بقلم نسيم نجد
في الطريق إلى باريس …عبرنا الحدود الألمانية البلجيكية , فتغيرت المباني ,و أصبحت رديئة المظهر , و بان عليها عامل السن و عدم الأهتمام , أما الطبيعة الساحرة في الجبال بين الدولتين فبدأ يخبو سحرها , و ينطفئ لهيب جمالها .و بدأ القطار الذي يلتوي من فوق الجبال بالسير بخط مستقيم لا يكاد أن ينحرف أبداً .
في الطريق إلى باريس …عبرنا أنهار , و تجاوزنا جبال , ومررنا بغابات , و ودعنا على الحدود بيت نصفه تابع لدولة ألمانيا و النصف الآخر تابع لدولة البلجيك , كدليل واقعي على أن الإتحاد الأوربي قادم بقوة .
في الطريق إلى باريس…كان الناقل هو قطار سريع من فئة IC والذي عرف بسرعته و سكينته. وهي المرة الأولى التي أسافر بين دول أوربا بدون سيارة أقودها بنفسي .
في الطريق إلى باريس …كان لزاماً علينا أن نحول في بروكسل , عاصمة بلجيكا , و التي زرتها من قبل , فألقيت عليها تحية المعرفة , و الشوق .و طافت بذهني بعض الذكريات .
في الطريق إلى باريس …كان القطار الذي ركبناه بعد بروكسل أقل من أخيه الذي سبقه , و أبطء منه بمراحل ملحوظة , وليس ذلك مستغرب فالألمان هم قادة صناعة و صنع القطارات في القارة الأوربية .
في الطريق إلى باريس..ركب أمامي شاب و شابه من بلجيكا ,و يبدو أنهما سعيدان بالرحلة , وكان حديثهم أنغام رائعة , لم تسمع أذني في الحياة كلها مثل تلك النغمات الفريدة , و كان يجريان مكالمات عدة لحجز فندق في باريس , فتقابل كل طلباتهم بالأسف و الاعتذار من أصحاب الفنادق ,و ذلك لأن الوقت متأخر , و باريس مزدحمة بالأفواج السياحية . فكانت الفتاة تتنهد بعمق ثم ترمي برأسها على عشيقها , فيستمد قوته من حسرتها , فيبدأ المحاولة مرة أخرى . و أنا أنظر إليهم من خلف كتابي الذي أقلب صفحاته بتناغم بين فصول القصة التي أتتبعها , و حديث العاشقين الذي أسمعه , و انسيابية القطار الذي أركبه . فلما حصلا على حجز من أحد الفنادق كادا يطيران من الفرح , وكدت أن أطير معهم , لولا أن خشيت أن يقولا باللغة البلجيكية ” وش دخلك ” .
في الطريق إلى باريس…رأيت و للمرة الأولى أن الأرض تكاد أن تالتصق بالسماء , و أن السحاب يكاد أن يزحف على الأرض , و أن الأرض ممتدة و إلى نهاية العين و بالخضرة مكتسية .
على أطراف باريس…و قف القطار عند رصيف ممتلئ بالبشر , فالكل حضر هنا… فنحن الآن في أجازة نهاية الأسبوع الأول من أسابيع السنة الجديدة . و التي أعقبت احتفالات صاخبة في كل المدينة لتوديع عام و استقبال عام جديد .
في باريس …كانت الحياة تظهر بشكل آخر, حتى على أهل باريس, فهم يعيشون أحلاماً تداعبهم كل شهور السنة , و ينتظرون أن تحل عليهم هذه الأيام , أيام احتفالات الكريسماس . حيث يفد إليهم العالم كله ليستمتعوا باحتفالات باريس .
في باريس …الشوارع مزدحمة, و الفنادق ممتلئة , و الحافلات مكتظة , و الوجوه مبتسمة , والناس في كل مكان يتجولون , و يتبضعون , و يأكلون و يسمرون .
في باريس …أنت في وسط لوحة فنية منحوتة بأيدي عمالقة الفن العالمي , من القدماء و المحدثين . حيث تظهر لك الشوارع وقد نصبت في طرقاتها الكثير من التماثيل و التي تعبر عن مناسبات مختلفة , بعضها نهاية حرب , و بعضها إعلان نصر , و بعضها بداية مرحلة سلام, و بعضها بقايا فنان إندثر و لم يبقى إلا هذا الحجر ليطبع في النفوس عن فنه أثر .
في باريس …سكنت في مكان مناسب – لأكن أكثر دقة مناسب بالنسبة لي– فلقد سكنت في ظل قوس النصر , في مسكن صغير جميل مريح .
في باريس …كانت غرفتي صغيرة , و المصعد صغير , و الأستقبال صغير , و الآمال عريضة .
في باريس …كنت أستقل مصعد المسكن و له قفص من حديد , فكأنه سجن صغير. فهو قد وضع جزاء من يركض بأرض الحرية بدون حساب , لذا فهم يقبضون عليه متلبساً ليهدأ قليلاً , ثم يطلقون صراحة مع بزوغ الشمس ليداعب محبوبته في وقت جديد .
في باريس …كانت غرفتي صغيرة , و الأثاث متوسط الحال , و التلفاز لم يتجاوز 14 بوصة , و دورة المياه بمروش يقطر بقطرات شحيحة , و أرضيته قد كسيت ببلاط لامع , و الفراش أستطيع أن أنام على جنبي و براحة , و لو حاولت أن أنطرح على ظهري لسقطت بنعومة على أرضية الفندق الباريسي الرقيقة , كل ذلك لا يهم فرغم الضيق و القدم , فإن مايحمله عقلي من خلال الجولة اليومية يجعلني و كأني في قصر .و يكفي أنني عندما أسحب اللحاف على رأسي أحس كأنني أدخل قبتي الذهبية من الأحلام الوردية .
في باريس …كنت آتي بالليل بعد طول تعب و عناء من جولات النهار فأتمدد على سريري , فأجد قدماي خارج حدود منصة السرير , فلا أعلم هل سرير تقلص من البرد ؟! أم أنني أنا قد تمددت بفعل كثرة المشي و الحركة ؟!..لا أعلم و لا أعرف …و لكن الشيء الذي ابصم عليه بالعشرة ..و متأكد منه أنني لم أفتح الثلاجة , و لم أتناول شيئاً من مشروباتها العادية أو المعدنية أوالغازية أو المائية .
في باريس …سمعت بنفسي و بدون و سيط , كلمات بنجور , بنصوا , سمعتها بأذني مباشرة ,سمعتها برقة و نعومة .سمعتها كلحن .. كنغمة .. كتغريد طير .. بل و نطقتها بنعومتهم و رقتهم مثلهم , و وجدتهم يحسون بها و يستشعرونها .
في باريس …أسمع جغجغة و لا أرى ضحكاً .فهم يتكلمون بحروف أغلبها ذات جعجعة أو جغجغة . تضحكني و تطربني . و أما هم فهم يعقلونها و يستمتعون بها .لقد تذكرت مذيع الأخبار الفرنسية , عندما كنا نجتمع و نحن صغار و نضحك على طريقة نطقة الكلمات .
في باريس …استقضت قبل الفجر , وفتحت النافذة فوجدت أمر لا يسر , فأغلقت النافذة , فتأكدت فعلاً أنني في باريس .
في باريس …سمعت من غرفتي و بعد أن أديت صلاة الفجر , وقع أقدام سيدة تعزف بكعب حذائها على بيانو أرصفة المدينة , فعلمت أن الحياة بدأت تدب في الطرقات . فلبست معطفي مسرعاً لأستقبل الشعاع من أول النهار .
في باريس …وقبل بزوغ الشمس ..وقفت تحت قوس النصر لوحدي , فمن يأتي إليه في هذا الوقت المبكر و في فصل الشتاء ؟! إلا إنساناً قد خرج شوقاً لمعالم باريس , أو يبحث عن دفءً شعاعها أو يقتبس شيئاً من شعلتها , و لكن لكل شيء إذا ماتم نقصان..فلما نزلت ..وقفت دورية تحمل جنداً مدججين , وضع على عضد كل واحد منهم علماً يحتوي على 99 نجمة , و كل نجمة تجعلني أحس أنني أنا المطلوب الأول في هذا الوقت المبكر . نظرت إلى أكتافهم العريضة , و إلى أسلحتهم الضخمة و التي لم أشاهدها إلا في قناة CNN , أو أحد الأفلام الأمريكية . و رجع شريط الذكريات بكامله إلى ذاكرتي , و كيف أن الناس يتهمون بملا يفعلون . و أن الاعتقال قد نفذ إلى أناس لم يكن يربطهم أي رابط من قريب أو بعيد بالمطلوبين . فثلاث أشياء .وقت مبكر , و عند قوس النصر , و شاب عربي , جميعها مقومات تجعل الأدلة جاهزة لأن يرحل السائح إلى جزيرة بعيدة بغير تهمة . و بعد وقت قصير اصطف الجنود أمامي فحجبوا الكون عني , ثم أعطوني ظهورهم . ثم بدأت أفلاشات الكاميرات تبرق من أمامهم لتظهر قوس النصر من خلفهم . فعلمت أنهم أتوا للزيارة . و أن الأمر ليس كما أتصور .
في باريس …يقبع قوس النصر بوسط دائرة كبيرة , و بنفق حفر من تحته , و بسلم يؤدي إلى أعلاه , فتشاهد كامل جادة الشانزليزية , حتى المسلة المصرية , و من الجهة الأخرى يمتد بك البصر حتى يقف على الأدفانس . و من أمامك يقبع برج أيفل الشهير .
في باريس … هربت شركات التأمين الخاصة برخص قيادة السيارات من التأمين على منطقة قوس النصر , فإجتماع إثنا عشر طريق على تلك الدائرة تجعل الخطر قريب . و الخسارة من التأمين محققة .
في باريس …اخترت قوس النصر انطلاقا لرحلاتي الأستكشافية لغزو طرقات المدينة , فمشيت بأقدامي ثمان طرقات من الأثنى عشر طريقاً الممتدة من قوس النصر حتى تمددت جزمتي – أكرمكم الله – و كادت أن تتمزق .
في باريس …خرجت مع الطيور , و مع الموظفين , و مع أهل البلد , و مع الباريسيين كلهم في صبح مبكر , كلهم لهم أهداف محددة , أما أنا فهدفي أن أسير …أركض.. أجري.. أتمشى بلا هدف محدد .و هل هناك من غرابة فأنا في أرض الحرية , و حر بما أفعل .
في باريس …و في وقت مبكر تجد على الوجوه لمسة الليل القريب , فالوجوه لم تغادر مسحة النوم القريبة عن محياها , أما صاحبكم فقد استيقظ منذ وقت مبكر , و ودع النوم منذ آخر الليل , فهو نشيط و تضرب قدماه الأرض و بقوة , و ثقة .
في باريس …خرجت و يصاحبني رذاذ المطر , و تظلني قطع الاشجار , و تغازلني أشعة الشمس من بين السحب.و تزقزق من فوقي الطيور .
في باريس …و في ميترو الأنفاق عزف أمامي شيخ مسن . و معه فتاة شقراء صغيرة ترقص على النغم . و بيدها حصالة نقود تنتظر نظرة العطف ممن حولها .
في باريس …تختلف صالات ميترو الأنفاق عن ألمانيا المتقدمة , فعبث المراهقين يظهر على جدران المحطة , و مجموعة ملونة منهم تعزف بقوة حتى تفجر الآذان . و يتراقص حولهم مجموعة يظهر أنهم قد أجروا و بمبلغ زهيد الدور الثاني و الثالث و حتى الأرضي و البدروم من عقولهم بفعل المسكر. فتصاب بحالات من الذعر من حركاتهم .
في باريس …قطفت تذكرة الميترو و علمت بأهمية أن تبقى بيدي , و أن أحتفظ بها حتى استطيع أن أفتح المزلاج المتحرك الذي يفتح لي مسار القطار الذي أريد . و لكن فوجئت بأن شاباً يقفز من فوق السياج . فعلمت أن الحرب خدعة . و علمت أيضا أن الغريب يجب أن ينظر و يبتسم بدون أن يقلد , أو يحاول أن يوجه .
في باريس …الحرية بكل معنى الكلمة , فلقد فككت آخر القيود , و انطلقت بلا حدود , و خلعت الثوب الضيق من التشدد . فهنا و في باريس انقلب الحال من الأسود الحالك السواد , إلى الأبيض الناصع البياض , فسقف الحرية قد رفع درجات ممتدة و بدون سقف حديٍ أعلى . فهنا لا تجد النظام المتشدد في ألمانيا . فهنا أناس يعبرون الطريق بدون أن يهتموا بألون الإشارة هل هي حمراء أو خضراء أو صفراء , أو حتى زرقاء . فهذا ينطلق من بين السيارات العابرة , و ذاك يمر بسهولة من بين السيارات المزدحمة , و مجموعة يتفرقون من بين السيارات المتوقفة عند إشارات المرور الشاخصة .أما أصحاب التاكسي و السيارات العامة , فالكل مسرع من أجل أن يلحق على العبور قبل أن تتحول من الصفراء إلى الخضراء , و إن لم يلحق فأيضاَ لن يتوقف . فبعرفه أن الأمر لا يستحق أن يكبح جماح سيارته المسرعة بسرعة الضوء .و ذاك قد جمع أولادة في مقدمة السيارة و أولاد حارته و خالته و أبناء الحي ألاتيني بأجمعة , و ليس هناك من يطارده ليقول له : أنت مخالف للأنظمة لأن ابنك الصغير لم يركب بالخلف . هذه باريس قد تخلصت من عنف النظام المتشدد , و عاشت مثل أي حياة من حياة البشر فيها النظام و فيها الخطاء , حقاً لقد عشت اياماً سعدت بهذا التحول بعد تعسف النظام الألماني المتشدد – وجهة نظر أحبها – و لا أتحمل عواقبها لغيري .
في باريس …وجوه مختلفة , دول مختلفة , قارات مختلفة , مذاقات مختلفة , ملابس مختلفة , عالم آخر …آخر… آخر…اعلم أنني لم استطع توصل الفكرة فكررت آخر …فرجاءً صدقوني .
في باريس …للجمال لمسة , و للذوق نغمة , و للحس المرهف نسمه , و للحسن طله , و للإبداع نظرة , و للوجوه بسمة .
في باريس …تشدك الوجوه الأفريقية السوداء , و تلفت انتباهك العيون الأسيوية , و تستغرب التفاوت الأوربي الظاهر .
في باريس …و في وقت الشتاء المتجمد تلبس المدينة الحشمة , و برغم ذلك يبقى نزر يسير من النساء يأبين إلا أن يبقين خارج المألوف . فتصاب بالبرد و الزكام من رؤيتهن يتمخطرن بملابس حاسرة , و تراها للستر خاسرة , و نفسي على الفضيلة متحسرة .أنظر إلى نفسي رغم ما حملته أكتافي من الملابس الصوفية البلدية المتينة و القوية , ثم أنظر إليهن فأحس بالرعشة تنفض جسمي أجمعه .يالهن من صبورات…في سبيل تطبيق الموضة الزائفة …فإن لم تستح فأصنع ماشئت !!
في باريس …كانت أعتقد إنني سوف أمشي في جادة الشانزلزيه على المرمر , أو حجر مصقول مذهب , أو رخام براق يلمع .و لكن وقفت أكثر من مرة بين المسلة المصرية و قوس النصر لأمسح أحذيتي المتسخة من الأرض المبللة من قطرات المطر المتبقية من الأمطار المتساقطة ليلة البارحة . و ليس السبب سوء التصريف , أو غزارة الأمطار . بل السبب أن الرصيف الجانبي لبعض الشانزلزيه مرصوف بتراب أو ببطحاء فأصبحت الأرض قابلة للبلل . فهل يعقل أنني في جادة المليارديرات . أو في أشهر جادة على وجه ارض , هل من المعقول أن عدة باريس السابق و اللاحق لا يعلم أن ارض شارعهم الرئيسي أصبحت ” زلط ” حتى أنها أصابت حذاء الشاب النجدي بالاتساخ .و لو سألت المغرمين بسماء باريس عن هذا النقص الواضح الظاهر . لقال ألم تعلم أنهم يحبون البساطة , و أن من طبعهم عدم التمظهر بزيادة . و يحاول أن يجد لهم ألف عذر , فكأنه يدافع عن أهله أو جماعته . و برأيي أن شارع التحلية في الرياض أفضل و أرقى و أجمل من شارع الشانزلزيه كتجهيز في البنية الأساسية للطرقات .أتمنى أن لا أكون قد تدخلت بخصوصيات الغير .
في باريس …تبقى المسلة المصرية رمزاً عربياً يشدنا بوجوده و أسمه , فرغم أنه نصب تذكاري و لكن يبقى الحنين لأرض العرب يحرك في النفس بواعث السرور و الفرح .
في باريس …كانت السماء اليوم ملبدة بالغيوم , و الأرض مبللة بالقطرات , و الأشجار قد ودعت منذ أشهر الأوراق , و ماتبقى منها فهي صفراء و قريباً سوف تلقيها في الطرقات .و في شوارعها اقفز هنا و هناك , و أتنقل هنا و هناك . لا ستكشف باريس بتفاصيلها , باريس التي تجولت فيها عبر أزقتها قبل أن أزورها و ذلك من خلال الأدباء الذين كتبوا عنها . و عرفت معالمها قبل أن يتحدث المرشد السياحي باسمها فقد حفظتها بالمرة , بل بالمرات . و تجولت في متحفها المفتوح في كل مكان .
في باريس….و للحديث بقية..ألقاكم بخير
نسيم نجد
في الطريق إلى باريس …عبرنا الحدود الألمانية البلجيكية , فتغيرت المباني ,و أصبحت رديئة المظهر , و بان عليها عامل السن و عدم الأهتمام , أما الطبيعة الساحرة في الجبال بين الدولتين فبدأ يخبو سحرها , و ينطفئ لهيب جمالها .و بدأ القطار الذي يلتوي من فوق الجبال بالسير بخط مستقيم لا يكاد أن ينحرف أبداً .
في الطريق إلى باريس …عبرنا أنهار , و تجاوزنا جبال , ومررنا بغابات , و ودعنا على الحدود بيت نصفه تابع لدولة ألمانيا و النصف الآخر تابع لدولة البلجيك , كدليل واقعي على أن الإتحاد الأوربي قادم بقوة .
في الطريق إلى باريس…كان الناقل هو قطار سريع من فئة IC والذي عرف بسرعته و سكينته. وهي المرة الأولى التي أسافر بين دول أوربا بدون سيارة أقودها بنفسي .
في الطريق إلى باريس …كان لزاماً علينا أن نحول في بروكسل , عاصمة بلجيكا , و التي زرتها من قبل , فألقيت عليها تحية المعرفة , و الشوق .و طافت بذهني بعض الذكريات .
في الطريق إلى باريس …كان القطار الذي ركبناه بعد بروكسل أقل من أخيه الذي سبقه , و أبطء منه بمراحل ملحوظة , وليس ذلك مستغرب فالألمان هم قادة صناعة و صنع القطارات في القارة الأوربية .
في الطريق إلى باريس..ركب أمامي شاب و شابه من بلجيكا ,و يبدو أنهما سعيدان بالرحلة , وكان حديثهم أنغام رائعة , لم تسمع أذني في الحياة كلها مثل تلك النغمات الفريدة , و كان يجريان مكالمات عدة لحجز فندق في باريس , فتقابل كل طلباتهم بالأسف و الاعتذار من أصحاب الفنادق ,و ذلك لأن الوقت متأخر , و باريس مزدحمة بالأفواج السياحية . فكانت الفتاة تتنهد بعمق ثم ترمي برأسها على عشيقها , فيستمد قوته من حسرتها , فيبدأ المحاولة مرة أخرى . و أنا أنظر إليهم من خلف كتابي الذي أقلب صفحاته بتناغم بين فصول القصة التي أتتبعها , و حديث العاشقين الذي أسمعه , و انسيابية القطار الذي أركبه . فلما حصلا على حجز من أحد الفنادق كادا يطيران من الفرح , وكدت أن أطير معهم , لولا أن خشيت أن يقولا باللغة البلجيكية ” وش دخلك ” .
في الطريق إلى باريس…رأيت و للمرة الأولى أن الأرض تكاد أن تالتصق بالسماء , و أن السحاب يكاد أن يزحف على الأرض , و أن الأرض ممتدة و إلى نهاية العين و بالخضرة مكتسية .
على أطراف باريس…و قف القطار عند رصيف ممتلئ بالبشر , فالكل حضر هنا… فنحن الآن في أجازة نهاية الأسبوع الأول من أسابيع السنة الجديدة . و التي أعقبت احتفالات صاخبة في كل المدينة لتوديع عام و استقبال عام جديد .
في باريس …كانت الحياة تظهر بشكل آخر, حتى على أهل باريس, فهم يعيشون أحلاماً تداعبهم كل شهور السنة , و ينتظرون أن تحل عليهم هذه الأيام , أيام احتفالات الكريسماس . حيث يفد إليهم العالم كله ليستمتعوا باحتفالات باريس .
في باريس …الشوارع مزدحمة, و الفنادق ممتلئة , و الحافلات مكتظة , و الوجوه مبتسمة , والناس في كل مكان يتجولون , و يتبضعون , و يأكلون و يسمرون .
في باريس …أنت في وسط لوحة فنية منحوتة بأيدي عمالقة الفن العالمي , من القدماء و المحدثين . حيث تظهر لك الشوارع وقد نصبت في طرقاتها الكثير من التماثيل و التي تعبر عن مناسبات مختلفة , بعضها نهاية حرب , و بعضها إعلان نصر , و بعضها بداية مرحلة سلام, و بعضها بقايا فنان إندثر و لم يبقى إلا هذا الحجر ليطبع في النفوس عن فنه أثر .
في باريس …سكنت في مكان مناسب – لأكن أكثر دقة مناسب بالنسبة لي– فلقد سكنت في ظل قوس النصر , في مسكن صغير جميل مريح .
في باريس …كانت غرفتي صغيرة , و المصعد صغير , و الأستقبال صغير , و الآمال عريضة .
في باريس …كنت أستقل مصعد المسكن و له قفص من حديد , فكأنه سجن صغير. فهو قد وضع جزاء من يركض بأرض الحرية بدون حساب , لذا فهم يقبضون عليه متلبساً ليهدأ قليلاً , ثم يطلقون صراحة مع بزوغ الشمس ليداعب محبوبته في وقت جديد .
في باريس …كانت غرفتي صغيرة , و الأثاث متوسط الحال , و التلفاز لم يتجاوز 14 بوصة , و دورة المياه بمروش يقطر بقطرات شحيحة , و أرضيته قد كسيت ببلاط لامع , و الفراش أستطيع أن أنام على جنبي و براحة , و لو حاولت أن أنطرح على ظهري لسقطت بنعومة على أرضية الفندق الباريسي الرقيقة , كل ذلك لا يهم فرغم الضيق و القدم , فإن مايحمله عقلي من خلال الجولة اليومية يجعلني و كأني في قصر .و يكفي أنني عندما أسحب اللحاف على رأسي أحس كأنني أدخل قبتي الذهبية من الأحلام الوردية .
في باريس …كنت آتي بالليل بعد طول تعب و عناء من جولات النهار فأتمدد على سريري , فأجد قدماي خارج حدود منصة السرير , فلا أعلم هل سرير تقلص من البرد ؟! أم أنني أنا قد تمددت بفعل كثرة المشي و الحركة ؟!..لا أعلم و لا أعرف …و لكن الشيء الذي ابصم عليه بالعشرة ..و متأكد منه أنني لم أفتح الثلاجة , و لم أتناول شيئاً من مشروباتها العادية أو المعدنية أوالغازية أو المائية .
في باريس …سمعت بنفسي و بدون و سيط , كلمات بنجور , بنصوا , سمعتها بأذني مباشرة ,سمعتها برقة و نعومة .سمعتها كلحن .. كنغمة .. كتغريد طير .. بل و نطقتها بنعومتهم و رقتهم مثلهم , و وجدتهم يحسون بها و يستشعرونها .
في باريس …أسمع جغجغة و لا أرى ضحكاً .فهم يتكلمون بحروف أغلبها ذات جعجعة أو جغجغة . تضحكني و تطربني . و أما هم فهم يعقلونها و يستمتعون بها .لقد تذكرت مذيع الأخبار الفرنسية , عندما كنا نجتمع و نحن صغار و نضحك على طريقة نطقة الكلمات .
في باريس …استقضت قبل الفجر , وفتحت النافذة فوجدت أمر لا يسر , فأغلقت النافذة , فتأكدت فعلاً أنني في باريس .
في باريس …سمعت من غرفتي و بعد أن أديت صلاة الفجر , وقع أقدام سيدة تعزف بكعب حذائها على بيانو أرصفة المدينة , فعلمت أن الحياة بدأت تدب في الطرقات . فلبست معطفي مسرعاً لأستقبل الشعاع من أول النهار .
في باريس …وقبل بزوغ الشمس ..وقفت تحت قوس النصر لوحدي , فمن يأتي إليه في هذا الوقت المبكر و في فصل الشتاء ؟! إلا إنساناً قد خرج شوقاً لمعالم باريس , أو يبحث عن دفءً شعاعها أو يقتبس شيئاً من شعلتها , و لكن لكل شيء إذا ماتم نقصان..فلما نزلت ..وقفت دورية تحمل جنداً مدججين , وضع على عضد كل واحد منهم علماً يحتوي على 99 نجمة , و كل نجمة تجعلني أحس أنني أنا المطلوب الأول في هذا الوقت المبكر . نظرت إلى أكتافهم العريضة , و إلى أسلحتهم الضخمة و التي لم أشاهدها إلا في قناة CNN , أو أحد الأفلام الأمريكية . و رجع شريط الذكريات بكامله إلى ذاكرتي , و كيف أن الناس يتهمون بملا يفعلون . و أن الاعتقال قد نفذ إلى أناس لم يكن يربطهم أي رابط من قريب أو بعيد بالمطلوبين . فثلاث أشياء .وقت مبكر , و عند قوس النصر , و شاب عربي , جميعها مقومات تجعل الأدلة جاهزة لأن يرحل السائح إلى جزيرة بعيدة بغير تهمة . و بعد وقت قصير اصطف الجنود أمامي فحجبوا الكون عني , ثم أعطوني ظهورهم . ثم بدأت أفلاشات الكاميرات تبرق من أمامهم لتظهر قوس النصر من خلفهم . فعلمت أنهم أتوا للزيارة . و أن الأمر ليس كما أتصور .
في باريس …يقبع قوس النصر بوسط دائرة كبيرة , و بنفق حفر من تحته , و بسلم يؤدي إلى أعلاه , فتشاهد كامل جادة الشانزليزية , حتى المسلة المصرية , و من الجهة الأخرى يمتد بك البصر حتى يقف على الأدفانس . و من أمامك يقبع برج أيفل الشهير .
في باريس … هربت شركات التأمين الخاصة برخص قيادة السيارات من التأمين على منطقة قوس النصر , فإجتماع إثنا عشر طريق على تلك الدائرة تجعل الخطر قريب . و الخسارة من التأمين محققة .
في باريس …اخترت قوس النصر انطلاقا لرحلاتي الأستكشافية لغزو طرقات المدينة , فمشيت بأقدامي ثمان طرقات من الأثنى عشر طريقاً الممتدة من قوس النصر حتى تمددت جزمتي – أكرمكم الله – و كادت أن تتمزق .
في باريس …خرجت مع الطيور , و مع الموظفين , و مع أهل البلد , و مع الباريسيين كلهم في صبح مبكر , كلهم لهم أهداف محددة , أما أنا فهدفي أن أسير …أركض.. أجري.. أتمشى بلا هدف محدد .و هل هناك من غرابة فأنا في أرض الحرية , و حر بما أفعل .
في باريس …و في وقت مبكر تجد على الوجوه لمسة الليل القريب , فالوجوه لم تغادر مسحة النوم القريبة عن محياها , أما صاحبكم فقد استيقظ منذ وقت مبكر , و ودع النوم منذ آخر الليل , فهو نشيط و تضرب قدماه الأرض و بقوة , و ثقة .
في باريس …خرجت و يصاحبني رذاذ المطر , و تظلني قطع الاشجار , و تغازلني أشعة الشمس من بين السحب.و تزقزق من فوقي الطيور .
في باريس …و في ميترو الأنفاق عزف أمامي شيخ مسن . و معه فتاة شقراء صغيرة ترقص على النغم . و بيدها حصالة نقود تنتظر نظرة العطف ممن حولها .
في باريس …تختلف صالات ميترو الأنفاق عن ألمانيا المتقدمة , فعبث المراهقين يظهر على جدران المحطة , و مجموعة ملونة منهم تعزف بقوة حتى تفجر الآذان . و يتراقص حولهم مجموعة يظهر أنهم قد أجروا و بمبلغ زهيد الدور الثاني و الثالث و حتى الأرضي و البدروم من عقولهم بفعل المسكر. فتصاب بحالات من الذعر من حركاتهم .
في باريس …قطفت تذكرة الميترو و علمت بأهمية أن تبقى بيدي , و أن أحتفظ بها حتى استطيع أن أفتح المزلاج المتحرك الذي يفتح لي مسار القطار الذي أريد . و لكن فوجئت بأن شاباً يقفز من فوق السياج . فعلمت أن الحرب خدعة . و علمت أيضا أن الغريب يجب أن ينظر و يبتسم بدون أن يقلد , أو يحاول أن يوجه .
في باريس …الحرية بكل معنى الكلمة , فلقد فككت آخر القيود , و انطلقت بلا حدود , و خلعت الثوب الضيق من التشدد . فهنا و في باريس انقلب الحال من الأسود الحالك السواد , إلى الأبيض الناصع البياض , فسقف الحرية قد رفع درجات ممتدة و بدون سقف حديٍ أعلى . فهنا لا تجد النظام المتشدد في ألمانيا . فهنا أناس يعبرون الطريق بدون أن يهتموا بألون الإشارة هل هي حمراء أو خضراء أو صفراء , أو حتى زرقاء . فهذا ينطلق من بين السيارات العابرة , و ذاك يمر بسهولة من بين السيارات المزدحمة , و مجموعة يتفرقون من بين السيارات المتوقفة عند إشارات المرور الشاخصة .أما أصحاب التاكسي و السيارات العامة , فالكل مسرع من أجل أن يلحق على العبور قبل أن تتحول من الصفراء إلى الخضراء , و إن لم يلحق فأيضاَ لن يتوقف . فبعرفه أن الأمر لا يستحق أن يكبح جماح سيارته المسرعة بسرعة الضوء .و ذاك قد جمع أولادة في مقدمة السيارة و أولاد حارته و خالته و أبناء الحي ألاتيني بأجمعة , و ليس هناك من يطارده ليقول له : أنت مخالف للأنظمة لأن ابنك الصغير لم يركب بالخلف . هذه باريس قد تخلصت من عنف النظام المتشدد , و عاشت مثل أي حياة من حياة البشر فيها النظام و فيها الخطاء , حقاً لقد عشت اياماً سعدت بهذا التحول بعد تعسف النظام الألماني المتشدد – وجهة نظر أحبها – و لا أتحمل عواقبها لغيري .
في باريس …وجوه مختلفة , دول مختلفة , قارات مختلفة , مذاقات مختلفة , ملابس مختلفة , عالم آخر …آخر… آخر…اعلم أنني لم استطع توصل الفكرة فكررت آخر …فرجاءً صدقوني .
في باريس …للجمال لمسة , و للذوق نغمة , و للحس المرهف نسمه , و للحسن طله , و للإبداع نظرة , و للوجوه بسمة .
في باريس …تشدك الوجوه الأفريقية السوداء , و تلفت انتباهك العيون الأسيوية , و تستغرب التفاوت الأوربي الظاهر .
في باريس …و في وقت الشتاء المتجمد تلبس المدينة الحشمة , و برغم ذلك يبقى نزر يسير من النساء يأبين إلا أن يبقين خارج المألوف . فتصاب بالبرد و الزكام من رؤيتهن يتمخطرن بملابس حاسرة , و تراها للستر خاسرة , و نفسي على الفضيلة متحسرة .أنظر إلى نفسي رغم ما حملته أكتافي من الملابس الصوفية البلدية المتينة و القوية , ثم أنظر إليهن فأحس بالرعشة تنفض جسمي أجمعه .يالهن من صبورات…في سبيل تطبيق الموضة الزائفة …فإن لم تستح فأصنع ماشئت !!
في باريس …كانت أعتقد إنني سوف أمشي في جادة الشانزلزيه على المرمر , أو حجر مصقول مذهب , أو رخام براق يلمع .و لكن وقفت أكثر من مرة بين المسلة المصرية و قوس النصر لأمسح أحذيتي المتسخة من الأرض المبللة من قطرات المطر المتبقية من الأمطار المتساقطة ليلة البارحة . و ليس السبب سوء التصريف , أو غزارة الأمطار . بل السبب أن الرصيف الجانبي لبعض الشانزلزيه مرصوف بتراب أو ببطحاء فأصبحت الأرض قابلة للبلل . فهل يعقل أنني في جادة المليارديرات . أو في أشهر جادة على وجه ارض , هل من المعقول أن عدة باريس السابق و اللاحق لا يعلم أن ارض شارعهم الرئيسي أصبحت ” زلط ” حتى أنها أصابت حذاء الشاب النجدي بالاتساخ .و لو سألت المغرمين بسماء باريس عن هذا النقص الواضح الظاهر . لقال ألم تعلم أنهم يحبون البساطة , و أن من طبعهم عدم التمظهر بزيادة . و يحاول أن يجد لهم ألف عذر , فكأنه يدافع عن أهله أو جماعته . و برأيي أن شارع التحلية في الرياض أفضل و أرقى و أجمل من شارع الشانزلزيه كتجهيز في البنية الأساسية للطرقات .أتمنى أن لا أكون قد تدخلت بخصوصيات الغير .
في باريس …تبقى المسلة المصرية رمزاً عربياً يشدنا بوجوده و أسمه , فرغم أنه نصب تذكاري و لكن يبقى الحنين لأرض العرب يحرك في النفس بواعث السرور و الفرح .
في باريس …كانت السماء اليوم ملبدة بالغيوم , و الأرض مبللة بالقطرات , و الأشجار قد ودعت منذ أشهر الأوراق , و ماتبقى منها فهي صفراء و قريباً سوف تلقيها في الطرقات .و في شوارعها اقفز هنا و هناك , و أتنقل هنا و هناك . لا ستكشف باريس بتفاصيلها , باريس التي تجولت فيها عبر أزقتها قبل أن أزورها و ذلك من خلال الأدباء الذين كتبوا عنها . و عرفت معالمها قبل أن يتحدث المرشد السياحي باسمها فقد حفظتها بالمرة , بل بالمرات . و تجولت في متحفها المفتوح في كل مكان .
في باريس….و للحديث بقية..ألقاكم بخير
نسيم نجد