أيها المؤمنون , إن هذا الإفلاس

ياراا

:: مسافر ::
15 يناير 2019
992
3
0
41
الحمدلله وحده لا شريك له , أشهد ألا إله إلا الله , له الملك وله الحمد وهوعلى كل شئ قدير ,
وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , ثم اما بعد ,
فَأُوصِيكُمْ أيها المؤمنون ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تعالى وكَثْرَةِ ذِكْرِه ، و أَحُثُّكُمْ عَلى طاعَتِهِ وشُكْرِه
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) آل عمران .

أيها المؤمنون , هذه الدنيا دار عمل , يضع الناس فيها أعمالهم ، و يبذلون فيها سعيهم ، و
يتقربون فيها بأنواع الأقوال والأفعال ، ثم يخرجون منها ليس معهم من متاعها و أموالها
و ملذاتها شيء , بل يخرجون منها كما جاؤوا إليها ، حفاة عراة غرلا , و يتركون كل ما
سعوا في تحصيله من الأموال والدور لغيرهم , قال تعالى : ( وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَ مَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) الأنعام , فلا يبقى لهم
إلا ما عملوه في حياتهم الدنيا , خيرا كان أو شرا , عن أنس رضي الله عنه , أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يتبع الميت ثلاثة : أهله وماله وعمله , فيرجع
اثنان و يبقى واحد , يرجع أهله وماله ويبقى عمله ) متفق عليه ..
يتبعه ماله و أهله و أبناؤه وخدمه و عمله , يتبعونه كلهم ثم يعودون كلهم بعد دفنه و
يتركونه وحيدا , ولا يبقى معه إلا عمله , ليكون أنيسه في قبره إلى يوم القيامة , العمل
فقط هو الصاحب الذي يبقى معكم أيها المؤمنون ، فعليكم أن تحرصوا على مراعاة
هذا الصاحب الذي يبقى ولا ينصرف مع من ينصرف ، وعليكم أن تجتهدوا حتى
تكون أعمالكم صالحة تؤنسكم في قبوركم إذا انفردتم عن الأحباب و الأهل والأولاد ..

أيها المؤمنون , هذه الأقوال والأعمال تسجل عليكم وتحصى لكم , و تبقى معكم في
قبوركم , فكل شيء عند الله تعالى مقيد مكتوب , قال تعالى : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ,
كِرَامًا كَاتِبِينَ ) الانفطار ، و قال تعالى : ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية ,
ثم تعرض عليكم هذه الأقوال و الأعمال يوم القيامة , قال تعالى : ( وَ كُلَّ إِنسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) الإسراء , و الناس
في سعيهم في هذه الدنيا على أنواع ، على حسب سعيهم في الدنيا يكون مبعثهم و
حسابهم يوم القيامة ، قال تعالى : ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا , وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ
أَثْقَالَهَا , وَ قَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا , يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا , بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا , يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ , فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ , وَ مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ ) الزلزلة , فالأعمال مختلفة ومتفاوتة , فهناك من ملأ صحيفته خيرا بصالح
الأقوال و الأعمال طاعات لله سبحانه , و منهم من ملأها شرا بسيء الأقوال و الأعمال
ذنوبا و آثاما عصيانا لله سبحانه , و على هذا يكون الحساب يوم القيامة ..

أيها المؤمنون , سنتذاكر معا اليوم أولائك المسلمون الذين عملوا الصالحات أقوالا و
أعمالا , و ملأوا صحائفهم وكتبهم من أعمال الخير العظيمة , ثم يتفاجأون يوم القيامة
بأنهم أفلسوا و خسروا خسارة عظيمة , كيف ذلك أيها المؤمنون ؟ عن أبى هريرة
رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون من المفلس؟ قالوا :
المفلس فينا من لا درهم له و لا متاع , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ‏إِنَّ الْمُفْلِسَ
مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَ صَلَاةٍ وَ زَكَاةٍ , وَ يَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَ قَذَفَ
هَذَا ، وَ أَكَلَ مَالَ هَذَا , و سفك دم هَذَا ، و ضرب هَذَا ، فيعطى ‏‏هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَ
هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ
فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) مسلم ..

أيها المؤمنون , إن هذا الإفلاس هو الإفلاس الذي لا يعدله إفلاس , و الخسارة التي
التي لا تعدلها خسارة , و إن الآخرة هي دار الجزاء و أخذ الحقوق واسترداد المظالم ، و
هي مرصد أعمال المسلمين , حين يأتون بالجليل والكثير من الصالحات , صلاة وصيام
و زكاة ، و غيرها مما هو دونها في الفضل ، في يومٍ تشح النفوس و تبخل بالحسنة
الواحدة , فيرون ثواب تلك القربات تُرحَّل من سجل حسناتهم إلى صحف غيرهم الذين
ظلموهم و بخسوهم حقهم , و اعتدوا عليهم بالقول و الفعل , فيتذكرون هذه الأعمال
التي عملوها و جاؤوا ينتظرون ثوابها في يوم عظيم ، ثم يرونها بحسرة النفوس تذهب
لغيرهم بسبب ظلمهم لهم . و تزداد تلك الحسرة حسرة إن فنيت حسناتهم ، فتنقل
سيئات المظلومين إلى صحائفهم , و تصبح سيئات في صحائفهم كما لو كانوا عاملين
لها , و تزداد تلك الحسرة حسرات حين تفنى الحسنات و تبقى السيئات , فيؤمر بهم إلى
النار و العياذ بالله , كان يؤملون ثواب أعمالهم الصالحة ، فأفلسوا منها ، و تحملوا
أوزار غيرهم , ثم أُدخلوا النار و بئس القرار ..
هذا هو الإفلاس الحق الذي تكون به الخسارة ، ولا يمكن فيه الرجوع والتدارك , وليس
إفلاس المال في الدنيا , فإن كثيرا من الناس يعملون فى التجارة ، فيربح أحدهم تارة
و يخسر أخرى ، و ربما يشهر أحدُهم إفلاسه ، لكنها في الدنيا قد تكون كبوة يعود
بعدها و يجتهد و يجتهد ثم ينجح و يربح بعد كبوته و إفلاسه , و حتى لو لم يعوض
خسارته و إفلاسه , فيصبر و يحتسب و يقول : حسبي الله و نعم الوكيل , إنا لله و إنا
إليه راجعون ، فتحط من سيئاته و ترتفع درجاته بصبره و احتسابه , أما إفلاس الآخرة
فليس عنه عوض ، إذا ذهبت الحسنات لا ترجع ، و إذا زالت فكيف تدرك ؟ ..

و لهذا جاء التحذير العظيم الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون الإنسان
على هذه الحال ، فقد جاء عن سلمان وحذيفة وعبد الله بن مسعود وجماعة من الصحابة
رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ترفع للرجل صحيفة يوم القيامة ،
حتى يرى أنه ناج ، فما تزال مظالم بني آدم تتبعه حتى ما تبقى له حسنة ، و يزاد عليه
من سيئاتهم ) الحاكم و البيهقي بسند صحيح ..

بل إن كثيرا منا لا يأبه لأقواله و سقطات لسانه , فيسب و يشتم و يلعن , و يظن أنما
هي أقوال لا بأس بها , بينما هي الخسارة و الإفلاس , عن معاذ رضي الله عنه في
حديثه الشهير : ( ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت بلى يا نبي الله ، فأخذ
بلسانه فقال كف عليك هذا , فقلت : يا نبي الله ، و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال :
ثكلتك أمك يا معاذ , و هل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا
حصائد ألسنتهم ؟ ) أحمد و الترمذي و ابن ماجه ..

و لذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الخسارة و هذا المآل ، و لا تظنوا
أيها المؤمنون أن هذا فقط في حق المسلمين الصالحين أو المسلمين العصاة , بل يكون
في حق من أعتدي عليه من الكفار , وفي حق من هم من أهل النار ، فلا يدخل أهل الجنة
الجنة و عليهم مظلمة لأحد من أهل النار , عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال ,
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ ، أَوْ قَالَ النَّاسَ ، وَ
أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ ، عُرَاةً غُرْلا بُهْمًا ، قُلْتُ : مَا بُهْمًا ؟ قَالَ , لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ . قَالَ ,
فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ، لا يَنْبَغِي
لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ ، وَ لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ ، حَتَّى اللَّطْمَةِ فما
فوقها , قُلْنَا : وَ كَيْفَ ، وَ إِنَّمَا يَأْتُونَ عُرَاةً غُرْلا بُهْمًا ؟ قَالَ : بِالْحَسَنَاتِ وَ السَّيِّئَاتِ ,
( وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ) أحمد والحاكم و الطبراني , و حسن إسناده المنذري والعراقي
و الهيثمي , و حسنه ابن القيم كذلك ..
بل إنه يكون حتى في حق الحيوانات العجماوات إذا اعتديت عليها بغير حق , عن عبد الله
بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( عُذّبت امرأة في
هرّة ، سجنتها حتى ماتت ، فدخلت فيها النار , لا هي أطعمتها و لا سقتها إذ حبستها ،
و لا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) متفق عليه ..

و أخيرا أيها المؤمنون , فإن علينا أن نتنبه لذلك , قبل أن نكون من المفلسين يوم
القيامة , فمن ابتلي منا بشيء من الظلم و التسلط على الناس , سواء كان بأخذ مال ،
أو بغيره من أنواع الظلم القولي و العملي ، و السباب و القذف و الشتائم , فليتحلل
منه في هذه الدنيا الفانية ، فليس في الآخرة دينار و لا درهم ، و إنما هي الحسنات
والسيئات , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَا يَكُونَ دِينَارٌ
وَ لَا دِرْهَمٌ , إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ , وَ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ
أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ ) البخاري ..

هذا و صلوا و سلموا على نبينا و سيدنا و حبيبنا مجمد , فقد قال ربنا تبارك و تعالى :
( إِنَّ اللهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
الأحزاب , اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلى محمّدٍ و عَلى ءالِ محمّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلى إِبْراهِيمَ وعلى ءالِ
إِبْراهِيمَ , و بارِكْ على محمّدٍ و على ءالِ محمّدٍ كَمَا بارَكْتَ على إِبْراهِيمَ و على ءالِ
إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ..