الحمدلله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده , ثم اما بعد , فاتقوا الله جل وعلا , قال
تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون ) آل عمران ..
قال الله تعالى : ( و َقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ و َبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) الإسراء
أيها المؤمنون , أوصى الإسلام بالآباء و الأمهات خيرًا , و نهى عن قطيعتهم و إيذائهم
أو إدخال الحزن عليهم ، كيف لا و الإسلام دين الوفاء و البرِّ . ولقد جعل الله سبحانه وتعالى
رضاه في رضى الوالدين , عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : ( رضى الله في رضى الوالدين , و سخط الله في سخط
الوالدين ) الترمذي و صححه ابن حبان و الحاكم .
و لذلك فإن من أراد الجنة والنجاة من النار سعى إلى برهما وانتهى عن عقوقهما وقطيعتهما ,
عن معاوية بن جاهمة , ( أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أردت أن
أغزو ، و جئت أستشيرك ؟ فقال : هل لك من أم ؟ قال نعم : قال : فالزمها فإن الجنة تحت
رجليها ) النسائي و اللفظ له و أحمد والطبراني . وسنده حسن إن شاء الله ، و صححه الحاكم
و وافقه الذهبي ، و أقره المنذري . و رواه ابن ماجه مطولا ولفظه : عن معاوية بن جاهمة
السلمي قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله : إني كنت أردت
الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة , قال ويحك أحية أمك ؟ قلت نعم , قال ارجع
فبرها ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك
وجه الله والدار الآخرة , قال ويحك أحية أمك , قلت نعم يا رسول الله , قال فارجع إليها فبرها
ثم أتيته من أمامه فقلت يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله و الدار
الآخرة , قال ويحك أحية أمك , قلت نعم يا رسول الله قال ويحك الزم رجلها فثم الجنة )
و قال الشيخ الألباني حسن صحيح . بل قد جاء في لفظ الطبراني بإضافة الأب مع الأم ,
قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد , فقال النبي صلى الله عليه و
سلم : ألك والدان ؟ قلت نعم , قال : الزمهما ، فإن الجنة تحت أرجلهما ) .
و قد انتشر بين الناس قول منسوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم و هو ( الجنة تحت أقدام
الأمهات ) , و تداوله الناس على أنه حديث صحيح , و هو في الحقيقة حديث موضوع ، لا
تصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ما
أعرف هذا لفظا مرفوعا بإسناد ثابت , و في حديث معاوية بن جاهمة الصحيح ما يغني عن
هذا الحديث الضعيف أيها الأحباب . قال الألباني رحمه الله : موضوع ، رواه ابن عدي و
العقيلي في الضعفاء ،عن موسى بن محمد بن عطاء ثنا أبو المليح ثنا ميمون عن ابن عباس
به مرفوعا ، قال ابن عدي : هذا حديث منكر , و قد قال ابن عدي في موسى هذا : منكر
الحديث و يسرق الحديث , و قال العقيلي أيضا : هذا منكر . و موسى بن محمد , كذبه
أبو زرعة , و أبو حاتم . و قال النسائي ليس بثقة . و قال الدارقطني وغيره : متروك ,
و قال ابن حبان : لا تصح الرواية عنه , كان يضع الحديث .
و سيكون حديثنا في هذا اليوم المبارك عن عقوق الوالدين ، تلكم الكبيرة العظيمة التي نهى
عنها الشرع و حذر منها أشد التحذير , و جاء في القرآن الكريم و السنة النبوية ما يزجر
عن ذلك .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا
رسول الله , قال : الإشراك بالله ، و عقوق الوالدين , و كان متكئا فجلس و قال و شهادة
الزور و قول الزور , فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) متفق عليه , و عن المغيرة
بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إن الله عز و جل حرم عليكم عقوق
الأمهات و وأد البنات و منعا و هات , و كره لكم ثلاثا , قيل و قال و كثرة السؤال و
إضاعة المال ) مسلم ..
فالعقوق محرم قطعًا مذموم شرعًا و عقلاً .. فما معنى العقوق ؟
يقول العلامة ابن حجر رحمه الله : العقوق أن يحصل لهما أو لأحدهما أذىً ليس بالهيِّن
عُرفًا , و يكون هذا الإيذاء بفعل أو بقول أو إشارة ، و من مظاهره مخالفة أمر الوالدين
أو أحدهما في غير معصية ، أو ارتكاب ما نهيا عنه ما لم يكن طاعة ، أو سبهما و
ضربها ، و منعهما ما يحتاجانه مع القدرة , و غير ذلك .
و قد اتفق أهل العلم على عدِّ العقوق كبيرة من الكبائر . يقول الله عز و جل : ( و َقَضَى
رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة ... )
الإسراء , فانظر كيف نهى عن الإيذاء بالفعل أو بالقول حتى ولو كان كلمة ( أفٍ ) التي
تدل على الضجر و التضجر . فالأم التي حملت وليدها تسعة أشهر ، مشقة من بعد مشقة ,
لا يزيدها نموه إلا ثقلاً وضعفاً ، و وضعته كرهاً وقد شارفت على الموت ، فإذا بها تعلّق
آمالها على هذا الطفل الوليد ، رأت فيه بهجة الدنيا و فرحتها و زينتها ، و تعلقت بالدنيا
من أجله ، ثم شغلت بخدمته ليلها و نهارها ، تغذيه بصحتها ، و تريحه بتعبها ، طعامُه
دَرُّها ، تحوطه و ترعاه ، تجوع ليشبع ، و تسهر لينام ، فهي له محبة , و به رحيمة ، و
عليه خائفة شفيقة ، و عنه حامية مدافعة , أفبعد هذا يكون جزاؤها العقوق و الإعراض ,
و الطرد و الإبعاد , و الأذى و النكران ؟
و أما الأب , فالابنُ له وبه مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَة كما جاء في الحديث , قال عليه الصلاة والسلام :
( إن الولد مبخلة مجبنة ) أحمد وابن ماجه وأبو يعلى والطبراني , و لفظ ابن ماجه :
( جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه و قال: إن
الولد مبخلة مجبنة ) , ولفظ البيهقي والحاكم والطبراني : ( إن الولد مبخلة مجبنة محزنة
مجهلة ) والحديث صححه الإمام الحاكم و قال صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه ،
و سكت عنه الذهبي , و قال الحافظ العراقي إسناده صحيح , فتجد الوالد يَكَدُّ و يسعى ،
يعاني صنوف الأذى و المذلة بحثاً عن لقمة العيش لينفق عليه ويربيه ، إذا دخل عليه هش
و إذا اقبل إليه بش ، وإذا حضر تعلق به ، وإذا أقبل عليه احتضن حجره وصدره ، يخوف
كل الناس بأبيه ، و يعدهم بفعل أبيه , أفبعد هذا يكون جزاء الأب التنكر و الصدود , و
الكبر و الجمود , و الأذى و الجحود ؟ نعوذ بالله من الخذلان . و ربنا سبحانه و تعالى
يقول في محكم التنزيل : ( هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) الرحمن .
إن عقوق الوالدين الذي ظهر و انتشر و تعددت أشكاله و ألوانه ليدل على انحراف خطير
في المجتمعات عن شريعة الله تعالى التي جعلت رضا الله في رضا الوالدين و سخطه
سبحانه في سخطهما ، كما في الحديث : ( رضا الرب في رضا الوالدين ، و سخطه في
سخطهما ) . رواه الطبراني و صححه الألباني , والتي جعلت الجنة تحت أقدام الأمهات ,
فلن يدخل الجنة عاقٌ لوالديه ، ففي الحديث : ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق
لوالديه ، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال ، والديوث , و ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق
لوالديه ، و مدمن الخمر ، و المنان بما أعطى ) النسائي و أحمد و الحاكم . و قَالَ صلى
الله عليه و سلم : ( الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ )
الترمذي و قَالَ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
كما أن العاق لوالديه يعرض نفسه لدعاء والديه عليه ، ودعاؤهما مستجاب , جاء في حديث
أبي هريرة قوله صلى الله عليه و سلم : ( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ : دعوة
المظلوم ، و دعوة المسافر ، و دعوة الوالد على ولده ) الترمذي , و صححه الألباني ..
و من مظاهر العقوق أن يتسبب الولد في سب و لعن أبويه أو أحدهما , فعن عبد الله بن
عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن من أكبر الكبائر
أن يلعن الرجل والديه , قيل : يا رسول الله و كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسُبُّ
الرجل أبا الرجل فيسب أباه و يسب أمه فيسب أمه ) البخاري ..
و من مظاهر العقوق ان يعمد الأبناء الى الاعتداء باللسان على الوالدين , و ذلك برفع
الصوت غضبا عليهما و تحقيرا لهما , بل قد يصل إلى توجيه الشتائم و السباب إليهما ,
بل قد يلعنهما لعنا صريحا دون أدنى ذرة من حياء أو تقدير , و من مظاهر العقوق
تحميلهما فوق ما يطيقان في مختلف نواحي الحياة كمطالبتهما بالمال باستمرار مع العلم
بعجزهما عن إجابة مطلبهم , و اللجوء في سبيل ذلك الى وسائل التهديد و الوعيد .
و من مظاهر العقوق عدم رعاية الابن الغني لأبويه الفقيرين المحتاجين للرعاية والعناية
و عدم مساعدته لهما مادياً بالرغم من يسره . بل قد يتضايق و يضجر من وجودهما أو
أحدهما فيتملص منهما , و ذلك بإرسالهما إلى أحد الإخوة أو الاو الأخوات , بل قد يقوم
بهجرهما و مقاطعتهما و عدم الحديث معهما لأسباب دنيوية تافهة , و لو ألان هذا
العاق الحديث لهما لوجد البشر و السرور في محياهما فرحا بابنهما .
ومن المشاهد المؤلمة أن كثيراً من الأبناء لا يتقون ربهم في معاملة آبائهم فيسيئون إليهم
بالفعل و يغلظون معهم بالقول و لا سيما حينما يتقدم الآباء بالعمر و يصبحون بحاجة
الى الرحمة و العطف مع أن من أول واجبات الانسان ان لا يجحد فضل أبويه و لا
يتنكر لجميلهما و أن يصاحبهما في الدنيا معروفا ..
و من كان هذا حاله فإنه يعرض نفسه للعنة الله تعالى ، فقد روى مسلم في صحيحه عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( لعن الله من
لعن والده و لعن الله من ذبح لغير الله و لعن الله من آوى محدثا و لعن الله من غير منار
الأرض ) مسلم . كما إنه متوعد بعقوق أولاده له , فكل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء
إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين ، فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات . أنه صلى
الله عليه وسلم قال : ( كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل
لصاحبه العقوبة قبل الممات ) رواه الحاكم بإسناد صحيح . وَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله
عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ
الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ ، مِنَ الْبَغْي وَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ) أبو داود و
ابن ماجة و الترمذي وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وهل هناك أعظم رحماً من الوالدين ؟؟ .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه , قيل :
من يا رسول الله ؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة )
مسلم في صحيحه . نعم : رغم أنفه من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يتخذ
برهما و الإحسان إليهما طريقاً إلى الجنة ..
قال الأصمعي : حدثني رجل من الأعراب قال : خرجت من الحي أطلب أعقَّ الناس ،
وأبرَّ الناس ، فكنت أطوف بالأحياء , حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا
تطيقه الإبل في الهاجرة و الحرِّ الشديد ، و خلفه شاب في يده رشاء ( أي حبل ) ملوي
يضربه به ، قد شق ظهره بذلك الحبل ، فقلت : أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ؟
أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه ؟ قال : إنه مع هذا أبي , فقلت : فلا
جزاك الله خيرًا , قال : اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه ، و هكذا كان يصنع . فانظر
كيف قيض الله لهذا الوالد العاق من أبنائه مَن يعقه , و الجزاء من جنس العمل , قال
تعالى : ( و َمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) فصلت ..
و من مظاهر العقوق منع الأبناء النفقة على الآباء رغم حاجة الآباء و قدرة الأبناء ,
فتراه يتركهما من غير معيلٍ لهما ، فيدعهما يتكففان الناس و يسألانهم . والنبي صلى
الله عليه وسلم يقول في حديث جابر رضي الله عنه : ( أنت و مالك لأبيك ) ابن ماجه ..
و من مظاهر و صور عقوق الوالدين المحزنة و المؤثرة الإعتداء الجسدي عليهما
بالضرب والإهانة و التعذيب و الذي قد يصل و العياذ بالله إلى قتلهما أو قتل أحدهما
عياذا بالله من هذا الصنيع الشنيع ..
و قبل الختام أوصيكم و نفسي أولا , بأن نسعى في سبيل البر بالوالدين , و أن نعوض
ما فات من تقصير , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي
عُمْرِهِ ، وَ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ ، وَ لْيَصِلْ رَحِمَهُ ) أحمد و حسنه الألباني ،
ثم اعلموا ، أننا مهما عملنا من أعمال نبر بها آباءنا و أمهاتنا ، فلن نبلغ او نوازي ما
قدماه لنا ، لأن فضلهما لا يجارى ، و برهما لا يبارى ، و كيف نبلغ برهما و قد قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لاَ يَجْزِئُ وَلَدٌ وَالِدَهُ ، إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ
فَيُعْتِقَهُ ) مسلم . لكن يجب أن نحرص على البر بهما , و أن نسدد و نقارب , و أن
نخلص الدعاء لله لأن يوفقنا إلى البر بهما و الإحسان لهما , و حسن صحبتهما , و إن
كان صدَر منا للأبوين عقوقٌ ، و سوء معاملة ، فلنتدارك أعمارَنا و أوقاتَنا ، و لنغتنِم
حياتهما ، ولنسألهما الصفح والتجاوزَ عنا ، و الدعاء لنا قبل أن نلقى ربنا بسيئة عظيمة
ومعصية جسيمة ، ومن كان منا عاقاً لهما حال حياتهما فليبرهما بعد موتهما ، بالدعاء
و الاستغفار لهما , و الصدقة عنهما , فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي
الله عنه قال : ( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من
بني سلمة فقال يا رسول الله : هل بقيَ من برّ أبويَّ شيءٌ أبرّهما به بعد موتهما ؟ قال :
نعم ، الصلاةُ عليهما ، و الاستغفار لهما ، و إنفاذُ عهدِهما مِن بعدهما ، و صِلة الرحمِ
التي لا توصل إلا بهما , و إكرام صديقهما ) أبو داود .
وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ( أن رجلاً من الأعراب
لقيه بطريق مكة ، فسلم عليه عبد الله بن عمر و حمله على حمارٍ كان يركبه ، و أعطاه
عمامة كانت على رأسه ، قال ابن دينار : فقلنا له أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون
باليسير ، فقال عبد الله بن عمر : إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
و إني سمعت رسول الله يقول : إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه ) مسلم .
نسأل الله الكريم بمنه أن يرزقنا و إياكم البر و الإحسان ، و أن يجنبنا العقوق و الآثام و
العصيان و أن يجعلنا من البارين بالوالدين في حياتهما و بعد موتهما , إنه ولي ذلك
والقادر عليه .. وصلى الله وسلم و بارك على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين .
تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون ) آل عمران ..
قال الله تعالى : ( و َقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ و َبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) الإسراء
أيها المؤمنون , أوصى الإسلام بالآباء و الأمهات خيرًا , و نهى عن قطيعتهم و إيذائهم
أو إدخال الحزن عليهم ، كيف لا و الإسلام دين الوفاء و البرِّ . ولقد جعل الله سبحانه وتعالى
رضاه في رضى الوالدين , عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : ( رضى الله في رضى الوالدين , و سخط الله في سخط
الوالدين ) الترمذي و صححه ابن حبان و الحاكم .
و لذلك فإن من أراد الجنة والنجاة من النار سعى إلى برهما وانتهى عن عقوقهما وقطيعتهما ,
عن معاوية بن جاهمة , ( أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أردت أن
أغزو ، و جئت أستشيرك ؟ فقال : هل لك من أم ؟ قال نعم : قال : فالزمها فإن الجنة تحت
رجليها ) النسائي و اللفظ له و أحمد والطبراني . وسنده حسن إن شاء الله ، و صححه الحاكم
و وافقه الذهبي ، و أقره المنذري . و رواه ابن ماجه مطولا ولفظه : عن معاوية بن جاهمة
السلمي قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله : إني كنت أردت
الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة , قال ويحك أحية أمك ؟ قلت نعم , قال ارجع
فبرها ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك
وجه الله والدار الآخرة , قال ويحك أحية أمك , قلت نعم يا رسول الله , قال فارجع إليها فبرها
ثم أتيته من أمامه فقلت يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله و الدار
الآخرة , قال ويحك أحية أمك , قلت نعم يا رسول الله قال ويحك الزم رجلها فثم الجنة )
و قال الشيخ الألباني حسن صحيح . بل قد جاء في لفظ الطبراني بإضافة الأب مع الأم ,
قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد , فقال النبي صلى الله عليه و
سلم : ألك والدان ؟ قلت نعم , قال : الزمهما ، فإن الجنة تحت أرجلهما ) .
و قد انتشر بين الناس قول منسوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم و هو ( الجنة تحت أقدام
الأمهات ) , و تداوله الناس على أنه حديث صحيح , و هو في الحقيقة حديث موضوع ، لا
تصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ما
أعرف هذا لفظا مرفوعا بإسناد ثابت , و في حديث معاوية بن جاهمة الصحيح ما يغني عن
هذا الحديث الضعيف أيها الأحباب . قال الألباني رحمه الله : موضوع ، رواه ابن عدي و
العقيلي في الضعفاء ،عن موسى بن محمد بن عطاء ثنا أبو المليح ثنا ميمون عن ابن عباس
به مرفوعا ، قال ابن عدي : هذا حديث منكر , و قد قال ابن عدي في موسى هذا : منكر
الحديث و يسرق الحديث , و قال العقيلي أيضا : هذا منكر . و موسى بن محمد , كذبه
أبو زرعة , و أبو حاتم . و قال النسائي ليس بثقة . و قال الدارقطني وغيره : متروك ,
و قال ابن حبان : لا تصح الرواية عنه , كان يضع الحديث .
و سيكون حديثنا في هذا اليوم المبارك عن عقوق الوالدين ، تلكم الكبيرة العظيمة التي نهى
عنها الشرع و حذر منها أشد التحذير , و جاء في القرآن الكريم و السنة النبوية ما يزجر
عن ذلك .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا
رسول الله , قال : الإشراك بالله ، و عقوق الوالدين , و كان متكئا فجلس و قال و شهادة
الزور و قول الزور , فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) متفق عليه , و عن المغيرة
بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إن الله عز و جل حرم عليكم عقوق
الأمهات و وأد البنات و منعا و هات , و كره لكم ثلاثا , قيل و قال و كثرة السؤال و
إضاعة المال ) مسلم ..
فالعقوق محرم قطعًا مذموم شرعًا و عقلاً .. فما معنى العقوق ؟
يقول العلامة ابن حجر رحمه الله : العقوق أن يحصل لهما أو لأحدهما أذىً ليس بالهيِّن
عُرفًا , و يكون هذا الإيذاء بفعل أو بقول أو إشارة ، و من مظاهره مخالفة أمر الوالدين
أو أحدهما في غير معصية ، أو ارتكاب ما نهيا عنه ما لم يكن طاعة ، أو سبهما و
ضربها ، و منعهما ما يحتاجانه مع القدرة , و غير ذلك .
و قد اتفق أهل العلم على عدِّ العقوق كبيرة من الكبائر . يقول الله عز و جل : ( و َقَضَى
رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة ... )
الإسراء , فانظر كيف نهى عن الإيذاء بالفعل أو بالقول حتى ولو كان كلمة ( أفٍ ) التي
تدل على الضجر و التضجر . فالأم التي حملت وليدها تسعة أشهر ، مشقة من بعد مشقة ,
لا يزيدها نموه إلا ثقلاً وضعفاً ، و وضعته كرهاً وقد شارفت على الموت ، فإذا بها تعلّق
آمالها على هذا الطفل الوليد ، رأت فيه بهجة الدنيا و فرحتها و زينتها ، و تعلقت بالدنيا
من أجله ، ثم شغلت بخدمته ليلها و نهارها ، تغذيه بصحتها ، و تريحه بتعبها ، طعامُه
دَرُّها ، تحوطه و ترعاه ، تجوع ليشبع ، و تسهر لينام ، فهي له محبة , و به رحيمة ، و
عليه خائفة شفيقة ، و عنه حامية مدافعة , أفبعد هذا يكون جزاؤها العقوق و الإعراض ,
و الطرد و الإبعاد , و الأذى و النكران ؟
و أما الأب , فالابنُ له وبه مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَة كما جاء في الحديث , قال عليه الصلاة والسلام :
( إن الولد مبخلة مجبنة ) أحمد وابن ماجه وأبو يعلى والطبراني , و لفظ ابن ماجه :
( جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه و قال: إن
الولد مبخلة مجبنة ) , ولفظ البيهقي والحاكم والطبراني : ( إن الولد مبخلة مجبنة محزنة
مجهلة ) والحديث صححه الإمام الحاكم و قال صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه ،
و سكت عنه الذهبي , و قال الحافظ العراقي إسناده صحيح , فتجد الوالد يَكَدُّ و يسعى ،
يعاني صنوف الأذى و المذلة بحثاً عن لقمة العيش لينفق عليه ويربيه ، إذا دخل عليه هش
و إذا اقبل إليه بش ، وإذا حضر تعلق به ، وإذا أقبل عليه احتضن حجره وصدره ، يخوف
كل الناس بأبيه ، و يعدهم بفعل أبيه , أفبعد هذا يكون جزاء الأب التنكر و الصدود , و
الكبر و الجمود , و الأذى و الجحود ؟ نعوذ بالله من الخذلان . و ربنا سبحانه و تعالى
يقول في محكم التنزيل : ( هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) الرحمن .
إن عقوق الوالدين الذي ظهر و انتشر و تعددت أشكاله و ألوانه ليدل على انحراف خطير
في المجتمعات عن شريعة الله تعالى التي جعلت رضا الله في رضا الوالدين و سخطه
سبحانه في سخطهما ، كما في الحديث : ( رضا الرب في رضا الوالدين ، و سخطه في
سخطهما ) . رواه الطبراني و صححه الألباني , والتي جعلت الجنة تحت أقدام الأمهات ,
فلن يدخل الجنة عاقٌ لوالديه ، ففي الحديث : ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق
لوالديه ، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال ، والديوث , و ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق
لوالديه ، و مدمن الخمر ، و المنان بما أعطى ) النسائي و أحمد و الحاكم . و قَالَ صلى
الله عليه و سلم : ( الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ )
الترمذي و قَالَ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
كما أن العاق لوالديه يعرض نفسه لدعاء والديه عليه ، ودعاؤهما مستجاب , جاء في حديث
أبي هريرة قوله صلى الله عليه و سلم : ( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ : دعوة
المظلوم ، و دعوة المسافر ، و دعوة الوالد على ولده ) الترمذي , و صححه الألباني ..
و من مظاهر العقوق أن يتسبب الولد في سب و لعن أبويه أو أحدهما , فعن عبد الله بن
عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن من أكبر الكبائر
أن يلعن الرجل والديه , قيل : يا رسول الله و كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسُبُّ
الرجل أبا الرجل فيسب أباه و يسب أمه فيسب أمه ) البخاري ..
و من مظاهر العقوق ان يعمد الأبناء الى الاعتداء باللسان على الوالدين , و ذلك برفع
الصوت غضبا عليهما و تحقيرا لهما , بل قد يصل إلى توجيه الشتائم و السباب إليهما ,
بل قد يلعنهما لعنا صريحا دون أدنى ذرة من حياء أو تقدير , و من مظاهر العقوق
تحميلهما فوق ما يطيقان في مختلف نواحي الحياة كمطالبتهما بالمال باستمرار مع العلم
بعجزهما عن إجابة مطلبهم , و اللجوء في سبيل ذلك الى وسائل التهديد و الوعيد .
و من مظاهر العقوق عدم رعاية الابن الغني لأبويه الفقيرين المحتاجين للرعاية والعناية
و عدم مساعدته لهما مادياً بالرغم من يسره . بل قد يتضايق و يضجر من وجودهما أو
أحدهما فيتملص منهما , و ذلك بإرسالهما إلى أحد الإخوة أو الاو الأخوات , بل قد يقوم
بهجرهما و مقاطعتهما و عدم الحديث معهما لأسباب دنيوية تافهة , و لو ألان هذا
العاق الحديث لهما لوجد البشر و السرور في محياهما فرحا بابنهما .
ومن المشاهد المؤلمة أن كثيراً من الأبناء لا يتقون ربهم في معاملة آبائهم فيسيئون إليهم
بالفعل و يغلظون معهم بالقول و لا سيما حينما يتقدم الآباء بالعمر و يصبحون بحاجة
الى الرحمة و العطف مع أن من أول واجبات الانسان ان لا يجحد فضل أبويه و لا
يتنكر لجميلهما و أن يصاحبهما في الدنيا معروفا ..
و من كان هذا حاله فإنه يعرض نفسه للعنة الله تعالى ، فقد روى مسلم في صحيحه عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( لعن الله من
لعن والده و لعن الله من ذبح لغير الله و لعن الله من آوى محدثا و لعن الله من غير منار
الأرض ) مسلم . كما إنه متوعد بعقوق أولاده له , فكل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء
إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين ، فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات . أنه صلى
الله عليه وسلم قال : ( كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل
لصاحبه العقوبة قبل الممات ) رواه الحاكم بإسناد صحيح . وَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله
عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ
الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ ، مِنَ الْبَغْي وَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ) أبو داود و
ابن ماجة و الترمذي وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وهل هناك أعظم رحماً من الوالدين ؟؟ .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه , قيل :
من يا رسول الله ؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة )
مسلم في صحيحه . نعم : رغم أنفه من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يتخذ
برهما و الإحسان إليهما طريقاً إلى الجنة ..
قال الأصمعي : حدثني رجل من الأعراب قال : خرجت من الحي أطلب أعقَّ الناس ،
وأبرَّ الناس ، فكنت أطوف بالأحياء , حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا
تطيقه الإبل في الهاجرة و الحرِّ الشديد ، و خلفه شاب في يده رشاء ( أي حبل ) ملوي
يضربه به ، قد شق ظهره بذلك الحبل ، فقلت : أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ؟
أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه ؟ قال : إنه مع هذا أبي , فقلت : فلا
جزاك الله خيرًا , قال : اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه ، و هكذا كان يصنع . فانظر
كيف قيض الله لهذا الوالد العاق من أبنائه مَن يعقه , و الجزاء من جنس العمل , قال
تعالى : ( و َمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) فصلت ..
و من مظاهر العقوق منع الأبناء النفقة على الآباء رغم حاجة الآباء و قدرة الأبناء ,
فتراه يتركهما من غير معيلٍ لهما ، فيدعهما يتكففان الناس و يسألانهم . والنبي صلى
الله عليه وسلم يقول في حديث جابر رضي الله عنه : ( أنت و مالك لأبيك ) ابن ماجه ..
و من مظاهر و صور عقوق الوالدين المحزنة و المؤثرة الإعتداء الجسدي عليهما
بالضرب والإهانة و التعذيب و الذي قد يصل و العياذ بالله إلى قتلهما أو قتل أحدهما
عياذا بالله من هذا الصنيع الشنيع ..
و قبل الختام أوصيكم و نفسي أولا , بأن نسعى في سبيل البر بالوالدين , و أن نعوض
ما فات من تقصير , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي
عُمْرِهِ ، وَ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ ، وَ لْيَصِلْ رَحِمَهُ ) أحمد و حسنه الألباني ،
ثم اعلموا ، أننا مهما عملنا من أعمال نبر بها آباءنا و أمهاتنا ، فلن نبلغ او نوازي ما
قدماه لنا ، لأن فضلهما لا يجارى ، و برهما لا يبارى ، و كيف نبلغ برهما و قد قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لاَ يَجْزِئُ وَلَدٌ وَالِدَهُ ، إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ
فَيُعْتِقَهُ ) مسلم . لكن يجب أن نحرص على البر بهما , و أن نسدد و نقارب , و أن
نخلص الدعاء لله لأن يوفقنا إلى البر بهما و الإحسان لهما , و حسن صحبتهما , و إن
كان صدَر منا للأبوين عقوقٌ ، و سوء معاملة ، فلنتدارك أعمارَنا و أوقاتَنا ، و لنغتنِم
حياتهما ، ولنسألهما الصفح والتجاوزَ عنا ، و الدعاء لنا قبل أن نلقى ربنا بسيئة عظيمة
ومعصية جسيمة ، ومن كان منا عاقاً لهما حال حياتهما فليبرهما بعد موتهما ، بالدعاء
و الاستغفار لهما , و الصدقة عنهما , فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي
الله عنه قال : ( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من
بني سلمة فقال يا رسول الله : هل بقيَ من برّ أبويَّ شيءٌ أبرّهما به بعد موتهما ؟ قال :
نعم ، الصلاةُ عليهما ، و الاستغفار لهما ، و إنفاذُ عهدِهما مِن بعدهما ، و صِلة الرحمِ
التي لا توصل إلا بهما , و إكرام صديقهما ) أبو داود .
وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ( أن رجلاً من الأعراب
لقيه بطريق مكة ، فسلم عليه عبد الله بن عمر و حمله على حمارٍ كان يركبه ، و أعطاه
عمامة كانت على رأسه ، قال ابن دينار : فقلنا له أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون
باليسير ، فقال عبد الله بن عمر : إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
و إني سمعت رسول الله يقول : إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه ) مسلم .
نسأل الله الكريم بمنه أن يرزقنا و إياكم البر و الإحسان ، و أن يجنبنا العقوق و الآثام و
العصيان و أن يجعلنا من البارين بالوالدين في حياتهما و بعد موتهما , إنه ولي ذلك
والقادر عليه .. وصلى الله وسلم و بارك على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين .