقام معرض الكتاب من 12 إلى 28 أغسطس. يعتبر مهرجان كتاب أدنبره السنوي أكبر احتفال عام للكلمة المكتوبة في العالم. يشارك به أكثر من 800 كاتب وكاتبة من 55 دولة، ويزوره أكثر من 220 ألف شخص سنويا. ويحتوي على أكبر مجموعة كتب للأطفال في أوروبا. فعالياته اليومية تتراوح ما بين حلقات قراءة قصصية للأطفال خلال ساعات الصباح، وورشات عمل وعرض للكتب المشاركة على مدار النهار. وتطغى الأمسيات الشعرية والندوات السياسية والثقافية على ساعات المساء.
وعلى مدار أيام المهرجان، يباع نحو 70 ألف كتاب، أي أكثر ما تبيعه محال الكتب التجارية طوال العام. الحديقة ملهمة، والجو العام مريح للقراءة والتمعن. الحضور كبير، لكنه لا يزحم المكان أو يقتنص من رونق المهرجان. لفت انتباهي مشاركة كتاب عرب من سوريا ومصر وفلسطين والعراق وليبيا والإمارات. أنصح بالذهاب خلال ساعات بعد الظهر للهرب من زحمة السياح واستعراضات الشارع، وحضور قراءات شعرية؛ لأنها بالفعل تدفع للتأمل.
أدنبره الحديثة شوارعها فسيحة، مستقيمة، ومعبّدة. ممراتها وأبنيتها متلاصقة. تذكرك هندستها بجادات نيويورك المتوازية. طابعها، خلافا للأحياء القديمة، لا يربك «غوغل مابس» لأنه واضح و«ملتزم».
زرت العاصمة الاسكوتلندية الأسبوع الماضي، ولاحظت التناقضات التي ألهمت تلك الرواية. لكني لم أشعر بالصراع، بل انبهرت بالتناقضات المتجانسة. الأحياء القديمة كانت مكان ولادة سلسلة «هاري بوتر»، كما شهدت الأحياء الجديدة على ولادة أول تطبيق ذكي للهواتف. يكمن سحر أدنبره بذلك التكامل. شعبها ودود وطعامها شهي، خصوصا أطباق السمك الطازج. لم تغب موسيقى القرب عن شوارعها طوال أيام زيارتي. وشعرت بأنها كانت تزفني في كل جولة أجريتها في أنحاء المدينة.
- أغسطس شهر المهرجانات
تجبر موجات الحر والرطوبة سكان معظم المدن الأوروبية على هجرها في شهر أغسطس (آب). وبينما تدخل روما ومدريد وأثينا في سبات، تستيقظ عاصمة اسكوتلندا بمهرجاناتها السنوية مرحبة بالزوار من شتى بقاع الأرض. النسخة الأولى انطلقت عام 1947، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي استنزفت أوروبا، قررت أدنبره إقامة مهرجان يعيد الأمل للقارة العجوز ويوفر منبرا لازدهار الإنسانية من جديد من خلال الفن والمسرح والموسيقى؛ اللغات التي توحد الشعوب.
وتزامنت ولادة مهرجان أدنبره الدولي مع انطلاق مهرجان مواز للمسرح المستقل تحت اسم «فرينج» Fringe، الذي أصبح اليوم أكبر مهرجان استعراضي في العالم.
المهرجانان كانا فاتحة الطريق لتأسيس احتفالات أخرى ثقافية وعلمية وسينمائية وعسكرية يشارك به أكثر من 25 ألف فنان ومفكر من أكثر من 70 دولة حول العالم لتقديم أكثر من ألف عرض يوميا. ويزور الفعاليات المختلفة أكثر من 4.5 شخص سنويا.
