الحمدلله وحده لا شريك له , و أشهد ألا إله إلا الله وحده , له الملك و له الحمد , و هو على كل شيء قدير ,
و أشهد أن نبينا محمدا خاتم الأنبياء و المرسلين , صلى الله عليه و على آله و صحبه أجمعين , ثم أما بعد :
فأوصيكم أيها المؤمنون و نفسي بتقوى الله عز و جل ، فاتقوا الله تعالى ، فتقوى الله سبحانه هي الوصية
الجامعة ، يقول تعالى : ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَ لْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر .
أيها المؤمنون , إن لله تعالى فى كل شئ آيات باهرات تبين جلاله و عظيم قدرته و سلطانه سبحانه , و فى
كل شئ له آيةٌ تدلُّ على أنه الخالقُ , و من آياته سبحانه خلق السموات و الأرض و اختلاف الألسنة و الألوان ,
قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ )
الروم , و إن المُتأمِّل في تأريخ الأمم و المُجتمعات و تعاقُب الأمجاد و الحضارات ليجد فيها رُكنًا ركينًا ، و
أساسا متينًا ، يُعدُّ من أهم ثوابتها و أُصولها و سببَ نشاتها و قيامها ، ذلكم هو : لسانُها و لُغتُها ,
و إن من أعظم اللغات شرفاً و أعلاها مكانة و رفعة , و أكثرها بيانا و إفصاحاً لمراد المتكلم فى دقة
متناهية و زمن وجيز هى اللغة العربية , و يكفي اللعة العربية شرفاً أن اختارها الله سبحانه لحمل رسالته
الخاتمة إلى الناس جميعاً إلى قيام الساعة , قال تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) يوسف
و قال تعالى : ( وَ هَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) الأحقاف . و قال
تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إبراهيم ..
و تستمد اللغة العربية أهميتها من كونها لغة الوحى الشريف الذى نزل به أمين وحى السماء جبريل عليه
على قلب النبى محمد خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه و سلم , قال تعالى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ,
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِين , بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء .
و أنه على من أراد معرفة مراد الله عز و جل فلابد له من معرفة اللغة العربية معرفة دقيقة حسب مدلولات
ألفاظها و معانيها و مبانيها ، و لابد من إتقان اللغة حتى نفهم القرآن الكريم و السنة المشرفة , من عقائد
و عبادات و معاملات و أخلاق , و لابد من اللغة حتى تعبد الله سبحانه عبادة صحيحة .
و قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( اللغةُ العربيةُ من الدين ، و معرفتُها فرضٌ واجبٌ , فإن فهمَ
الكتاب و السنة فرضٌ ، و لا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية ، و ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ ) .
و قد جاء في حديث يروى عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : ( إن العربية ليست لأحدكم بأب و لا أم ، إنما
هي اللسان ، فمن تلكم العربية فهو عربي ) و الحديث ضعيف في إسناده ، و لكنه صحيح في معناه ، كما
يقرّر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , حيث روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلاً .
و إن لغتنا العربيةَ الحبيبة لها حقٌّ علينا حقيقٌ , فإنه يجب علينا أن نهتم بها , و أن نرعَى قدرَها في كلِّ منسوبٍ
إليها ، و أن نسعَى لنجدَتها و الدفاع عنها كلَّما مسَّها ضُرٌّ أو حَزَبَها أمرٌ , فلُغتُنا العربيةُ اليوم و في هذا العصر
المختلط , و في وسائل الإعلام أضحت مهجورة و مهانة من أبنائها , يقدم عليها غيرها من اللغات الأجنبية ,
و اللهجات المشوهة المحلية , على عكس ما كانت تتحصل عليه من اهتمام و عناية في زمان مضى ,
و من عناية أعلام الأمة باللغة العربية قول الفاروق عمر رضي الله عنه : ( تعلموا العربية فإنها تزيد في
المروءة , و تعلموا العربية فإنها من الدين ) ، و هذا من الخلفاء الراشدين , و الحبيب عليه الصلاة و السلام
يقول في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه : ( فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ،
عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ) أبو داود , و كتبَ كاتبٌ لأبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه خطابًا لعُمر فبدأَه بقوله :
( من أبو موسى) ، فكتبَ إليه عُمرُ رضي الله عنه : ( أن اضرِبه سَوطًا ، و استبدِله بغيره ) ,
فما أعظمَ غيرتهم على لُغة القرآن ، فرضي الله عنهم و لله درُّهُم .
