الحمدلله رب العالمين , أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد , و هو على
كل شيء قدير , و أشهد أن نبيَّنا و سيدَنا محمدًا عبدُه و رسولُه ، صلَّى الله وسلم و بارك عليه و
على آله و أصحابه أجمعين , ثم أما بعد ، فاتقوا الله تعالى , فإن في تقواه النجاة و الفلاح , قال
تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُون ) آل عمران ..
أيها المؤمنون , خلق التواضع خلق عظيم , دعا إليه ديننا الإسلامي الحنيف , و أمر الله تعالى
به نبيه الأمين عليه الصلاة و السلام ، و أمر به هذه الأمة ، و إن مما يقرب إلى ربنا سبحانه
و يدني من رحمته , و يحبب الناس في الرجل هو التواضع ..
و التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب , ( سئل الفضيل بن عياض رحمه الله عن التواضع ,
فقال : يخضع للحق و ينقاد له و يقبله ممن قاله ، و لو سمعه من صبي قبله ، و لو سمعه
من أجهل الناس قبله ) , فلا ينسى فضل الله تعالى عليه , و لا فضل أحد من خلقه علمه
شيئا , فيتواضع له و لا يتعالى عليه , قال تعالى : ( وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) النساء , و ( سئل الحسن البصري رحمه الله عن التواضع ,
فقال : التواضع أن تخرج من منزلك و لا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا ) .
و لقد وصف الله سبحانه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بأجمل الأخلاق وأكمل الصفات ،
و ذكر ذلك في القرآن ، قال تعالى : ( و إنك لعلى خلق عظيم ) القلم , و كفى بشهادة القرآن
شهادة , و قال تعالى : ( وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الشعراء , و قال تعالى :
( و اخفض جناحك للمؤمنين ) الحجر , و قال تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ
وَ لَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) آل عمران .
و كان خلق التواضع من الأخلاق التي اتصف بها صلى الله عليه وسلم ، فكان جمَّ التَّواضُع ،
لا يعتريه كِبرٌ و لا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته ، يخفض جناحه للمؤمنين و لا يتعاظم
عليهم ، و يجلس بينهم كواحد منهم , كان خافض الجناح للكبير و الصغير ، و القريب و
البعيد ، و الأهل و الأصحاب ، و الرجل و المرأة ، و الصبي و الصغير ، و العبد و الجارية ،
بل المسلم و غير المسلم ، فالكل في نظره سواء ، لا فضل لأحد على آخر إلا بالعمل
الصالح , فكان تواضعه معروفا أمام الجميع ..
بل لقد كان صلى الله عليه وسلم من أشد الناس تواضعاً , خافضاً لجناحه رحيماً بأصحابه ,
فقد كان يمشي في حاجة الوليدة السوداء , و كان يركب الحمار , بل يركبه و يردف أحد
أصحابه معه , و لما فقد خادمة المسجد حزن و قصد قبرها فصلى عليها , وكان يباشر
الفقراء و المساكين و يخالط الأعراب لأجل تعليمهم و إرشادهم , و كان يسلم على الصبيان
و كان متواضعاً في طعامه و هيئته و مسكنه يأكل على الأرض و يفترش الحصير ويتوسد
الرمل ليس له حاجب يمنع الناس عنه , و ربما أثر الحصير في جنبه عليه الصلاة و السلام ,
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و إنه
لعلى حصير ما بينه و بينه شيء ، و تحت رأسه وسادة من أدمٍ حشوها ليف ، و إن عند
رجليه قرظاً مصبوباً ، و عند رأسه أُهُب معلّقة , فرأى أثر الحصير في جنبه فبكى , فقال :
ما يبكيك ؟ فقال له يا رسول الله ، إن كسرى و قيصر فيما هما فيه ، و أنت رسول الله ,
فقال عليه الصلاة و السلام : ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا و لنا الآخرة ؟ ) متفق عليه .
و ليس من الغريب أن يحث عليه الصلاة و السلام على التواضع في أحاديثه أمام أصحابه
رضوان الله عليهم , عن عياضِ بن حمارٍ رضي الله عنهُ قال , قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحدٍ ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ )
مسلم . و عن أبي هُريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما نقصت
صدقة من مالٍ ، و ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً ، و ما تواضع أحد لله إلا رفعةُ الله ) مسلم .
و أبلغ ما تتجلى فيه صور تواضعه صلى الله عليه وسلم عند حديثه عن رسالته و تعيين غايته
في هذه الحياة , فرسالته ليست رسالة دنيوية ، يطلب بها ملكًا أو يبتغي حُكمًا أو يلهث وراء
منصب ، بل رسالته رسالة نبوية أخروية ، منطلقها الأول والأخير رضا الله تعالى ، و غايتها
إبلاغ الناس هذه الحنيفية السمحة , فقد كان صلى الله عليه و سلم كثير القول : ( إنما أنا عبد
فقولوا عبد الله ورسوله ) البخاري ، و ذلك عندما كان يمدحه أصحابه و يطرونه , فهو قبل
كل شيء عبد لله تعالى مقر له بالعبودية ، خاضع له في كل أوامره و نواهيه , ثم هو بعد
ذلك رسول الله سبحانه و تعالى إلى الناس أجمعين , بل قد جاء عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه :
( أَنَّ رَجُلًا قَالَ , يَا مُحَمَّدُ يَا خَيْرَنَا وَ ابْنَ خَيْرِنَا وَ سَيِّدَنَا وَ ابْنَ سَيِّدِنَا ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ،
قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَ لا يَسْتَهْوِينكمُ الشَّيْطَانُ , أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَ رَسُولُهُ مَا أَحَبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي
فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ ) أحمد و النسائي , و صححه أحمد شاكر , و في الحديث :
( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يكَلِّمُهُ فَأُرْعِدَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ لَهُ : هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي
لَسْتُ بِمَلِكِ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ) ابن ماجة و الطبراني و الحاكم
و قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه , و قال البوصيري : هذا إسناد
صحيح رجاله ثقات , و القديد اللحم المملوح المجفف في الشمس .
و الذي يوضح هذا الجانب من تواضعه ما أخبر به صلى الله عليه و سلم أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها بقوله : ( يَا عَائِشَةُ لَوْ شِئْتُ لَسَارَتْ مَعِي جِبَالُ الذَّهَبِ ، جَاءَنِي مَلَكٌ إِنَّ حُجْزَتَهُ
لَتُسَاوِي الْكَعْبَةَ ، فَقَالَ : إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ ، وَ يَقُولُ لَكَ : إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا ، وَ إِنْ
شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا ، قَالَ : فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ ، قَالَ : فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ ، قَالَ : فَقُلْتُ :
نَبِيًّا عَبْدًا ، قَالَتْ : فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا ، يَقُولُ : آكُلُ
كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ ، وَ أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ ) الطبراني و أبو يعلى و إسناده حسن , و عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : ( خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَهُوَ عَاصِبٌ رَأْسَهُ ، قَالَ : فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ ، فَقَالَ : إِنِّي السَّاعَةَ لَقَائِمٌ
عَلَى الْحَوْضِ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : إِنَّ عَبْدًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَ زِينَتُهَا فَاخْتَارَ الآخِرَةَ ، فَلَمْ يَفْطِنْ
لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلا أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي بَلْ نَفْدِيكَ بِأَمْوَالِنَا وَ أَنْفُسِنَا وَ أَوْلادِنَا ،
قَالَ : ثُمَّ هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِنْبَرِ ، فَمَا رُئِيَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ ) أحمد .
و كما وضَّح صلى الله عليه وسلم غايته في هذه الحياة و رسالته ، فهو أيضًا قد وضح منزلته
بين الأنبياء والرسل ، فكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه لم يقبل من أحد أن يفضله
على أحد من الأنبياء ، مع أن القران قد أثبت التفضيل بين الأنبياء و الرسل في قوله تعالى :
( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) البقرة , و هو أفضل الأنبياء و الرسل , و ما ذلك
إلا لتواضعه صلى الله عليه وسلم .
و قد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( استب رجلان ، رجل من المسلمين ورجل
من اليهود , قال المسلم : و الذي اصطفى محمدا على العالمين , فقال اليهودي : و الذي
اصطفى موسى على العالمين , فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي , فذهب
اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره و أمر المسلم , فدعا النبي
صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره , فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم ، فأكون أول من
يفيق ، فإذا موسى باطش جانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان
ممن استثنى الله ) متفق عليه , و معنى باطش جانب العرش , أي آخذ بشيء من
العرش بقوة ، و البطش الأخذ بقوة ..
و في الجانب الآخر ، يظهر تواضعه صلى الله عليه وسلم في علاقاته الأسرية مع أهله ،
و كذلك في علاقاته مع الناس , و مِن تواضعه مع أهله ، أنَّه كان يشارك في خدمة أهله
في البيت ، فقد روى البخاريُّ عن الأسود ، قال : ( سألت عائشة : ما كان النَّبيُّ صلى الله
عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مِهْنَةِ أهله - تعني خدمة أهله - ، فإذا
حضرت الصَّلاة خرج إلى الصَّلاة ) البخاري , وعند الترمذي و أحمد قالت : ( كان بشرًا
من البشر يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه ) . فهو صلى الله عليه و سلم يقوم
بتنظيف حاجاته بنفسه ، و يشارك أهله في أعمال بيته ، و يجلب حاجاته من السوق بنفسه
مع أنه عليه الصلاة و السلام خير الخلق أجمعين , فينظف ثوبه الموجود و لا يتكلف أو
يبالغ في لباسه عليه الصلاة والسلام , عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك اللباس تواضعاً لله و هو يقدر عليه دعاه الله
يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ) أحمد و
الترمذي و حسنه الألباني , وَ قَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ أم المؤمنين رضي الله عنها , عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ
وَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَ قَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ
فَصُرِعَا جَمِيعًا فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ )
البخاري , ومن تواضعه مع أهله أنه سابق عائشة رضي الله عنها , عن عائشة رضي الله
عنها ( أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت : فسابقته فسبقته على
رجلي ، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال : هذه بتلك السبقة ) أبو داود وابن ماجه و
أحمد وصححه البوصيري والألباني , بل إنه من تواضعه مع زوجاته استشار أم سلمة رضي
عنها في صلح الحديبية , روى الإمام أحمد بسنده من طريق المسور بن مخرمة ومروان بن
الحكم رضي الله عنهما قصة صلح الحديبية في حديث طويل وفيه : ( أنه لما تم الصلح بين
النبي صلى الله عليه وسلم و مشركي قريش قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا
أيها الناس انحروا و احلقوا ، قال : فما قام أحد ، قال : ثم عاد بمثلها ، فما قام رجل حتى عاد
بمثلها فما قام رجل ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال : يا
أم سلمة ! ما شأن الناس؟ قالت : يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت ، فلا تكلمن منهم
إنساناً و اعمد إلى هديك حيث كان فانحره و احلق فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك ،
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق ،
فقام الناس ينحرون و يحلقون ) .
و أما تواضعه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه و من حوله ، فقد مر معنا شيء من ذلك
عن أنس رضي الله عنه : ( كان صلى الله عليه وسلم يُرْدِف خلفه ، و يضع طعامه على
الأرض ، و يجيب دعوة المملوك و يركب الحمار ) الحاكم , و صححه الألباني ..
و ممن أردفهم خلفه عليه الصلاة و السلام أسامة بن زيد , و الفضل بن العباس رضي الله
عنهما , في الحديث : ( أنَّ أُسَامَةَ كانَ رِدفَ النبيَّ صلى الله عليه و سلم من عَرَفَةَ إلى
المُزْدلفة ، ثم أردفَ الْفَضَّلَ من المُزدلفة إلى مِنّى ... ) متفق عليه , و كذلك أبو طلحة
و أنس رضي الله عنهما , عَنْ أَنَسٍ قَالَ : ( كُنْتُ رِدْفَ أَبِي طَلْحَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَ قَدَمِي تَمَسُّ
قَدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) مسلم , وكذلك معاذ رضي الله عنه : عن مُعاذ رضي
الله عنه قَالَ : ( كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلى حِمارٍ يُقالُ لَهُ عُفَيْرٌ ) متفق عليه ,
و كذلك عبدالله بن عباس رضي الله عنه , عن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : ( كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ لِي يَا غُلَامُ إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ... ) أحمد , و كذلك
الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه , عن عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ( كُنْتُ رِدْفَ
النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِى : هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِى الصَّلْتِ شَىْءٌ ؟ قُلْتُ
نَعَمْ . قَالَ : هِيهِ . فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا ، ثُمَّ قَالَ : هِيهِ , فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ : هِيهِ , وَ أُنْشِدُ
بِهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن كاد ليسلم ) مسند
الحميدى : قال الألبانى صحيح . و غيرهم الكثير ممن أردفهم عليه الصلاة و السلام .
و من مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم ، أنه لم يكن يرضى من أحد أن يقوم له تعظيمًا
لشخصه ، بل كان ينهى أصحابه عن فعل ذلك , حتى إن الصحابة رضوان الله عنهم مع شدة
حبهم له ، لم يكونوا يقومون له إذا رأوه قادمًا ، و ما ذلك إلا لعلمهم أنه كان يكره ذلك .
عن أنس رضي الله عنه قال : ( لم يكن أحب إليهم - يعني الصحابة - من رسول الله صلى
الله عليه وسلم , و كانوا لا يقومون إذا رأوه , لما يعلمون من كراهيته لذلك ) أحمد و
الترمذي ، و قال حديث صحيح غريب ..
و لم يكن تواضعه عليه الصلاة و السلام صفة له مع صحابته فحسب ، بل كان ذلك خُلُقًا
أصيلاً ، تجلى مع الناس جميعًا , يبين هذا أنه لما جاءه عدي بن حاتم يريد معرفة حقيقة
دعوته ، دعاه صلى الله عليه و سلم إلى بيته ، فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها ،
فجعل الوسادة بينه و بين عدي و جلس على الأرض قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك .
و كان من تواضعه صلى الله عليه و سلم ، أنه كان يجلس مع أصحابه كواحد منهم ، و لم
يكن يجلس مجلسًا يميزه عمن حوله ، حتى إن الغريب الذي لا يعرفه ، إذا دخل مجلسًا هو
فيه ، لم يستطع أن يفرق بينه و بين أصحابه , عن أبي ذرٍّ و أبي هريرة رضي الله عنهما قالا :
( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري
أيُّهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نجعل له مجلسًا
يعرفه الغريب إذا أتاه ... ) ابو داود و النسائي و صححه الألباني ..
و يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم ، أنه لم يكن يرد أي هدية تقدم إليه ، مهما قلَّ
شأنها ، و مهما كانت قيمتها ، و لم يكن يتكبر على أي طعام يدعى إليه مهما كان بسيطًا ،
بل يقبل هذا و ذاك بكل تواضع ، و رحابة صدر ، و طلاقة وجه , عن أبي هريرة رضي الله
عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( لو دُعِيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت ، و لو أُهْدِي
إليَّ ذراع أو كراع لقَبِلت ) البخاري , بل إنه فعل ذلك عليه الصلاة والسلام و أجاب دعوة
خياط , عن أنس رضي الله عنه قال : ( إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ
صَنَعَهُ ، قَالَ أَنَس : فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ ، فَقَرَّبَ
إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ ، قَالَ أَنَسٌ :
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ , قَالَ : فَلَمْ أَزَلْ
أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ ) متفق عليه .
و من مظاهر تواضعه صلى الله عليه و سلم ما نجده في تعامله مع الضعاف من الناس
و أصحاب الحاجات , كالنساء و الصبيان , فلم يكن يرى عيبًا في نفسه أن يمشي مع العبد
و الأرملة و المسكين ، يواسيهم و يساعدهم في قضاء حوائجهم , عن أبي الرداء رضي الله
عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ابغوني في ضعفائكم , فإنما
ترزقون و تنصرون بضعفائكم ) الترمذي وصححه و الحاكم و وافقه الذهبي , بل فوق هذا ،
كان عليه الصلاة والسلام إذا مر على الصبيان والصغار سلم عليهم و داعبهم بكلمة طيبة ،
أو لاطفهم بلمسة حانية , عن أنس رضي الله عنه : ( أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم ، و
قال : كان النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم يفعله ) متفق عليه , و في رواية : ( و كان صلى الله
عليه وسلم يزور الأنصار ، و يسلِّم على صبيانهم و يمسح رؤوسهم ) ابن حبان و أبو نعيم و
البغوي من حديث أنس , قال الألباني إسناده صحيح على شرط مسلم , وعن أنس أيضا قال :
( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير : يا أبا عُمَيْر ، ما
فعل النُّغَير ؟ ) متفق عليه , و عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : ( إن كانت الأمةُ من إماء
المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه و سلم فتنطلق به حيثُ شاءت ) البخاري .
فانظروا إلى تواضعه عليه الصلاة والسلام و هو أشرف الخلق ، حيث كانت الأمة من إماء
المدينة تأتي إليه و تأخذ بيده ( أي تطلب مساعدته في حاجة ) ، و تذهب به إلى حيث شاءت
ليعينها في حاجتها ، و مع هذا ما زاده الله عز و جلّ بذلك إلا عزّاً و رفعة ..
عن أبي رفاعة تميم بن أُسيد رضي الله عنه قال : ( انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه و
سلم و هو يخطب ، فقلت : يا رسول الله ، رجل غريبٌ جاء يسألُ عن دينه لا يدري ما دينُهُ ؟
فأقبل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ترك خُطبتهُ حتى انتهى إليّ ، فأتي بكرسي
فقعد عليه ، و جعل يُعلمني مما علمه الله ، ثم أتى خطبتهُ فأتم آخرها ) مسلم , فانظر إلى
إقباله عليه الصلاة والسلاة إلى هذا الغريب و قطع خطبته للمسلمين , و بعد أن علمه مما
علمه الله عاد و أكمل الخطبة , وهذا يدل على تواضعه عليه الصلاة والسلام و حسن رعايته .
و من صور تواضعه مع أصحابه أيضا ، أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سار مع جماعة
من أصحابه سار خلفهم حتى لا يتأخر عنه أحد ، و لكي يكون الجميع تحت نظره ورعايته ،
فيحمل الضعيف على دابته ، و يساعد صاحب الحاجة في قضاء حاجته . و يقول : ( امشوا
أمامي , خلوا ظهري للملائكة ) أحمد و ابن ماجة , قال البوصيري , و إسناده صحيح .
و عن جابر رضي الله عنه قال : ( و كان في السفر يسوق أصحابه أمامه , هو يسير خلفهم ,
يزجي الضعيف و يردفه ٬ و يدعو لهم ) أبو داود ,
بل انظر إلى هذا الحديث العظيم و مدى تواضعه الجم عليه الصلاة والسلام , عن أنس رضي
الله عنه قال : ( كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق أو لا تكادُ تسبقُ ،
فجاء أعرابي على قعود له ، فسبقها فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبي صلى الله
عليه وسلم ، فقال : حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ ) البخاري .
فانظر إلى صعوبة هذا الامر على الصحابة لأن قعود الأعرابي سبق العضباء ناقة الحبيب عليه
الصلاة و السلام , و كأنهم تأثروا للعضباء , كيف يسبقها هذا الأعرابي , لكنه عليه الصلاة و
السلام عرفه فيهم و في نظراتهم , فقال قولته الشهيرة : ( حق على الله أن لا يرتفع شئ
من الدنيا إلا وضعه ) ..
تلك صور من تواضعه عليه الصلاة و السلام ، و أين هي مما يصوره به اليوم أعداؤه ، و
المبغضون لهديه و الحاقدون على شريعته , ثم أين نحن من التخلق بخلق التواضع ، الذي
جسده نبينا صلى الله عليه وسلم في حياته خير تجسيد ، و قام به خير قيام ؟ , أين نحن
من قدوتنا و أسوتنا عليه الصلاة والسلام , قال تعالى : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الاْخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) الأحزاب , بل أين من ترك
التواضع و ملأ قلبه الكبر و التعالى , الكبر الذي حذر منه عليه الصلاة و السلام أشد
التحذير . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، قَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ
ثَوْبُهُ حَسَنًا وَ نَعْلُهُ حَسَنَةً ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ ، وَ غَمْطُ
النَّاسِ ) مسلم ..
اللهم صل و سلم على نبينا و حبيبنا و سيدنا محمد بن عبدالله أفضل صلاة و أزكى تسليم
و اجمعنا به في دار كرامتك و مستقر رحمتك , و اجعلنا ممن استن بسنته و اهتدى بهداه
اللهم اجعلنا من أمته , و احشرنا في زمرته , و اجعلنا من أهل حوضه و شفاعته ..
كل شيء قدير , و أشهد أن نبيَّنا و سيدَنا محمدًا عبدُه و رسولُه ، صلَّى الله وسلم و بارك عليه و
على آله و أصحابه أجمعين , ثم أما بعد ، فاتقوا الله تعالى , فإن في تقواه النجاة و الفلاح , قال
تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُون ) آل عمران ..
أيها المؤمنون , خلق التواضع خلق عظيم , دعا إليه ديننا الإسلامي الحنيف , و أمر الله تعالى
به نبيه الأمين عليه الصلاة و السلام ، و أمر به هذه الأمة ، و إن مما يقرب إلى ربنا سبحانه
و يدني من رحمته , و يحبب الناس في الرجل هو التواضع ..
و التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب , ( سئل الفضيل بن عياض رحمه الله عن التواضع ,
فقال : يخضع للحق و ينقاد له و يقبله ممن قاله ، و لو سمعه من صبي قبله ، و لو سمعه
من أجهل الناس قبله ) , فلا ينسى فضل الله تعالى عليه , و لا فضل أحد من خلقه علمه
شيئا , فيتواضع له و لا يتعالى عليه , قال تعالى : ( وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) النساء , و ( سئل الحسن البصري رحمه الله عن التواضع ,
فقال : التواضع أن تخرج من منزلك و لا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا ) .
و لقد وصف الله سبحانه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بأجمل الأخلاق وأكمل الصفات ،
و ذكر ذلك في القرآن ، قال تعالى : ( و إنك لعلى خلق عظيم ) القلم , و كفى بشهادة القرآن
شهادة , و قال تعالى : ( وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الشعراء , و قال تعالى :
( و اخفض جناحك للمؤمنين ) الحجر , و قال تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ
وَ لَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) آل عمران .
و كان خلق التواضع من الأخلاق التي اتصف بها صلى الله عليه وسلم ، فكان جمَّ التَّواضُع ،
لا يعتريه كِبرٌ و لا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته ، يخفض جناحه للمؤمنين و لا يتعاظم
عليهم ، و يجلس بينهم كواحد منهم , كان خافض الجناح للكبير و الصغير ، و القريب و
البعيد ، و الأهل و الأصحاب ، و الرجل و المرأة ، و الصبي و الصغير ، و العبد و الجارية ،
بل المسلم و غير المسلم ، فالكل في نظره سواء ، لا فضل لأحد على آخر إلا بالعمل
الصالح , فكان تواضعه معروفا أمام الجميع ..
بل لقد كان صلى الله عليه وسلم من أشد الناس تواضعاً , خافضاً لجناحه رحيماً بأصحابه ,
فقد كان يمشي في حاجة الوليدة السوداء , و كان يركب الحمار , بل يركبه و يردف أحد
أصحابه معه , و لما فقد خادمة المسجد حزن و قصد قبرها فصلى عليها , وكان يباشر
الفقراء و المساكين و يخالط الأعراب لأجل تعليمهم و إرشادهم , و كان يسلم على الصبيان
و كان متواضعاً في طعامه و هيئته و مسكنه يأكل على الأرض و يفترش الحصير ويتوسد
الرمل ليس له حاجب يمنع الناس عنه , و ربما أثر الحصير في جنبه عليه الصلاة و السلام ,
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و إنه
لعلى حصير ما بينه و بينه شيء ، و تحت رأسه وسادة من أدمٍ حشوها ليف ، و إن عند
رجليه قرظاً مصبوباً ، و عند رأسه أُهُب معلّقة , فرأى أثر الحصير في جنبه فبكى , فقال :
ما يبكيك ؟ فقال له يا رسول الله ، إن كسرى و قيصر فيما هما فيه ، و أنت رسول الله ,
فقال عليه الصلاة و السلام : ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا و لنا الآخرة ؟ ) متفق عليه .
و ليس من الغريب أن يحث عليه الصلاة و السلام على التواضع في أحاديثه أمام أصحابه
رضوان الله عليهم , عن عياضِ بن حمارٍ رضي الله عنهُ قال , قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحدٍ ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ )
مسلم . و عن أبي هُريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما نقصت
صدقة من مالٍ ، و ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً ، و ما تواضع أحد لله إلا رفعةُ الله ) مسلم .
و أبلغ ما تتجلى فيه صور تواضعه صلى الله عليه وسلم عند حديثه عن رسالته و تعيين غايته
في هذه الحياة , فرسالته ليست رسالة دنيوية ، يطلب بها ملكًا أو يبتغي حُكمًا أو يلهث وراء
منصب ، بل رسالته رسالة نبوية أخروية ، منطلقها الأول والأخير رضا الله تعالى ، و غايتها
إبلاغ الناس هذه الحنيفية السمحة , فقد كان صلى الله عليه و سلم كثير القول : ( إنما أنا عبد
فقولوا عبد الله ورسوله ) البخاري ، و ذلك عندما كان يمدحه أصحابه و يطرونه , فهو قبل
كل شيء عبد لله تعالى مقر له بالعبودية ، خاضع له في كل أوامره و نواهيه , ثم هو بعد
ذلك رسول الله سبحانه و تعالى إلى الناس أجمعين , بل قد جاء عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه :
( أَنَّ رَجُلًا قَالَ , يَا مُحَمَّدُ يَا خَيْرَنَا وَ ابْنَ خَيْرِنَا وَ سَيِّدَنَا وَ ابْنَ سَيِّدِنَا ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ،
قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَ لا يَسْتَهْوِينكمُ الشَّيْطَانُ , أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَ رَسُولُهُ مَا أَحَبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي
فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ ) أحمد و النسائي , و صححه أحمد شاكر , و في الحديث :
( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يكَلِّمُهُ فَأُرْعِدَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ لَهُ : هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي
لَسْتُ بِمَلِكِ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ) ابن ماجة و الطبراني و الحاكم
و قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه , و قال البوصيري : هذا إسناد
صحيح رجاله ثقات , و القديد اللحم المملوح المجفف في الشمس .
و الذي يوضح هذا الجانب من تواضعه ما أخبر به صلى الله عليه و سلم أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها بقوله : ( يَا عَائِشَةُ لَوْ شِئْتُ لَسَارَتْ مَعِي جِبَالُ الذَّهَبِ ، جَاءَنِي مَلَكٌ إِنَّ حُجْزَتَهُ
لَتُسَاوِي الْكَعْبَةَ ، فَقَالَ : إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ ، وَ يَقُولُ لَكَ : إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا ، وَ إِنْ
شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا ، قَالَ : فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ ، قَالَ : فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ ، قَالَ : فَقُلْتُ :
نَبِيًّا عَبْدًا ، قَالَتْ : فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا ، يَقُولُ : آكُلُ
كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ ، وَ أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ ) الطبراني و أبو يعلى و إسناده حسن , و عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : ( خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَهُوَ عَاصِبٌ رَأْسَهُ ، قَالَ : فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ ، فَقَالَ : إِنِّي السَّاعَةَ لَقَائِمٌ
عَلَى الْحَوْضِ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : إِنَّ عَبْدًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَ زِينَتُهَا فَاخْتَارَ الآخِرَةَ ، فَلَمْ يَفْطِنْ
لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلا أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي بَلْ نَفْدِيكَ بِأَمْوَالِنَا وَ أَنْفُسِنَا وَ أَوْلادِنَا ،
قَالَ : ثُمَّ هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِنْبَرِ ، فَمَا رُئِيَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ ) أحمد .
و كما وضَّح صلى الله عليه وسلم غايته في هذه الحياة و رسالته ، فهو أيضًا قد وضح منزلته
بين الأنبياء والرسل ، فكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه لم يقبل من أحد أن يفضله
على أحد من الأنبياء ، مع أن القران قد أثبت التفضيل بين الأنبياء و الرسل في قوله تعالى :
( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) البقرة , و هو أفضل الأنبياء و الرسل , و ما ذلك
إلا لتواضعه صلى الله عليه وسلم .
و قد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( استب رجلان ، رجل من المسلمين ورجل
من اليهود , قال المسلم : و الذي اصطفى محمدا على العالمين , فقال اليهودي : و الذي
اصطفى موسى على العالمين , فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي , فذهب
اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره و أمر المسلم , فدعا النبي
صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره , فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم ، فأكون أول من
يفيق ، فإذا موسى باطش جانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان
ممن استثنى الله ) متفق عليه , و معنى باطش جانب العرش , أي آخذ بشيء من
العرش بقوة ، و البطش الأخذ بقوة ..
و في الجانب الآخر ، يظهر تواضعه صلى الله عليه وسلم في علاقاته الأسرية مع أهله ،
و كذلك في علاقاته مع الناس , و مِن تواضعه مع أهله ، أنَّه كان يشارك في خدمة أهله
في البيت ، فقد روى البخاريُّ عن الأسود ، قال : ( سألت عائشة : ما كان النَّبيُّ صلى الله
عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مِهْنَةِ أهله - تعني خدمة أهله - ، فإذا
حضرت الصَّلاة خرج إلى الصَّلاة ) البخاري , وعند الترمذي و أحمد قالت : ( كان بشرًا
من البشر يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه ) . فهو صلى الله عليه و سلم يقوم
بتنظيف حاجاته بنفسه ، و يشارك أهله في أعمال بيته ، و يجلب حاجاته من السوق بنفسه
مع أنه عليه الصلاة و السلام خير الخلق أجمعين , فينظف ثوبه الموجود و لا يتكلف أو
يبالغ في لباسه عليه الصلاة والسلام , عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك اللباس تواضعاً لله و هو يقدر عليه دعاه الله
يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ) أحمد و
الترمذي و حسنه الألباني , وَ قَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ أم المؤمنين رضي الله عنها , عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ
وَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَ قَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ
فَصُرِعَا جَمِيعًا فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ )
البخاري , ومن تواضعه مع أهله أنه سابق عائشة رضي الله عنها , عن عائشة رضي الله
عنها ( أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت : فسابقته فسبقته على
رجلي ، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال : هذه بتلك السبقة ) أبو داود وابن ماجه و
أحمد وصححه البوصيري والألباني , بل إنه من تواضعه مع زوجاته استشار أم سلمة رضي
عنها في صلح الحديبية , روى الإمام أحمد بسنده من طريق المسور بن مخرمة ومروان بن
الحكم رضي الله عنهما قصة صلح الحديبية في حديث طويل وفيه : ( أنه لما تم الصلح بين
النبي صلى الله عليه وسلم و مشركي قريش قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا
أيها الناس انحروا و احلقوا ، قال : فما قام أحد ، قال : ثم عاد بمثلها ، فما قام رجل حتى عاد
بمثلها فما قام رجل ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال : يا
أم سلمة ! ما شأن الناس؟ قالت : يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت ، فلا تكلمن منهم
إنساناً و اعمد إلى هديك حيث كان فانحره و احلق فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك ،
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق ،
فقام الناس ينحرون و يحلقون ) .
و أما تواضعه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه و من حوله ، فقد مر معنا شيء من ذلك
عن أنس رضي الله عنه : ( كان صلى الله عليه وسلم يُرْدِف خلفه ، و يضع طعامه على
الأرض ، و يجيب دعوة المملوك و يركب الحمار ) الحاكم , و صححه الألباني ..
و ممن أردفهم خلفه عليه الصلاة و السلام أسامة بن زيد , و الفضل بن العباس رضي الله
عنهما , في الحديث : ( أنَّ أُسَامَةَ كانَ رِدفَ النبيَّ صلى الله عليه و سلم من عَرَفَةَ إلى
المُزْدلفة ، ثم أردفَ الْفَضَّلَ من المُزدلفة إلى مِنّى ... ) متفق عليه , و كذلك أبو طلحة
و أنس رضي الله عنهما , عَنْ أَنَسٍ قَالَ : ( كُنْتُ رِدْفَ أَبِي طَلْحَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَ قَدَمِي تَمَسُّ
قَدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) مسلم , وكذلك معاذ رضي الله عنه : عن مُعاذ رضي
الله عنه قَالَ : ( كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلى حِمارٍ يُقالُ لَهُ عُفَيْرٌ ) متفق عليه ,
و كذلك عبدالله بن عباس رضي الله عنه , عن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : ( كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ لِي يَا غُلَامُ إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ... ) أحمد , و كذلك
الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه , عن عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ( كُنْتُ رِدْفَ
النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِى : هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِى الصَّلْتِ شَىْءٌ ؟ قُلْتُ
نَعَمْ . قَالَ : هِيهِ . فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا ، ثُمَّ قَالَ : هِيهِ , فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ : هِيهِ , وَ أُنْشِدُ
بِهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن كاد ليسلم ) مسند
الحميدى : قال الألبانى صحيح . و غيرهم الكثير ممن أردفهم عليه الصلاة و السلام .
و من مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم ، أنه لم يكن يرضى من أحد أن يقوم له تعظيمًا
لشخصه ، بل كان ينهى أصحابه عن فعل ذلك , حتى إن الصحابة رضوان الله عنهم مع شدة
حبهم له ، لم يكونوا يقومون له إذا رأوه قادمًا ، و ما ذلك إلا لعلمهم أنه كان يكره ذلك .
عن أنس رضي الله عنه قال : ( لم يكن أحب إليهم - يعني الصحابة - من رسول الله صلى
الله عليه وسلم , و كانوا لا يقومون إذا رأوه , لما يعلمون من كراهيته لذلك ) أحمد و
الترمذي ، و قال حديث صحيح غريب ..
و لم يكن تواضعه عليه الصلاة و السلام صفة له مع صحابته فحسب ، بل كان ذلك خُلُقًا
أصيلاً ، تجلى مع الناس جميعًا , يبين هذا أنه لما جاءه عدي بن حاتم يريد معرفة حقيقة
دعوته ، دعاه صلى الله عليه و سلم إلى بيته ، فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها ،
فجعل الوسادة بينه و بين عدي و جلس على الأرض قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك .
و كان من تواضعه صلى الله عليه و سلم ، أنه كان يجلس مع أصحابه كواحد منهم ، و لم
يكن يجلس مجلسًا يميزه عمن حوله ، حتى إن الغريب الذي لا يعرفه ، إذا دخل مجلسًا هو
فيه ، لم يستطع أن يفرق بينه و بين أصحابه , عن أبي ذرٍّ و أبي هريرة رضي الله عنهما قالا :
( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري
أيُّهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نجعل له مجلسًا
يعرفه الغريب إذا أتاه ... ) ابو داود و النسائي و صححه الألباني ..
و يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم ، أنه لم يكن يرد أي هدية تقدم إليه ، مهما قلَّ
شأنها ، و مهما كانت قيمتها ، و لم يكن يتكبر على أي طعام يدعى إليه مهما كان بسيطًا ،
بل يقبل هذا و ذاك بكل تواضع ، و رحابة صدر ، و طلاقة وجه , عن أبي هريرة رضي الله
عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( لو دُعِيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت ، و لو أُهْدِي
إليَّ ذراع أو كراع لقَبِلت ) البخاري , بل إنه فعل ذلك عليه الصلاة والسلام و أجاب دعوة
خياط , عن أنس رضي الله عنه قال : ( إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ
صَنَعَهُ ، قَالَ أَنَس : فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ ، فَقَرَّبَ
إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ ، قَالَ أَنَسٌ :
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ , قَالَ : فَلَمْ أَزَلْ
أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ ) متفق عليه .
و من مظاهر تواضعه صلى الله عليه و سلم ما نجده في تعامله مع الضعاف من الناس
و أصحاب الحاجات , كالنساء و الصبيان , فلم يكن يرى عيبًا في نفسه أن يمشي مع العبد
و الأرملة و المسكين ، يواسيهم و يساعدهم في قضاء حوائجهم , عن أبي الرداء رضي الله
عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ابغوني في ضعفائكم , فإنما
ترزقون و تنصرون بضعفائكم ) الترمذي وصححه و الحاكم و وافقه الذهبي , بل فوق هذا ،
كان عليه الصلاة والسلام إذا مر على الصبيان والصغار سلم عليهم و داعبهم بكلمة طيبة ،
أو لاطفهم بلمسة حانية , عن أنس رضي الله عنه : ( أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم ، و
قال : كان النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم يفعله ) متفق عليه , و في رواية : ( و كان صلى الله
عليه وسلم يزور الأنصار ، و يسلِّم على صبيانهم و يمسح رؤوسهم ) ابن حبان و أبو نعيم و
البغوي من حديث أنس , قال الألباني إسناده صحيح على شرط مسلم , وعن أنس أيضا قال :
( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير : يا أبا عُمَيْر ، ما
فعل النُّغَير ؟ ) متفق عليه , و عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : ( إن كانت الأمةُ من إماء
المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه و سلم فتنطلق به حيثُ شاءت ) البخاري .
فانظروا إلى تواضعه عليه الصلاة والسلام و هو أشرف الخلق ، حيث كانت الأمة من إماء
المدينة تأتي إليه و تأخذ بيده ( أي تطلب مساعدته في حاجة ) ، و تذهب به إلى حيث شاءت
ليعينها في حاجتها ، و مع هذا ما زاده الله عز و جلّ بذلك إلا عزّاً و رفعة ..
عن أبي رفاعة تميم بن أُسيد رضي الله عنه قال : ( انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه و
سلم و هو يخطب ، فقلت : يا رسول الله ، رجل غريبٌ جاء يسألُ عن دينه لا يدري ما دينُهُ ؟
فأقبل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ترك خُطبتهُ حتى انتهى إليّ ، فأتي بكرسي
فقعد عليه ، و جعل يُعلمني مما علمه الله ، ثم أتى خطبتهُ فأتم آخرها ) مسلم , فانظر إلى
إقباله عليه الصلاة والسلاة إلى هذا الغريب و قطع خطبته للمسلمين , و بعد أن علمه مما
علمه الله عاد و أكمل الخطبة , وهذا يدل على تواضعه عليه الصلاة والسلام و حسن رعايته .
و من صور تواضعه مع أصحابه أيضا ، أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سار مع جماعة
من أصحابه سار خلفهم حتى لا يتأخر عنه أحد ، و لكي يكون الجميع تحت نظره ورعايته ،
فيحمل الضعيف على دابته ، و يساعد صاحب الحاجة في قضاء حاجته . و يقول : ( امشوا
أمامي , خلوا ظهري للملائكة ) أحمد و ابن ماجة , قال البوصيري , و إسناده صحيح .
و عن جابر رضي الله عنه قال : ( و كان في السفر يسوق أصحابه أمامه , هو يسير خلفهم ,
يزجي الضعيف و يردفه ٬ و يدعو لهم ) أبو داود ,
بل انظر إلى هذا الحديث العظيم و مدى تواضعه الجم عليه الصلاة والسلام , عن أنس رضي
الله عنه قال : ( كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق أو لا تكادُ تسبقُ ،
فجاء أعرابي على قعود له ، فسبقها فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبي صلى الله
عليه وسلم ، فقال : حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ ) البخاري .
فانظر إلى صعوبة هذا الامر على الصحابة لأن قعود الأعرابي سبق العضباء ناقة الحبيب عليه
الصلاة و السلام , و كأنهم تأثروا للعضباء , كيف يسبقها هذا الأعرابي , لكنه عليه الصلاة و
السلام عرفه فيهم و في نظراتهم , فقال قولته الشهيرة : ( حق على الله أن لا يرتفع شئ
من الدنيا إلا وضعه ) ..
تلك صور من تواضعه عليه الصلاة و السلام ، و أين هي مما يصوره به اليوم أعداؤه ، و
المبغضون لهديه و الحاقدون على شريعته , ثم أين نحن من التخلق بخلق التواضع ، الذي
جسده نبينا صلى الله عليه وسلم في حياته خير تجسيد ، و قام به خير قيام ؟ , أين نحن
من قدوتنا و أسوتنا عليه الصلاة والسلام , قال تعالى : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الاْخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) الأحزاب , بل أين من ترك
التواضع و ملأ قلبه الكبر و التعالى , الكبر الذي حذر منه عليه الصلاة و السلام أشد
التحذير . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، قَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ
ثَوْبُهُ حَسَنًا وَ نَعْلُهُ حَسَنَةً ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ ، وَ غَمْطُ
النَّاسِ ) مسلم ..
اللهم صل و سلم على نبينا و حبيبنا و سيدنا محمد بن عبدالله أفضل صلاة و أزكى تسليم
و اجمعنا به في دار كرامتك و مستقر رحمتك , و اجعلنا ممن استن بسنته و اهتدى بهداه
اللهم اجعلنا من أمته , و احشرنا في زمرته , و اجعلنا من أهل حوضه و شفاعته ..