تدر المهرجانات نحو 313 مليون جنيه إسترليني سنويا للاقتصاد الاسكوتلندي، أي ما يعادل دخل تشغيل 6021 وظيفة في المدينة. وتصل مبيعات تذاكرها إلى أعداد التذاكر التي تباع في مباريات كأس العالم والألعاب الأولمبية. ولأن الجنيه متدنٍ هذا العام جراء ضبابية «بريكست»، فإن عدد زوار أدنبره كان غير مسبوق. باقة فعاليات هذا العام أحيت الذكرى السبعين لتحول أدنبره إلى عاصمة الفن في أوروبا خلال شهر أغسطس. كنت محظوظة بتواجدي هناك لأربعة أيام ضمن رحلة نظمتها هيئة السياحة البريطانية (Visit Britain) بالتعاون مع هيئة السياحة الاسكوتلندية (Visit Scotland).
جدولنا كان حافلا. ورغم قصر المدة، حظينا بالتجربة الكاملة التي توفرها المدينة ومهرجاناتها. ما يحدث في أدنبره اليوم ليس بالمقدور استنساخه بأي مدينة أخرى. شوارعها المرصوفة وممراتها الضيقة والمسورة وسراديبها التاريخية تستقبل السياح لحظة وصولهم. لكن، لا يظهر سحر المدينة الحقيقي إلا عند استكشاف ما وراء تلك المعالم. والوقت الأمثل لذلك هو خلال أيام المهرجانات؛ لأن فعالياتها توظف كل زاوية في المدينة من قاعات جامعة أدنبره العريقة إلى غرف معيشة بعض السكان. العاصمة الاسكوتلندية تتحول إلى مسرح.
- تاتو
«تاتو» Tattoo، كلمة تعني الوشم بالإنجليزية. لكن في أدنبره وخلال شهر أغسطس بالتحديد تعني المهرجان العسكري الملكي. عرض يومي في تمام التاسعة مساء يحضره نحو 8 آلاف شخص (أي نحو 220 ألف شخص سنويا) ويتابع فعالياته 100 مليون آخرين على شاشة التلفزيون. وبحسب منظمة «تاتو»، وهي منظمة غير ربحية، فإن ريع الحفل يقدر سنويا بتسعة ملايين دولار، يتم إنفاقها في دعم أسر الجنود البريطانيين.
بطاقاتنا الصحافية وفرت لنا فرصة الصعود إلى أعلى المدرج. ومن الأعلى، وقعت في حب أدنبره. المدينة القديمة بشوارعها الضيقة خلفي، والقلعة العريقة أمامي. تنفست المكان وأغمضت عيني لتخزين لقطات ذهنية وسرعان ما بدأ العرض. مائة دقيقة من الموسيقى والاستعراضات العسكرية من مختلف دول العالم. موسيقى القرب أحيت الهوية الاسكوتلندية، ونغمات الكمان اصطحبتنا إلى باريس، ثم خطفتنا الأزياء الملونة والرقصات الفرحة إلى الهند، ضيف شرف هذا العام.
الألعاب النارية أنارت عتمة الليل، بينما غنى الحضور نشيد الحرية مع فرقة الاستعراض. الموسيقى لغة توحد الشعوب، والاستعراضات العسكرية أكدت هويتها. التقاء راق للوطنيات وترحيب بالعولمة في الوقت ذاته.
تجربة فريدة من نوعها، لا تتكرر. أنصح بالجلوس في المدرجات العليا للاستمتاع أكثر، وارتداء معطف دافئ؛ لأن أغسطس أدنبره مهما كان دافئا تباغته رياح الليل.
- المهرجان الدولي
مهرجان أدنبره الدولي يعتبر من أهم الاحتفالات الثقافية في العالم، يحيي فعالياته أكثر من 2400 فنان استعراضي ومسرحي محترف من أكثر من 30 دولة سنويا. كما يعتبر الشمعة التي أنارت الطريق لولادة مهرجانات تصاحبه في أغسطس.
عروضه المسرحية مدارة من قبل أعرق الشركات العالمية، وتتضمن الموسيقى والأوبرا والمسرحيات والعروض الراقصة من شتى بقاع الأرض. بعض التذاكر أسعارها معقولة، لكن أغلب العروض العالمية تذاكرها مكلفة، ويجب الحجز مسبقا نظرا للإقبال العالي.
العرض الذي أسرني كان أوبرا ماكبث لفيردي في المسرح الرئيسي وسط المدينة. كانت تجربتي الأولى لحضور عرض أوبرالي، ولم أتخيل أبدا أنني سأستمتع بهذا القدر بمسرحية تراجيدية لشكسبير ارتدت حلة الغناء الأوبرالي. بساطة في الأحداث وعمق في الحركة والغناء. ضحكنا وبكينا وتأملنا. لاحظت أن معظم الحضور من الأجيال الأكبر، وقد يكون السبب سعر التذكرة، أو المعتقدات المسبقة أن الأوبرا ليست للشباب. لكن ثبت لي العكس، أنصح بهذه التجربة.
برنامج المهرجان الدولي حافل جدا. لم تغب عنه الندوات والجلسات الحوارية وحلقات النقاش التي تحيي التراث الاسكوتلندي وتحتفل بالحضارات العالمية. الموقع الإلكتروني يفصل الجدول ويتيح الفرصة لشراء التذاكر مسبقا. مهما تنوعت فعاليات المهرجانات الأخرى، يبقى هذا المهرجان هو الأصل.
- مسرح مستقل
بعيدا عن العروض المنظمة والأوبرا مسرح مستقل. مهرجان «ذا فرينج» أو «على الهامش» أسسه محبو المسرح الذين أقصوا من المهرجان الدولي. شروط المشاركة: عدم خرق القانون الاسكوتلندي. المواصفات المطلوبة: شغف الاستعراض والفكرة المبتكرة فقط. بات يعتبر أكبر مهرجان مسرحي في العالم؛ إذ يتضمن أكثر من 3200 عرض سنويا، وأكثر من 50 ألف ممثل ومشارك يؤدون استعراضاتهم في نحو 300 مقر في أدنبره؛ المسارح والقاعات والمطاعم والسراديب... والشوارع.
بالفعل، تتحول أدنبره القديمة إلى مسرح. جدرانها مكسوة بإعلانات العروض المتنوعة، وعلى أرصفتها المبلطة تنتصب المسارع الصغيرة للمؤدين. غناء وكوميديا في جميع الأزقة، من الصباح حتى ساعات الليل. شباب وشابات يوزعون المناشير أينما مشيت. فبعد كل نهار لي هناك، نظرت إلى محتويات حقيبتي لأجد أكثر من 20 منشور عرض خلال تجوالي.
ورغم الجدول الحافل، استطعنا حضور عرضين للمسرح البديل، إلى جانب عروض الشوارع التي استمتعنا بها بمجرد تنقلنا من مكان إلى آخر. العرض الأول كان في سرداب من العصور الوسطى. عرض موسيقي بطابع كوميدي أعادنا إلى أغاني الثمانينات قدمه مؤديان اثنان فقط، لكن المرح والطاقة الإيجابية لم تغب عن العرض طوال مدته. أما العرض الآخر فكان داخل خيمة سيرك ملونة أعادتني إلى أيام الطفولة. ساعة ونصف الساعة من المهارات البهلوانية والموسيقى والضحك قدمتها لنا فرقة سافرت من أستراليا للمشاركة بالمهرجان. كما سافر مشتركون من أكثر من 70 دولة ليكونوا جزءا من «على الهامش». اللوحات الإرشادية المعلقة على الجدران، توضح للزوار اتجاهات الأماكن، حتى لا يضل السياح الطريق وسط الأزقة الكثيرة. كما جرى تمييز مكان الحدث الفني أو العرض المسرح برقم في البرنامج وعلى تذاكر الدخول التي تباع بأسعار معقولة جدا، حتى يتمكن الزوار من العثور على أصغر الأماكن في الأزقة البعيدة والمترامية. لذا؛ كانت عملية البحث عن العروض غير معقدة. ويوفر «ذا فرينج» عروضا مناسبة لجميع الفئات العمرية.
لاحظت خلال جلوسي في المطاعم والمقاهي أن الأحاديث الجانبية للطاولات المحيطة بي في معظم الأحيان كانت عن فعاليات هذا المهرجان. انتقادات وملاحظات وإشادات. لذا؛ قررت أن اجعل كلام الألسن بوصلتي في تحديد العروض التي سأشاهدها عند عودتي إلى المهرجان السنة المقبلة. نصيحتي لكم أن تكون اختياراتكم للعروض عفوية وحضور ما يستهويكم لحظتها؛ لتتماشى قراراتكم مع وحي المهرجان الغير رسمي.
- فنون جميلة
للفنون الجميلة حصة أيضا. لوحات فنية ومنحوتات وجداريات من حول العالم تملأ أكثر من 40 متحفا في المدينة. معظم الدخول مجاني خلال أيام المهرجان (27 يوليو/ تموز إلى 27 أغسطس). ويعتبر المهرجان الأكبر في المملكة المتحدة المكرس للفنون المرئية.
الفن الحديث لم تعد تحده جدران المتاحف، فحتى شوارع المدينة تستضيف قطعا فنية رائعة متناثرة فيها.
والبعض الآخر معروض داخل مبان عريقة ذات طابع معماري متميز. فرصة جميلة لاستكشاف تلك المقرات وراء الأبواب المغلقة عادة، إلا أن جمالها قد يطغى على الفن المعروض في بعض الأحيان. حيث كان من الصعب الاستمتاع بمعرض للصور الفوتوغرافية أقيم في النادي الخاص بالمحامين؛ ذلك لأن المبنى ملوكي من الداخل وتعلو جدرانه لوحات زيتية من القرن الثامن عشر.
أنصح محبي الفنون عدم إهمال المعارض الفنية؛ لأنها مكملة للفعاليات الاستعراضية، تجسد الحضارة الاسكوتلندية، والتقاء الحضارات الأخرى في أدنبره. بالإمكان الحصول على خريطة لأبرز المعارض من نقاط الاستعلامات وقضاء يوم في شوارع أدنبره بحثا عن لوحاتكم المفضلة على جدران المتاحف، أو أحد الأزقة.
- معرض الكتاب
تتحول حدائق «شارلوت سكوير» الخاصة إلى واحة كتب بين شوارع وسط المدينة. هناك يقام معرض الكتاب من 12 إلى 28 أغسطس. يعتبر مهرجان كتاب أدنبره السنوي أكبر احتفال عام للكلمة المكتوبة في العالم. يشارك به أكثر من 800 كاتب وكاتبة من 55 دولة، ويزوره أكثر من 220 ألف شخص سنويا. ويحتوي على أكبر مجموعة كتب للأطفال في أوروبا. فعالياته اليومية تتراوح ما بين حلقات قراءة قصصية للأطفال خلال ساعات الصباح، وورشات عمل وعرض للكتب المشاركة على مدار النهار. وتطغى الأمسيات الشعرية والندوات السياسية والثقافية على ساعات المساء.
وعلى مدار أيام المهرجان، يباع نحو 70 ألف كتاب، أي أكثر ما تبيعه محال الكتب التجارية طوال العام. الحديقة ملهمة، والجو العام مريح للقراءة والتمعن. الحضور كبير، لكنه لا يزحم المكان أو يقتنص من رونق المهرجان. لفت انتباهي مشاركة كتاب عرب من سوريا ومصر وفلسطين والعراق وليبيا والإمارات. أنصح بالذهاب خلال ساعات بعد الظهر للهرب من زحمة السياح واستعراضات الشارع، وحضور قراءات شعرية؛ لأنها بالفعل تدفع للتأمل.