برشلونة... «لؤلؤة المتوسط»

سامح

:: أدارة المنتدي ::
8 يناير 2011
12,179
16
89
48
هي الفوهة التي تفجّرت منها الأزمة الانفصالية الكتالونية التي رفعت منسوب التوتّر في المشهد الإسباني إلى درجة غير مسبوقة... وحاضنة الفريق الذي أهدى عشّاق كرة القدم أجمل اللوحات في هذه الرياضة منذ أكثر من عقدين... إنها برشلونة «لؤلؤة المتوسط»، الفينيقية ثم الرومانية والكوزموبوليتية التي يتوافد إليها 20 مليون سائح كل عام باتوا يشكّلون «عبئاً» عليها دفع بأهلها إلى رفع أغرب شعار في تاريخ السياحة العالمية «Tourist Go Home»!، فيما تنفق مدن أخرى مثل برلين وروما وباريس ونيويورك ملايين الدولارات لاستقطاب المسافرون إليها.

مرّت هذه المدينة التي تجمع بين الحريّة الإبداعية والتخطيط الحديث، بمراحل كثيرة خلال تاريخها البعيد، أهمّها كانت الألعاب الأولمبية التي نظّمتها المدينة عام 1992 وحولّتها إلى إحدى أهم الوجهات السياحية في أوروبا. الفضل يعود إلى مجموعة من المشروعات العمرانية والمخططات المُدُنية التي أبرزت معالمها ومدّتها بشبكة متطورة من الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية الحديثة. كما عزّزت موقعها بوصفها قطباً فنّياً من الدرجة الأولى بين الحواضر الأوروبية.

أيّاً كان المسار الذي نختاره لزيارة برشلونة، فلا بدّ من أن يبدأ أو ينتهي عند أشهر أبنائها المهندس أنطونيو غاودي الذي ترك بصمات لا تمحى على وجهها من خلال المباني التي تركها، وباتت من العناصر الرئيسية المكوّنة لهوّيتها. نقترح أن نبدأ جولتنا على تراث غاودي المعماري من عند كاتدرائية «العائلة المقدّسة»، الأشهر في إسبانيا وربما في العالم. شرع في تشييدها عام 1882 عندما كان لا يزال في الحادية والثلاثين من عمره، والمتوقع أن تنتهي في عام 2026 تزامناً مع الذكرى المئوية لوفاته. تعد هذه الكاتدرائية، التي ستكون الأعلى في العالم، عملاً هندسيّاً فريداً من نوعه، تتميّز بالأبراج المخروطية الطالعة من وسط المبنى، والنوافذ اللولبية، والأشكال التي لم يستخدمها أحد في السابق. تعاقبت عليها 5 أجيال من الزوّار و9 مهندسين أشرفوا على مواصلة تنفيذ المخططات والمجسّمات والتوجيهات التي تركها غاودي لمعاونيه قبل وفاته. في عام 2005 وضعتها منظمة اليونيسكو على قائمة التراث العالمي لأول مرة بوصفها مبنى لم ينجز بناؤه.

من المعالم الأخرى التي تركها غاودي في عاصمة كاتالونيا «معبد غويل» الذي كان أحد أعماله الأولى، ومنحته الشبكة الأوروبية للسياحة الثقافية مؤخراً جائزتها الأولى في مسابقة التراث الثقافي الأوروبي. يضاف إليه منزل «باتالو» ومبنى «ميلا» وقصر «كالفيت»، التي يتهافت عليها المسافرون بالآلاف كل يوم للتمتّع بهندستها الفريدة. ثم هناك «بارك غويل» المشرف على المدينة من إحدى هضابها، وكان مسرحاً لتصوير عدد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية وأشرطة الفيديو الموسيقية لكبار الفنّانين العالميين.



متاحفها

الفنون والآداب لها حصّة كبيرة في شهرة برشلونة السياحية، فهي تحتوي عليّ عدداً من المتاحف الشهيرة عالمياً وأماكن كثيرة خلّدها كتّاب كبار في أعمالهم. منها المتحف الوطني للفنون، ويعرض مجموعات نفيسة من روائع الفن الأوروبي الحديث، و«مؤسسة جوان ميرو»، التي تحتوي عليّ أكبر مجموعة من أعمال الفنّان تشمل 217 لوحة وجدارية، و119 منحوتة، وآلاف الرسوم التي وضعها خلال إقامته الطويلة في المدينة. ويضم «متحف بيكاسو» بدوره أهمّ مجموعة من أعمال العبقري الأندلسي خلال فترة شبابه، إضافة إلى رائعته من المرحلة الزرقاء «الوصيفات». وفي برشلونة أيضا متحف «مصري» يعرض مجموعات من القطع الفرعونية الأصليّة ويحكي للزوّار تاريخ حضارة بلاد النيل القديمة. ثم هناك «المتحف البحري» الذي يضمّ سفناً من القرن الثالث عشر إلى القرن الثامن عشر، من بينها السفينة الملكية التي شاركت في معركة «ليبانتو» الشهيرة التي أصيب فيها الأسطول العثماني بهزيمة كبيرة قبالة السواحل اليونانية عام 1571. أما المتحف الذي يستقطب أكبر عدد من الزوّار - أكثر من مليون ونصف سنويّاً – فهو متحف نادي برشلونة لكرة القدم؛ حيث يتاح لزوّاره، بعد استعراض تاريخه والجوائز والبطولات التي فاز بها، الجلوس على المقاعد التي يجلس عليها عادة لاعبوه النجوم، والنزول إلى أرض الملعب الذي يعد الأكبر في أوروبا.



الحي القوطي

في الحي القوطي الجميل تقوم مجموعة من المباني الرسمية العريقة، مثل مبنى البلدية، ومقر الحكومة الإقليمية «الجنراليتات»، المفتوحة بعض أجنحتها للزوّار. في وسط هذا الحي يقع شارع «مونتكادا» المحفوف بعدد من القصور والمنازل الأرستقراطية القديمة التي خلّدها كبار الأدباء مثل سرفانتيس في رائعته «الكيخوتي»، أو سكنوا فيها مثل جورج أورويل، أو دارت بعض رواياتهم فيها مثل غارسيّا ماركيز وفارغاس يوسا وخوليو كورتازار.



الميدان الملكي وقصور المدينة

وقبل مغادرة الحي القوطي لا بد للزائر من أن يعرّج لاستراحة قصيرة في الميدان الملكي للتمتع بالهدوء الذي يخيّم عليه تحت أشجار النخيل الباسقة وبين المباني المقنطرة التي تحيط به من الجهات الأربع. ولا ننسى زيارة قصر الموسيقى البديع الذي يحاكي مسرح «العنقاء» الشهير في مدينة البندقية، وعلى مقربة منه مسرح Liceo مفخرة المدينة الذي يستضيف أكبر نجوم الأوبرا العالميين.



مطاعم المدينة

برشلونة أيضاً محجّة لأصحاب المذاقات المرهفة؛ إذ تحتوي عليّ 14 مطعماً مصنّفاً على قائمة «ميشلان» الشهيرة، إضافة إلى عدد كبير من المطاعم التاريخية التي تقدّم الأطباق الكتالونية التقليدية والمازات الإسبانية المعروفة باسم Tapas. وللوقوف على بعض العناصر الأساسية التي ساعدت على إطلاق شهرة المدينة في عالم المأكولات، نقترح زيارة سوق «لا بوكريّا» التقليدية التي توجد في وسط جادة «لاس رامبلاس» المعروفة، والتي يعرض فيها مئات الباعة في حوانيتهم المتراصة أشهى أصناف المواد الغذائية، من خضراوات وفاكهة وحبوب ولحوم وأسماك وحلوى... كلّها من إنتاج المناطق المحيطة. وبإمكان الزائر أن يتناول طعام إفطاره أو غدائه في أحد المطاعم داخل السوق؛ حيث تحضّر الأطباق أمامه ويشرح له الطهاة طرق تحضيرها.

بعد التمتّع بأطايب المطبخ الكتالوني نقترح نزهة على الشاطئ الجميل الذي يمتّد مسافة 7 كيلومترات عند أقدام المدينة على الرمال الذهبية التي كانت، حتى دورة الألعاب الأولمبية عام 1992، منطقة صناعيّة ملوّثة وشبه مهجورة.

تنعم الطبيعة على برشلونة بأكثر من 300 يوم مشمس في العام، يتراكض فيها الناس من كل الأعمار والأعراق لممارسة شتّى أنواع الرياضات على الشاطئ، أو يتنزهون على أرصفة الميناء الأولمبي الجميل الذي يرتفع قبالته تمثال أشهر بحّار في التاريخ، كريستوفر كولومبوس الذي قاد الرحلة الأوروبية الأولى إلى شواطئ القارة الأميركية. وعلى الشريط الساحلي للمدينة يرتفع أيضاً بعض أبرز المعالم المعمارية الحديثة التي تميّز برشلونة، مثل فندق «الشراع» أو البرج الذي صممه المهندس الفرنسي المعروف «جان نوفيل»، أو «السمكة الفولاذية» التي صممها الفنّان العالمي فرنك غيري والتي تلمع حراشيفها تحت أشعة الشمس وتتموّج باستمرار. ولدى التنزّه في شوارع برشلونة يطالع الزائر مجسّمات مختلفة لغوّاصات من خشب أو فولاذ تكريماً لذكرى المهندس نارسيس مونتوريول الذي كان أوّل من بنى غوّاصة في عام 1859.

برشلونة أيضاً مدخل إلى مجموعة من القرى والدساكر الجميلة المحيطة بها؛ حيث تكثر المنتجعات السياحية والمطاعم الفاخرة، وباب واسع على «كوستا برافا» أحد أجمل الشواطئ على ضفاف المتوسط. ولأنها مدينة عصرية ورياضية بامتياز، خصصت في معظم شوارعها مضماراً للدراجات الهوائية التي يستخدمها كثير من سكانها للتنقّل والذهاب إلى مراكز العمل. ومن العروض السياحية الشيّقة رحلة جويّة في مروحيّة فوق المدينة وصولاً إلى جبل «مونجويك» المشرف عليها والذي يضمّ مجموعة من المتاحف وقلعة تعود إلى القرن السابع عشر كانت تستخدم تارة للدفاع عن المدينة وطوراً لقصفها كما حصل إبّان الحرب الأهلية الإسبانية. وفي «مونجويك» أيضا عدد من المباني التي استضافت عدداً من المسابقات الأولمبية عام 1992.

لكن زيارة هذه المدينة التي جذبت كثيراً من المشاهير للعيش أو الإقامة فيها، وملايين المسافرون للتردد عليها؛ إذ يقدّر أن نصف الذين يزورونها للمرة الأولى يكررون الزيارة، لا تكتمل من غير التنزّه بهدوء في أشهر شوارعها «لاس رامبلاس» الذي يختصر وحده التنوّع الثقافي والعرقي الذي تتميّز به. فهو ينبض بالحياة التي لها هنا أسلوب خاص نترك لأحد الذين وقعوا في غرامها، الشاعر الغرناطي غارسيّا لوركا، أن يصفه لنا: «...إنه أبهج شارع في العالم، الشارع الذي تعيش فيه الفصول الأربعة في الوقت نفسه، الشارع الوحيد في هذه الأرض الذي أتمنى ألا تكون له نهاية أبداً... يضجّ بالموسيقى واللقاءات الجميلة، ويتمايل على وقع النسائم التي تلفح عروقاً تجري فيها دماء قديمة: إنه (رامبلا برشلونة)».