الحمدلله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد , و هو على كل شيء قدير , و الصلاة و السلام على نبينا
محمد , و على آله و صحبه أجمعين , ثم أما بعد : فاتقوا الله تعالى حق التقوى , ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ
اخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) لقمان ..
أيها المؤمنون يقول الله عز و جل : ( وَ ٱحْفَظُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة ،
لقد أمر الله سبحانه عباده بحفظ الأيمان , و ذلك بألا يكونوا متسرعين فيها ، و ألا يوقعوا اليمينَ إلا على أمرٍ
هم مضطرون إليه ، و إن علينا أن نعظِّم تلك اليمين بالله تعظيمَا ، و إذا وقعت منا يمين قابلة للكفارة فعلينا
أن نحافظ عليها , و ذلك بأن نؤدي الكفارة إذا أردنا مخالفة ما حلفنا عليه , يقول عليه الصلاة و السلام : ( إني
لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني و أتيت الذي هو خير ) متفق عليه .
و عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( وَ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه ..
و إن علينا كذلك أن نكون صادقين في أيماننا ، بعيدين عن الكذب فيها ، و قد أمر عليه الصلاة و السلام
المسلمين بالصدق في أيمانهم ، و ألزم قبول يمين من حلف إذا لم يستبن كذبُه و باطله ، قال صلى الله
عليه و سلم : ( من حلف بالله فليصدُق ، و من حُلِف له بالله فليرضَ ، و من لم يرض فليس منا ) ابن ماجة
و صححه الحافظ في الفتح و الألباني رحمهما الله تعالى ..
و اليمين : هِيَ تَأْكِيدُ الأَمْرِ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ لِيَحْمِلَ السَّامِعَ عَلَى التَّصْدِيقِ , وَ تُسَمَّى الْحَلِف , و الْحَلِفُ المشروع
إنما يكون بِاللهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ , كَأَنْ يقُولَ المسلم : أُقْسِمُ بِاللهِ , أَوْ أُقْسِمُ بِعِزَّةِ اللهِ , فَهَذَا جَائِزٌ , بَلْ
هُوَ الْمَشْرُوعُ فَقَطْ , فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ :
(مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ) الْبُخَارِىُّ .
و أما الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ فَإنه شِرْكٌ , كَأَنْ يَحْلِفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَيَقُول : وَ النَّبِي , أَوْ بِالنِّعْمَةِ ,
أو بالكعبة , أو بحياتك , فَهَذَا كُلُّهُ شِرْكٌ , فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : لَا وَ الكَعْبَةِ ،
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ حَلَفَ
بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ ) التِّرْمِذِيُّ وَ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَ الأَلْبَانِيّ ُ ..
و أما مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ كَقَوْلِ عَلَيَّ الطَّلاقُ , فَهَذَا مُحَرَّمٌ وَ مَمْنُوعٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ شِرْكَاً , وَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
فَقَدْ وَقَعَ فِي الإِثْمِ , وَ عِنْدَ عدد من الْعُلَمَاءِ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ , و عند عدد منهم أنها
لا تطلق إن لم يكن قصده الطلاق , و إنما هي يمين يكفرها , فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ أَيُّهَا الْمُسْلِم ..
و يَكُونُ عَلَى الْحَالِفِ كَفَّارَةٌ إِذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ بِأَنْ يَفْعَلَ أَوْ لا يَفْعَل , كَأَنْ يَقُولَ : وَ اللهِ لَأُسَافِرَنَّ
اللَّيْلَةَ إلى جدة , أَوْ : وَ اللهِ لا أَدْخُلُ بَيْتَ فُلانٍ , وَ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , فَهُنَا إِنْ نَفَّذَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ , وَ إِنْ
لَمْ يُنَفِّذْ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ , و كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَاجِبَةٌ , وَ يَجِبُ أَنْ يُبَادِرَ بِالْكَفَّارَةِ , وَ مَنْ أَخَّرَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ آثِمٌ ,
وَ الْكَفَّارَةُ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَتَمَّ بَيَانٍ فَقَالَ عَزَّ وَ جَلَّ : ( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ
لَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُواْ أيمانكم ) المائدة .
فَالْوَاجِبُ أَنْ تُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِين مِنْ مُتَوَسِّطِ طَعَامِ أَهْلِكَ , أَوْ تَكْسُوهُمْ أَوْ تُعْتِقَ رَقَبَةٍ , فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
هَذِه الثَّلاثِ تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئَاً مِنْ هَذِهِ الثَّلاثِ فَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ , وَ مِنَ الْخَطَأِ
أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِذَا حَنَثَ فِي يَمِينِهِ صَامَ , وَ وَجْهُ الْخَطَأَ هُنَا أنَّ الصِّيَامَ لا يَكُونُ حَتَّى يَعْجَزَ عَنِ الثَّلاثِ الأُولَى .
و مِقْدَارُ الْكَفَّارَةِ إِطْعَامُ عَشْرَةِ فُقَرَاءَ حَتَّى يَشْبَعُوا لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ , فَإِنْ دَفَعْتَ الطَّعَامَ إِلَيْهِمْ فَلا بَأْسَ .
فَالآنَ لَوِ اشْتَرَيْتَ كِيسَ أُرْزٍ وَزْنُهُ عَشْرَةَ كِيلُو غِرَامَاتٍ وَ جَعَلْتَ مَعَهُ خَمْسَ دَجَاجَاتٍ مِنَ الْوَزْنِ الْمُتَوَسِّطِ وَ
دَفَعْتَهُ لِبَيْتٍ فِيهِ عَشْرَةُ مَسَاكِين أَجْزَأَكَ , وَ الْفَقِيرُ الذي تدفع إليه هُوَ الذِي دَخْلَهُ لا يَكْفِيه ..
أيها المؤمنون ، إن الكذبَ في الأيمان كبيرة من كبائر الذنوب ، موجبةٌ لسخط الله ، يقول سبحانه و تعالى :
( إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَ أَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ وَ لاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ وَ لاَ يَنظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَ لاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) آل عمران , و لذلك كان علينا أن نحذر اليمين الغموس , فإن
اليمينَ تعظيمٌ لله ، و لا يحوز أن نعظِّم الله جل و علا على أمر كذب و افتراء و باطل , فيا أيها المسلم ، لا
تحلف بالله تعالى بيمين تعظمه فيها و أنت فاجر كاذب فيها ، و اتق الله في هذه اليمين ، لا تستحلَّ بها مالَ
امرئ مسلم ، و لا تنكِر بها حقاً ، و لا تؤيِّد بها باطلاً، و لا تنتصر فيها لهوى ، و إنما اجعل اليمينَ بالله على
الصدق و الوضوح ، و ابتعد عن الكذب و الفجور و الباطل . و النبي عليه الصلاة و السلام عدَّ اليمينَ الغموس
من كبائر الذنوب ، فقال عليه الصلاة و السلام لما سئل عن الكبائر قال : ( الإشراك بالله ، و عقوق الوالدين ،
و اليمين الغموس ) البخاري ، فقرنها بالشرك و عقوق الوالدين ، فعلينا أن نحذر هذه اليمين الباطلة ، و أن
تكون أيماننا أيماناً صادقة , و اليمين الغموس هي التي يتعمد المسلم الكذب فيها , و سميت غموساً لأنها
تغمس صاحبها في الإثم في الدنيا و في النار في الآخرة , و صاحب الأيمان الكاذبة قدوته في ذلك إبليس ,
فهو أول من سن اليمين الكاذبة يوم أن حلف لأدم و حواء أنه لهما لمن الناصحين , و قد خلد الله سيحانه لنا
ذلك في كتابه العزيز لنعتبر فنحذر , حيث قال تعالى : ( وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ , فدلاهما بغرور )
الأعراف , و الأيمان الكاذبة شعار أهل النفاق , أخبر بذلك العليم الحكيم عنهم في أكثر من موضع في كتابه ,
منها قوله تعالى : ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَ لَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ .. ) التوبة ، و قال
تعالى عنهم : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ لَا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ
وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) المجادلة , و أخبر سبحانه عنهم أن أيمانهم أيمانٌ كاذبة ، جعلوا أيمانهم جُنةً تقي أموالهم و
دماءَهم ، فيحلفون بالله على الكذب و هم يعلمون ، قال تعالى : ( ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ
فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) المجادلة ، و قال تعالى : ( إِذَا جَاءكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَ ٱللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ ٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ , ٱتَّخَذُواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا
كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) المنافقون , و قد قال صلى الله عليه و سلم في هذه اليمين أيضاً : ( من اقتطع مال امرئ
مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله و هو عليه غضبان , و تلا هذه الآية : ( إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَ
أَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ وَ لاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ وَ لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَ لاَ يُزَكّيهِمْ
وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) آل عمران ) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . و عند مسلم من
حديث أبي أمامة رضي الله عنه : ( من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر فقد أوجب الله له النار )
و في لفظ : ( من اقتطع حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أوجب الله عليه النار و حرم عليه الجنة , قالوا , يا رسول
الله ، و لو كان شيئا يسيراً ؟ , قال : و لو قضيباً من أراك ) مسلم .
أيها المؤمنون , يقول الله تعالى محذراً لكم يا أمة خير البرية من الوقوع في مثل هذا العمل المشين : ( وَ لَا
تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ ) النحل , يقول ابن كثير في تفسير الآية : ( ثم حذر الله عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً أي خديعة و مكراً
لئلا تزل قدم بعد ثبوتها مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها و زل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة
المشتملة على الصد عن سبيل الله , لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين
فانصد عنه بسببه عن الدخول في الإسلام ) انتهى كلامه رحمه الله ..
فلا تضعف أيها المسلم أمام هذه اليمين الفاجرة ، فتقدم عليها طمعاً في دنيا أو انتصاراً لموقف ، أو دفاعاً
عن إنسان أو قريب أو صديق ، فتظلم نفسك و تظلم ذلك المسلم ، و فوق هذا كذبٌ و افتراء على ربنا
سبحانه و تعالى , و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم
عذاب أليم : المسبل و المنان ، و رجلٌ جعل اللهَ بضاعتَه لا يبيع إلا بيمينه و لا يشتري إلا بيمينه ) , و في رواية :
( و المنفق سلعته بالحلف الكاذب ) مسلم , و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه و سلم : ( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ , رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ
يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ وَ رَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ , إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَ إِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ , وَ رَجُلٌ
يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَ كَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَ لَمْ يُعْطَ بِهَا ) البخاري .
فاتق الله تعالى أيها المسلم في اليمين ، و إياك أن يضعف إيمانُك أمام هذه اليمين فتطلقها بلا حق و أنت
تعلم كذبَ نفسك ، لتنصر نفسَك في موقف من المواقف , و هبْ أنك نلت هذا الأمر و ظفرت بذلك
الشيء ، فمن ينجيك من عذاب الله ؟ من يخلصك من عذاب الله ؟ ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأعْيُنِ وَ مَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ )
غافر ، و يقول تعالى : ( قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَ مَا فِى
ٱلأرْضِ وَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) آل عمران , و أنت تخاف الله أيها المسلم و ترجوه ، كن خائفاً من الله في
يمينك , فقد كان سلفنا الصالح يتورَّعون عن اليمين ، كانوا يتقون اليمين بكلِّ ما أوتوا خوفاً من الزلل في
اليمين ، فاتق الله في اليمين ، قال تعالى : ( وَ لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ , هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ , مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) القلم ، ( وَ لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ) أي : كثير الحلف ، الذي لا يبالي بحلفه ، و لا يتقي الله
في حلفه ، و لا يتورَّع عن الكذب و الباطل و الفجور ..