و أما العرب في الجاهلية لم يؤثر عنهم قبل الإسلام إلا عنايتهم بالشعر و الخطابة ، و قد حفظوا لغتهم من
التغيير ، فعدوا الخطأ فيها عيباً يتعير به الإنسان ، و شهَّرُوا بأصحاب الفهاهة و اللثغة ، و أعلنوا بدائع
شعرهم و خطبهم في أسواقهم المشهورة أيام مواسم الحج ، فكان علمهم الحق هو أدب لغتهم ، و
هو علمهم العقلي الوحيد ..
فاللغة العربية إذن هى عنوان هوية المسلم فى كل مكان من أرض الله ، فحين تسأل إنساناً : ما ديانتك ؟
يقول لك : مسلم و الحمد لله ، ينطقها بالعربية , و فى مكة البلد الحرام و أنت بالطواف تسمع المسلمين
من كل الأجناس يرفعون أصواتهم بالتلبية : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النعمة
لك و الملك ، لا شريك لك ، يحاولون أن ينطقوها صحيحة ,
و لذلك فإحياء اللغة العربية هو إحياء للدين , و تأتى أهمية اللغة العربية فى تحقيق وحدة المسلمين و ربطهم
كأمة واحدة ، فإن وحدة اللغة تحكم التواصل و تذيب الفوارق , قال تعالى : ( وَ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) المؤمنون , و تأتى أهمية اللغة العربية كذلك فى سهولة تحقيق الاتصال بين المسلمين
جميعاً مما يزيد قوتهم أمام قوى الشر المجتمعة عليهم .
و لقد حثنا ربنا سبحانه و تعالى على التعلم بوجه عام ، و أول التعلم هو تعلم العلوم الشرعية لأنها تعنى
بالمقاصد و الغايات و اقتضاء الصراط المستقيم فى الدنيا و الموصل إلى محبة الله و رضوانه و النعيم
بالآخرة ، و أول الطريق هو تعلم اللغة العربية , قال تعالى : ( وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) طه , و بيّن سبحانه
فضل العلم و منزلة العلماء فقال تعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) المجادلة , و جعل النبى صلى الله عليه و سلم فى غزوة بدر فداء الأسير المشرك أن يُعلم
عشرة من أبناء الصحابة , فعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ( كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم
فداء , فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ) أحمد و البيهقي ,
و حسنه شعيب الأرناؤوط , و أخرج الحاكم بسنده فى المستدرك عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :
( سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا قرأ فلحن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ارشدوا أخاكم )
صحيح الإسناد و لم يخرجاه , تعليق الذهبي قي التلخيص : صحيح , و النبى صلى الله عليه و سلم يشجع
حسان بن ثابت و يقول له : ( اهجهم و روح القدس معك ) ، و يقول : ( إن من البيان لسحرا ) . و خلع بردته
الشريفة و ألقاها على كعب بن زهير , و قال عليه الصلاة و السلام : ( أوتيت جوامع الكلم و اختصر لى
الحديث اختصاراً ) شعب الإيمان , و قال عليه الصلاة و السلام : ( أدبنى ربى فأحسن تأديبى ) .
و لم تقتصر عنايته صلى الله عليه و سلم بتوجيه تعلم اللغة العربية قراءة و كتابة للرجال فحسب , إنما اعتنى
أيضا بتعليم النساء القراءة و الكتابة بالإضافة لبعض الأشياء الأخرى النافعة مثل الرقية , فعن الشفاء بنت
عبدالله رضي الله عنها قالت : ( دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا عند حفصة ، فقال لي : ألا
تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ) أبوداود , و صححه الألباني رحمه الله ..
و إذا كانت لغة القرآن و لغة الإسلام بهذه القوة و المقدرة ، و بهذه المنزلة ، فلا غرابة أن تكون مستهدفة
من أعدائها ، فلقد علم المشتغلون بدراسات التاريخ المعاصر ، و المتابعون لمسيرة الاستعمار ، وسياساته
أن التهجم على اللغة و التهوين من شأنها ، و السخرية من المشتغلين بها و التهكم بها في وسائل الإعلام
و القصص و الروايات و المسرحيات ، في سياسات مرسومة و حملات مكثفة ، ثم تلقّف ذلك مِن بعدهم
و على طريقهم أذناب و عملاء , لذا تنمَّرَ لها الأعداءُ و كشَفُوا عن مخططاتهم السوداء، و قال قائلُهم :
( إننا لن ننتصِرَ على المُسلمين ما دامُوا يقرأون القرآنَ و يتكلَّمون العربيةَ ، فيجبُ أن نُزيلَ القرآنَ من
وجوهِهم ، و نقتلِعَ العربيةَ من ألسِنَتهم ) , و أعلَنوا عليها حربًا ضَروسًا ، و أظهَروا لها وجهًا عَبوسًا ، و
أنفَقوا الغالِيَ و النَّفيس لتغريبِ اللسانِ العربيِّ و قطعِه عن منابِعِ البلاغة .
و مع كلِّ التحديات و المُتغيِّرات فإن اللغةَ العربيةَ محفوظةٌ بحفظِ الله تعالى لكتابه العزيز , قال تعالى : ( إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر . و في هذه الاضطراباتِ التي تجتاحُ أمَّتَنا ، و النَّعَرات التي تُهدِّدُ
وحدتَنا ، في خِضَمِّ هذه الأمواج لا بُدَّ من الاستِمساك بهُويَّتنا الإسلامية و لُغتنا العربية ، و ربطِ الأجيالِ بها ،
و إبعاد أنفسنا أنفُسنا عن المصطلحات العُجميةِ الأجنبية المَقيتة ، و ألا ندخلها في حديثنا مع أهلنا و أبنائنا
و زملائنا في العمل , إلا عند الحاجة لتعلمها , و أن نُقبِلَ على لغتِنا ، و ننأَى بها عن اللَّحن فيها , و أن نكون
قدوة لأبنائنا , و إن علينا أن نغرس في نفوس النشء حب اللغة العربية و الإعتزاز بها ..
و إن عجزنا عن التخاطب باللغة العربية , فعلينا ألا نتجاوزها في أماكن مهمة يتجلى فيها حبنا للغتنا العربية ,
فالتاجر له أن يروج بضاعته باللغة العربية ، و المعلم أن يدرس في صفوفه باللغة العربية ، و الوالد أن يعلم
أولاده باللغة العربية ، و الخطيب و المحاضر أن يتحدث إلى الناس باللغة العربية , و الإعلامى أن يستخدم
اللغة العربية في صحيفته و برنامجه في الشاشة , و هكذا .
و إن اعتِزازَنا بلُغتنا الأمِّ لا يُنافِي حاجةَ الأمة إلى تعلُّم اللغاتِ الأخرى لتحقيقِ رسالتِنا العالميَّة , و ذلك للأخذ
من العلوم التطبيقية النافعة لنا و لوطننا , و كذلك يحتاج السفراء لتعلم لغات الدول التي يعملون فيها ,
لكن يكون ذلك مع الإعتزاز بلغتنا العربية , و ألا نرفع تلك اللغات على لغتنا بكل انهزامية , فقد ثبت أنه عليه
الصلاة و السلام أمر زيد بن ثابت رضي الله عنه بتعلم اللغة السريانية ليتولى أعمال الترجمة و الرد على
الرسائل ، و روي أنه تعلم بأمر منه عليه الصلاة و السلام العبرية و الفارسية و الرومية و غيرها ، فعنه رضي
الله عنه قال : ( أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أتعلم لـه كلمات من كتاب يهود ، قال : إني و
الله ما آمن يهود على كتابي , قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته لـه , فلما تعلمته كان إذا كتب إلى
يهود كتبت إليهم , و إذا كتبوا إليه قرأت لــه كتابهم ) الترمذي و أحمد و أبو داود ، و هو حديث صحيح ,
و في رواية أخرى عن زيد بن ثابت أيضا قال : ( أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أتعلم السريانية ) .
كما أن رسالةَ الإعلام و وسائل الدِّعاية و الإعلان عظيمةٌ في هذا الشأنِ المُهمِّ , كما أن علينا أن نقف في
وجوه المشككين الذين قد يقولون أن استخدام لغة الأمة قد يسبب غزوف الطلاب عن إتقان اللغة الأجنبية ،
مما يؤدي إلى ابتعادهم عن الأبحاث الجديدة و التطور السريع .
و إن الدول الأجنبية لتحرص كل الحرص على نشر لغاتها القومية و تعتبرها رمزاً لقوتها و حضارتها , فهم
يجرمون تدريس لغة أخرى غير لغتهم فى مدارسهم الأولية إلى سن معين , و فى فرنسا مثلا يجرمون من
لايكتب على متجره بغير الفرنسية , و اليهود لعنهم الله حين خططوا لإقامة وطنهم على أرض فلسطين
أقروا إحياء اللغة العبرية بعد أن كادت تموت ، و جعلوها لغتهم الرسمية فى المدارس و المصالح و التداول ،
و جعلوها فى كل شئ على العملات و اللافتات و الكثير من مناحي حياتهم , و كلٌ يتمسك بلغته فى
المحافل العالمية و المؤتمرات الدولية .
هذا و صلوا و سلموا على الحبيب المصطفى و النبي المجتبى ، فقد أمركم بذلك ربكم جل و علا فقال عز
من قائل : ( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَ سَلّمُواْ تَسْلِيماً ) الأحزاب .
اللهم صل و سلم و بارك على عبدك و رسولك محمد ، نبي الهدى و الرحمة ، و على آله الطيبين
الطاهرين ، و على أزواجه أمهات المؤمنين ، و ارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين ، أبي بكر و عمر
و عثمان و علي ، و عن الصحابة أجمعين ، و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، و عنا معهم
بعفوك و جودك و إحسانك يا أكرم الأكرمين .
و أشهد أن نبينا محمدا خاتم الأنبياء و المرسلين , صلى الله عليه و على آله و صحبه أجمعين , ثم أما بعد :
فأوصيكم أيها المؤمنون و نفسي بتقوى الله عز و جل ، فاتقوا الله تعالى ، فتقوى الله سبحانه هي الوصية
الجامعة ، يقول تعالى : ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَ لْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر .
أيها المؤمنون , إن لله تعالى فى كل شئ آيات باهرات تبين جلاله و عظيم قدرته و سلطانه سبحانه , و فى
كل شئ له آيةٌ تدلُّ على أنه الخالقُ , و من آياته سبحانه خلق السموات و الأرض و اختلاف الألسنة و الألوان ,
قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ )
الروم , و إن المُتأمِّل في تأريخ الأمم و المُجتمعات و تعاقُب الأمجاد و الحضارات ليجد فيها رُكنًا ركينًا ، و
أساسا متينًا ، يُعدُّ من أهم ثوابتها و أُصولها و سببَ نشاتها و قيامها ، ذلكم هو : لسانُها و لُغتُها ,
و إن من أعظم اللغات شرفاً و أعلاها مكانة و رفعة , و أكثرها بيانا و إفصاحاً لمراد المتكلم فى دقة
متناهية و زمن وجيز هى اللغة العربية , و يكفي اللعة العربية شرفاً أن اختارها الله سبحانه لحمل رسالته
الخاتمة إلى الناس جميعاً إلى قيام الساعة , قال تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) يوسف
و قال تعالى : ( وَ هَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) الأحقاف . و قال
تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إبراهيم ..
و تستمد اللغة العربية أهميتها من كونها لغة الوحى الشريف الذى نزل به أمين وحى السماء جبريل عليه
على قلب النبى محمد خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه و سلم , قال تعالى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ,
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِين , بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء .
و أنه على من أراد معرفة مراد الله عز و جل فلابد له من معرفة اللغة العربية معرفة دقيقة حسب مدلولات
ألفاظها و معانيها و مبانيها ، و لابد من إتقان اللغة حتى نفهم القرآن الكريم و السنة المشرفة , من عقائد
و عبادات و معاملات و أخلاق , و لابد من اللغة حتى تعبد الله سبحانه عبادة صحيحة .
و قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( اللغةُ العربيةُ من الدين ، و معرفتُها فرضٌ واجبٌ , فإن فهمَ
الكتاب و السنة فرضٌ ، و لا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية ، و ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ ) .
و قد جاء في حديث يروى عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : ( إن العربية ليست لأحدكم بأب و لا أم ، إنما
هي اللسان ، فمن تلكم العربية فهو عربي ) و الحديث ضعيف في إسناده ، و لكنه صحيح في معناه ، كما
يقرّر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , حيث روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلاً .
و إن لغتنا العربيةَ الحبيبة لها حقٌّ علينا حقيقٌ , فإنه يجب علينا أن نهتم بها , و أن نرعَى قدرَها في كلِّ منسوبٍ
إليها ، و أن نسعَى لنجدَتها و الدفاع عنها كلَّما مسَّها ضُرٌّ أو حَزَبَها أمرٌ , فلُغتُنا العربيةُ اليوم و في هذا العصر
المختلط , و في وسائل الإعلام أضحت مهجورة و مهانة من أبنائها , يقدم عليها غيرها من اللغات الأجنبية ,
و اللهجات المشوهة المحلية , على عكس ما كانت تتحصل عليه من اهتمام و عناية في زمان مضى ,
و من عناية أعلام الأمة باللغة العربية قول الفاروق عمر رضي الله عنه : ( تعلموا العربية فإنها تزيد في
المروءة , و تعلموا العربية فإنها من الدين ) ، و هذا من الخلفاء الراشدين , و الحبيب عليه الصلاة و السلام
يقول في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه : ( فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ،
عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ) أبو داود , و كتبَ كاتبٌ لأبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه خطابًا لعُمر فبدأَه بقوله :
( من أبو موسى) ، فكتبَ إليه عُمرُ رضي الله عنه : ( أن اضرِبه سَوطًا ، و استبدِله بغيره ) ,
فما أعظمَ غيرتهم على لُغة القرآن ، فرضي الله عنهم و لله درُّهُم .
و أما العرب في الجاهلية لم يؤثر عنهم قبل الإسلام إلا عنايتهم بالشعر و الخطابة ، و قد حفظوا لغتهم من
التغيير ، فعدوا الخطأ فيها عيباً يتعير به الإنسان ، و شهَّرُوا بأصحاب الفهاهة و اللثغة ، و أعلنوا بدائع
شعرهم و خطبهم في أسواقهم المشهورة أيام مواسم الحج ، فكان علمهم الحق هو أدب لغتهم ، و
هو علمهم العقلي الوحيد ..
فاللغة العربية إذن هى عنوان هوية المسلم فى كل مكان من أرض الله ، فحين تسأل إنساناً : ما ديانتك ؟
يقول لك : مسلم و الحمد لله ، ينطقها بالعربية , و فى مكة البلد الحرام و أنت بالطواف تسمع المسلمين
من كل الأجناس يرفعون أصواتهم بالتلبية : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النعمة
لك و الملك ، لا شريك لك ، يحاولون أن ينطقوها صحيحة ,
و لذلك فإحياء اللغة العربية هو إحياء للدين , و تأتى أهمية اللغة العربية فى تحقيق وحدة المسلمين و ربطهم
كأمة واحدة ، فإن وحدة اللغة تحكم التواصل و تذيب الفوارق , قال تعالى : ( وَ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) المؤمنون , و تأتى أهمية اللغة العربية كذلك فى سهولة تحقيق الاتصال بين المسلمين
جميعاً مما يزيد قوتهم أمام قوى الشر المجتمعة عليهم .
و لقد حثنا ربنا سبحانه و تعالى على التعلم بوجه عام ، و أول التعلم هو تعلم العلوم الشرعية لأنها تعنى
بالمقاصد و الغايات و اقتضاء الصراط المستقيم فى الدنيا و الموصل إلى محبة الله و رضوانه و النعيم
بالآخرة ، و أول الطريق هو تعلم اللغة العربية , قال تعالى : ( وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) طه , و بيّن سبحانه
فضل العلم و منزلة العلماء فقال تعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) المجادلة , و جعل النبى صلى الله عليه و سلم فى غزوة بدر فداء الأسير المشرك أن يُعلم
عشرة من أبناء الصحابة , فعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ( كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم
فداء , فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ) أحمد و البيهقي ,
و حسنه شعيب الأرناؤوط , و أخرج الحاكم بسنده فى المستدرك عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :
( سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا قرأ فلحن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ارشدوا أخاكم )
صحيح الإسناد و لم يخرجاه , تعليق الذهبي قي التلخيص : صحيح , و النبى صلى الله عليه و سلم يشجع
حسان بن ثابت و يقول له : ( اهجهم و روح القدس معك ) ، و يقول : ( إن من البيان لسحرا ) . و خلع بردته
الشريفة و ألقاها على كعب بن زهير , و قال عليه الصلاة و السلام : ( أوتيت جوامع الكلم و اختصر لى
الحديث اختصاراً ) شعب الإيمان , و قال عليه الصلاة و السلام : ( أدبنى ربى فأحسن تأديبى ) .
و لم تقتصر عنايته صلى الله عليه و سلم بتوجيه تعلم اللغة العربية قراءة و كتابة للرجال فحسب , إنما اعتنى
أيضا بتعليم النساء القراءة و الكتابة بالإضافة لبعض الأشياء الأخرى النافعة مثل الرقية , فعن الشفاء بنت
عبدالله رضي الله عنها قالت : ( دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا عند حفصة ، فقال لي : ألا
تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ) أبوداود , و صححه الألباني رحمه الله ..
و إذا كانت لغة القرآن و لغة الإسلام بهذه القوة و المقدرة ، و بهذه المنزلة ، فلا غرابة أن تكون مستهدفة
من أعدائها ، فلقد علم المشتغلون بدراسات التاريخ المعاصر ، و المتابعون لمسيرة الاستعمار ، وسياساته
أن التهجم على اللغة و التهوين من شأنها ، و السخرية من المشتغلين بها و التهكم بها في وسائل الإعلام
و القصص و الروايات و المسرحيات ، في سياسات مرسومة و حملات مكثفة ، ثم تلقّف ذلك مِن بعدهم
و على طريقهم أذناب و عملاء , لذا تنمَّرَ لها الأعداءُ و كشَفُوا عن مخططاتهم السوداء، و قال قائلُهم :
( إننا لن ننتصِرَ على المُسلمين ما دامُوا يقرأون القرآنَ و يتكلَّمون العربيةَ ، فيجبُ أن نُزيلَ القرآنَ من
وجوهِهم ، و نقتلِعَ العربيةَ من ألسِنَتهم ) , و أعلَنوا عليها حربًا ضَروسًا ، و أظهَروا لها وجهًا عَبوسًا ، و
أنفَقوا الغالِيَ و النَّفيس لتغريبِ اللسانِ العربيِّ و قطعِه عن منابِعِ البلاغة .
و مع كلِّ التحديات و المُتغيِّرات فإن اللغةَ العربيةَ محفوظةٌ بحفظِ الله تعالى لكتابه العزيز , قال تعالى : ( إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر . و في هذه الاضطراباتِ التي تجتاحُ أمَّتَنا ، و النَّعَرات التي تُهدِّدُ
وحدتَنا ، في خِضَمِّ هذه الأمواج لا بُدَّ من الاستِمساك بهُويَّتنا الإسلامية و لُغتنا العربية ، و ربطِ الأجيالِ بها ،
و إبعاد أنفسنا أنفُسنا عن المصطلحات العُجميةِ الأجنبية المَقيتة ، و ألا ندخلها في حديثنا مع أهلنا و أبنائنا
و زملائنا في العمل , إلا عند الحاجة لتعلمها , و أن نُقبِلَ على لغتِنا ، و ننأَى بها عن اللَّحن فيها , و أن نكون
قدوة لأبنائنا , و إن علينا أن نغرس في نفوس النشء حب اللغة العربية و الإعتزاز بها ..
و إن عجزنا عن التخاطب باللغة العربية , فعلينا ألا نتجاوزها في أماكن مهمة يتجلى فيها حبنا للغتنا العربية ,
فالتاجر له أن يروج بضاعته باللغة العربية ، و المعلم أن يدرس في صفوفه باللغة العربية ، و الوالد أن يعلم
أولاده باللغة العربية ، و الخطيب و المحاضر أن يتحدث إلى الناس باللغة العربية , و الإعلامى أن يستخدم
اللغة العربية في صحيفته و برنامجه في الشاشة , و هكذا .
و إن اعتِزازَنا بلُغتنا الأمِّ لا يُنافِي حاجةَ الأمة إلى تعلُّم اللغاتِ الأخرى لتحقيقِ رسالتِنا العالميَّة , و ذلك للأخذ
من العلوم التطبيقية النافعة لنا و لوطننا , و كذلك يحتاج السفراء لتعلم لغات الدول التي يعملون فيها ,
لكن يكون ذلك مع الإعتزاز بلغتنا العربية , و ألا نرفع تلك اللغات على لغتنا بكل انهزامية , فقد ثبت أنه عليه
الصلاة و السلام أمر زيد بن ثابت رضي الله عنه بتعلم اللغة السريانية ليتولى أعمال الترجمة و الرد على
الرسائل ، و روي أنه تعلم بأمر منه عليه الصلاة و السلام العبرية و الفارسية و الرومية و غيرها ، فعنه رضي
الله عنه قال : ( أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أتعلم لـه كلمات من كتاب يهود ، قال : إني و
الله ما آمن يهود على كتابي , قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته لـه , فلما تعلمته كان إذا كتب إلى
يهود كتبت إليهم , و إذا كتبوا إليه قرأت لــه كتابهم ) الترمذي و أحمد و أبو داود ، و هو حديث صحيح ,
و في رواية أخرى عن زيد بن ثابت أيضا قال : ( أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أتعلم السريانية ) .
كما أن رسالةَ الإعلام و وسائل الدِّعاية و الإعلان عظيمةٌ في هذا الشأنِ المُهمِّ , كما أن علينا أن نقف في
وجوه المشككين الذين قد يقولون أن استخدام لغة الأمة قد يسبب غزوف الطلاب عن إتقان اللغة الأجنبية ،
مما يؤدي إلى ابتعادهم عن الأبحاث الجديدة و التطور السريع .
و إن الدول الأجنبية لتحرص كل الحرص على نشر لغاتها القومية و تعتبرها رمزاً لقوتها و حضارتها , فهم
يجرمون تدريس لغة أخرى غير لغتهم فى مدارسهم الأولية إلى سن معين , و فى فرنسا مثلا يجرمون من
لايكتب على متجره بغير الفرنسية , و اليهود لعنهم الله حين خططوا لإقامة وطنهم على أرض فلسطين
أقروا إحياء اللغة العبرية بعد أن كادت تموت ، و جعلوها لغتهم الرسمية فى المدارس و المصالح و التداول ،
و جعلوها فى كل شئ على العملات و اللافتات و الكثير من مناحي حياتهم , و كلٌ يتمسك بلغته فى
المحافل العالمية و المؤتمرات الدولية .
هذا و صلوا و سلموا على الحبيب المصطفى و النبي المجتبى ، فقد أمركم بذلك ربكم جل و علا فقال عز
من قائل : ( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَ سَلّمُواْ تَسْلِيماً ) الأحزاب .
اللهم صل و سلم و بارك على عبدك و رسولك محمد ، نبي الهدى و الرحمة ، و على آله الطيبين
الطاهرين ، و على أزواجه أمهات المؤمنين ، و ارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين ، أبي بكر و عمر
و عثمان و علي ، و عن الصحابة أجمعين ، و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، و عنا معهم
بعفوك و جودك و إحسانك يا أكرم الأكرمين .