و اتقوا الله أيها المؤمنون في أيمانكم ، و حافظوا عليها رحمكم الله ، و لا تستخفوا بالأيمان بالله تعالى ،
فإن المستخفّ بها ليكشف عن نقص إيمانه ، ضعف إيمانه و رقة ديانته , إذ لو كان خوفه من الله حقاً
لما أقدم على يمين كاذبة فاجرة ..
و في الختام أود أن أبين أنه لا يَحْنَثُ مَنْ حَلَفَ إِذَا قَالَ : إِنْ شَاءَ اللهُ فِي حَلِفِهِ , فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ : إِنْ شَاءَ اَللَّهُ , فَلَا حِنْثَ
عَلَيْهِ ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ وَ صَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَ الأَلْبَانِيّ ُ , وَ يَلْزَمُ أَنْ ينْطِقَ بِالْمَشِيئَةِ وَ لا يَكْفِي أَنْ ينْوِي ,
فَمَثَلاً يقُولُ : وَ اللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَ كَذَا , وَ لَكِنْ لا يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعَ صَاحِبُكَ الاسْتِثْنَاءُ , فَبِهَذَا
لا يحْنَثْ فِي يَمِينِه وَ يَكُونُ ذَلِكَ عَوْنَاً لَه فِي إِدْرَاكِ حَاجَتِه ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ
وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) البقرة ..
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمَاً نَافِعَاً وَ عَمَلاً صَالِحَاً , اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَسْتَمِعُ القَوْلَ فَيَتَّبِعَ أَحْسَنَه , اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى
ذِكْرِكَ وَ شُكْرِكَ وَ حُسْنِ عِبَادَتِكَ , اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ و المُسْلِمينَ وَ أَذِلَّ الشِّرْكَ وَ المُشْرِكِينَ وَ دَمِّرْ
أَعَدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينَ , اللَّهُمَّ أَعْطِناَ وَ لاَ تَحْرِمْناَ اللَّهُمَّ أَكْرِمْناَ وَ لاَ تُهِنا , اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَ لا تُعِنْ عَليْنَا ,
اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا , و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين
محمد , و على آله و صحبه أجمعين , ثم أما بعد : فاتقوا الله تعالى حق التقوى , ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ
اخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) لقمان ..
أيها المؤمنون يقول الله عز و جل : ( وَ ٱحْفَظُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة ،
لقد أمر الله سبحانه عباده بحفظ الأيمان , و ذلك بألا يكونوا متسرعين فيها ، و ألا يوقعوا اليمينَ إلا على أمرٍ
هم مضطرون إليه ، و إن علينا أن نعظِّم تلك اليمين بالله تعظيمَا ، و إذا وقعت منا يمين قابلة للكفارة فعلينا
أن نحافظ عليها , و ذلك بأن نؤدي الكفارة إذا أردنا مخالفة ما حلفنا عليه , يقول عليه الصلاة و السلام : ( إني
لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني و أتيت الذي هو خير ) متفق عليه .
و عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( وَ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه ..
و إن علينا كذلك أن نكون صادقين في أيماننا ، بعيدين عن الكذب فيها ، و قد أمر عليه الصلاة و السلام
المسلمين بالصدق في أيمانهم ، و ألزم قبول يمين من حلف إذا لم يستبن كذبُه و باطله ، قال صلى الله
عليه و سلم : ( من حلف بالله فليصدُق ، و من حُلِف له بالله فليرضَ ، و من لم يرض فليس منا ) ابن ماجة
و صححه الحافظ في الفتح و الألباني رحمهما الله تعالى ..
و اليمين : هِيَ تَأْكِيدُ الأَمْرِ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ لِيَحْمِلَ السَّامِعَ عَلَى التَّصْدِيقِ , وَ تُسَمَّى الْحَلِف , و الْحَلِفُ المشروع
إنما يكون بِاللهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ , كَأَنْ يقُولَ المسلم : أُقْسِمُ بِاللهِ , أَوْ أُقْسِمُ بِعِزَّةِ اللهِ , فَهَذَا جَائِزٌ , بَلْ
هُوَ الْمَشْرُوعُ فَقَطْ , فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ :
(مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ) الْبُخَارِىُّ .
و أما الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ فَإنه شِرْكٌ , كَأَنْ يَحْلِفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَيَقُول : وَ النَّبِي , أَوْ بِالنِّعْمَةِ ,
أو بالكعبة , أو بحياتك , فَهَذَا كُلُّهُ شِرْكٌ , فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : لَا وَ الكَعْبَةِ ،
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ حَلَفَ
بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ ) التِّرْمِذِيُّ وَ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَ الأَلْبَانِيّ ُ ..
و أما مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ كَقَوْلِ عَلَيَّ الطَّلاقُ , فَهَذَا مُحَرَّمٌ وَ مَمْنُوعٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ شِرْكَاً , وَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
فَقَدْ وَقَعَ فِي الإِثْمِ , وَ عِنْدَ عدد من الْعُلَمَاءِ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ , و عند عدد منهم أنها
لا تطلق إن لم يكن قصده الطلاق , و إنما هي يمين يكفرها , فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ أَيُّهَا الْمُسْلِم ..
و يَكُونُ عَلَى الْحَالِفِ كَفَّارَةٌ إِذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ بِأَنْ يَفْعَلَ أَوْ لا يَفْعَل , كَأَنْ يَقُولَ : وَ اللهِ لَأُسَافِرَنَّ
اللَّيْلَةَ إلى جدة , أَوْ : وَ اللهِ لا أَدْخُلُ بَيْتَ فُلانٍ , وَ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , فَهُنَا إِنْ نَفَّذَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ , وَ إِنْ
لَمْ يُنَفِّذْ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ , و كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَاجِبَةٌ , وَ يَجِبُ أَنْ يُبَادِرَ بِالْكَفَّارَةِ , وَ مَنْ أَخَّرَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ آثِمٌ ,
وَ الْكَفَّارَةُ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَتَمَّ بَيَانٍ فَقَالَ عَزَّ وَ جَلَّ : ( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ
لَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُواْ أيمانكم ) المائدة .
فَالْوَاجِبُ أَنْ تُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِين مِنْ مُتَوَسِّطِ طَعَامِ أَهْلِكَ , أَوْ تَكْسُوهُمْ أَوْ تُعْتِقَ رَقَبَةٍ , فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
هَذِه الثَّلاثِ تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئَاً مِنْ هَذِهِ الثَّلاثِ فَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ , وَ مِنَ الْخَطَأِ
أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِذَا حَنَثَ فِي يَمِينِهِ صَامَ , وَ وَجْهُ الْخَطَأَ هُنَا أنَّ الصِّيَامَ لا يَكُونُ حَتَّى يَعْجَزَ عَنِ الثَّلاثِ الأُولَى .
و مِقْدَارُ الْكَفَّارَةِ إِطْعَامُ عَشْرَةِ فُقَرَاءَ حَتَّى يَشْبَعُوا لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ , فَإِنْ دَفَعْتَ الطَّعَامَ إِلَيْهِمْ فَلا بَأْسَ .
فَالآنَ لَوِ اشْتَرَيْتَ كِيسَ أُرْزٍ وَزْنُهُ عَشْرَةَ كِيلُو غِرَامَاتٍ وَ جَعَلْتَ مَعَهُ خَمْسَ دَجَاجَاتٍ مِنَ الْوَزْنِ الْمُتَوَسِّطِ وَ
دَفَعْتَهُ لِبَيْتٍ فِيهِ عَشْرَةُ مَسَاكِين أَجْزَأَكَ , وَ الْفَقِيرُ الذي تدفع إليه هُوَ الذِي دَخْلَهُ لا يَكْفِيه ..
أيها المؤمنون ، إن الكذبَ في الأيمان كبيرة من كبائر الذنوب ، موجبةٌ لسخط الله ، يقول سبحانه و تعالى :
( إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَ أَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ وَ لاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ وَ لاَ يَنظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَ لاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) آل عمران , و لذلك كان علينا أن نحذر اليمين الغموس , فإن
اليمينَ تعظيمٌ لله ، و لا يحوز أن نعظِّم الله جل و علا على أمر كذب و افتراء و باطل , فيا أيها المسلم ، لا
تحلف بالله تعالى بيمين تعظمه فيها و أنت فاجر كاذب فيها ، و اتق الله في هذه اليمين ، لا تستحلَّ بها مالَ
امرئ مسلم ، و لا تنكِر بها حقاً ، و لا تؤيِّد بها باطلاً، و لا تنتصر فيها لهوى ، و إنما اجعل اليمينَ بالله على
الصدق و الوضوح ، و ابتعد عن الكذب و الفجور و الباطل . و النبي عليه الصلاة و السلام عدَّ اليمينَ الغموس
من كبائر الذنوب ، فقال عليه الصلاة و السلام لما سئل عن الكبائر قال : ( الإشراك بالله ، و عقوق الوالدين ،
و اليمين الغموس ) البخاري ، فقرنها بالشرك و عقوق الوالدين ، فعلينا أن نحذر هذه اليمين الباطلة ، و أن
تكون أيماننا أيماناً صادقة , و اليمين الغموس هي التي يتعمد المسلم الكذب فيها , و سميت غموساً لأنها
تغمس صاحبها في الإثم في الدنيا و في النار في الآخرة , و صاحب الأيمان الكاذبة قدوته في ذلك إبليس ,
فهو أول من سن اليمين الكاذبة يوم أن حلف لأدم و حواء أنه لهما لمن الناصحين , و قد خلد الله سيحانه لنا
ذلك في كتابه العزيز لنعتبر فنحذر , حيث قال تعالى : ( وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ , فدلاهما بغرور )
الأعراف , و الأيمان الكاذبة شعار أهل النفاق , أخبر بذلك العليم الحكيم عنهم في أكثر من موضع في كتابه ,
منها قوله تعالى : ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَ لَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ .. ) التوبة ، و قال
تعالى عنهم : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ لَا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ
وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) المجادلة , و أخبر سبحانه عنهم أن أيمانهم أيمانٌ كاذبة ، جعلوا أيمانهم جُنةً تقي أموالهم و
دماءَهم ، فيحلفون بالله على الكذب و هم يعلمون ، قال تعالى : ( ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ
فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) المجادلة ، و قال تعالى : ( إِذَا جَاءكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَ ٱللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ ٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ , ٱتَّخَذُواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا
كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) المنافقون , و قد قال صلى الله عليه و سلم في هذه اليمين أيضاً : ( من اقتطع مال امرئ
مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله و هو عليه غضبان , و تلا هذه الآية : ( إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَ
أَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ وَ لاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ وَ لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَ لاَ يُزَكّيهِمْ
وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) آل عمران ) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . و عند مسلم من
حديث أبي أمامة رضي الله عنه : ( من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر فقد أوجب الله له النار )
و في لفظ : ( من اقتطع حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أوجب الله عليه النار و حرم عليه الجنة , قالوا , يا رسول
الله ، و لو كان شيئا يسيراً ؟ , قال : و لو قضيباً من أراك ) مسلم .
أيها المؤمنون , يقول الله تعالى محذراً لكم يا أمة خير البرية من الوقوع في مثل هذا العمل المشين : ( وَ لَا
تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ ) النحل , يقول ابن كثير في تفسير الآية : ( ثم حذر الله عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً أي خديعة و مكراً
لئلا تزل قدم بعد ثبوتها مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها و زل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة
المشتملة على الصد عن سبيل الله , لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين
فانصد عنه بسببه عن الدخول في الإسلام ) انتهى كلامه رحمه الله ..
فلا تضعف أيها المسلم أمام هذه اليمين الفاجرة ، فتقدم عليها طمعاً في دنيا أو انتصاراً لموقف ، أو دفاعاً
عن إنسان أو قريب أو صديق ، فتظلم نفسك و تظلم ذلك المسلم ، و فوق هذا كذبٌ و افتراء على ربنا
سبحانه و تعالى , و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم
عذاب أليم : المسبل و المنان ، و رجلٌ جعل اللهَ بضاعتَه لا يبيع إلا بيمينه و لا يشتري إلا بيمينه ) , و في رواية :
( و المنفق سلعته بالحلف الكاذب ) مسلم , و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه و سلم : ( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ , رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ
يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ وَ رَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ , إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَ إِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ , وَ رَجُلٌ
يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَ كَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَ لَمْ يُعْطَ بِهَا ) البخاري .
فاتق الله تعالى أيها المسلم في اليمين ، و إياك أن يضعف إيمانُك أمام هذه اليمين فتطلقها بلا حق و أنت
تعلم كذبَ نفسك ، لتنصر نفسَك في موقف من المواقف , و هبْ أنك نلت هذا الأمر و ظفرت بذلك
الشيء ، فمن ينجيك من عذاب الله ؟ من يخلصك من عذاب الله ؟ ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأعْيُنِ وَ مَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ )
غافر ، و يقول تعالى : ( قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَ مَا فِى
ٱلأرْضِ وَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) آل عمران , و أنت تخاف الله أيها المسلم و ترجوه ، كن خائفاً من الله في
يمينك , فقد كان سلفنا الصالح يتورَّعون عن اليمين ، كانوا يتقون اليمين بكلِّ ما أوتوا خوفاً من الزلل في
اليمين ، فاتق الله في اليمين ، قال تعالى : ( وَ لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ , هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ , مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) القلم ، ( وَ لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ) أي : كثير الحلف ، الذي لا يبالي بحلفه ، و لا يتقي الله
في حلفه ، و لا يتورَّع عن الكذب و الباطل و الفجور ..
و اتقوا الله أيها المؤمنون في أيمانكم ، و حافظوا عليها رحمكم الله ، و لا تستخفوا بالأيمان بالله تعالى ،
فإن المستخفّ بها ليكشف عن نقص إيمانه ، ضعف إيمانه و رقة ديانته , إذ لو كان خوفه من الله حقاً
لما أقدم على يمين كاذبة فاجرة ..
و في الختام أود أن أبين أنه لا يَحْنَثُ مَنْ حَلَفَ إِذَا قَالَ : إِنْ شَاءَ اللهُ فِي حَلِفِهِ , فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ : إِنْ شَاءَ اَللَّهُ , فَلَا حِنْثَ
عَلَيْهِ ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ وَ صَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَ الأَلْبَانِيّ ُ , وَ يَلْزَمُ أَنْ ينْطِقَ بِالْمَشِيئَةِ وَ لا يَكْفِي أَنْ ينْوِي ,
فَمَثَلاً يقُولُ : وَ اللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَ كَذَا , وَ لَكِنْ لا يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعَ صَاحِبُكَ الاسْتِثْنَاءُ , فَبِهَذَا
لا يحْنَثْ فِي يَمِينِه وَ يَكُونُ ذَلِكَ عَوْنَاً لَه فِي إِدْرَاكِ حَاجَتِه ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ
وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) البقرة ..
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمَاً نَافِعَاً وَ عَمَلاً صَالِحَاً , اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَسْتَمِعُ القَوْلَ فَيَتَّبِعَ أَحْسَنَه , اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى
ذِكْرِكَ وَ شُكْرِكَ وَ حُسْنِ عِبَادَتِكَ , اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ و المُسْلِمينَ وَ أَذِلَّ الشِّرْكَ وَ المُشْرِكِينَ وَ دَمِّرْ
أَعَدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينَ , اللَّهُمَّ أَعْطِناَ وَ لاَ تَحْرِمْناَ اللَّهُمَّ أَكْرِمْناَ وَ لاَ تُهِنا , اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَ لا تُعِنْ عَليْنَا ,
اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا , و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين