الحمدلله رب العالمين , أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد , و هو على
كل شيء قدير , و أشهد أن نبيَّنا و سيدَنا محمدًا عبدُه و رسولُه ، صلَّى الله وسلم و بارك عليه و
على آله و أصحابه أجمعين , ثم أما بعد ، فاتقوا الله تعالى , فإن في تقواه النجاة و الفلاح , قال
تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُون ) آل عمران ..
و قال تعالى : ( يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَ يُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ
لَكُمْ وَ ٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ) الأنفال , أي يجعل لكم مخرجا و نجاة في الدنيا و الآخرة ..
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون و استقيموا على شرعه القويم ، و التزموا صراطه المستقيم ،
التزموا كتابه العظيم و هدي رسوله الكريم , قال تعالى : ( وَ أَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ
وَ لاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) الأنعام .
أيها المؤمنون , إن من المقرر في شريعتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصح لهذه الأمة
وتركها على البيضاء , فما من خير إلا دلّها عليه وما من شر إلا حذرها منه , عن الْعِرْبَاضَ بْنَ
سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ : ( وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا
الْعُيُونُ وَ وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ هَذَا لَمَوْعِظَةُ مُوَدَّعٍ فَإِذًا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ،
قَالَ : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ ، وَ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ
فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ مِنْ
بَعْدِي ، وَ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَ إِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ) ابن ماجة و الحاكم و
أحمد , و صححه الألباني في الصحيحة , و لم ينتقل عليه الصلاة و السلام إلى الرفيق الأعلى
حتى أكمل الله تعالى به الدين و أتمّ به النعمة على الخلق أجمعين , فترك أمته على المحجة
البيضاء ، الواضحة للسالكين و البينة للناهجين ، لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين ..
كما أنه عليه الصلاة و السلام قد أخبر بما يكون في الأمة بعده إلى قيام الساعة من تفرق و
اختلاف و نزاع و شقاق و ضياعٍ و تشتت و بُعد عن نهج الإسلام السوي و تفشي المنكراتِ ،
فنشأ عن كل ذلك فتنٌ عظمى , يوقد نارَها و يُذكي جذوتَها أعداءٌ متربّصون و كفرةٌ حاقدون ،
و لقد كثرت الفتن في هذا الزمان ، و أصبح المسلمون يرون الفتن بكرة و عشياً ، و نزل بهم
من هذه البلايا و المحن و النوازل و الخطوب العظام الشيءُ الكثير ، فتسلطت عليهم الأمم
الكافرة و استباحت بيضَتَهم . فتن و محن و إبتلاءات , فتنٌ من استشرف لها استشرفته و
ابتلعته , فتنٌ تحار فيها أناةُ الحلماء و تطيش بسببها عقول العقلاء ..
فتنٌ أنذر النبيُّ صلى الله عليه و سلم منها و حذَّر من الوقوع فيها ، فقال صلى الله عليه و
سلم : ( ستكونُ فِتَنٌ ، القاعِدُ فيها خيرٌ مِنَ القائِمِ ، و القائمُ فيها خيرٌ منَ الماشي ، و الماشي
فيها خيرٌ من الساعي ، و مَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ ، و مَنْ وجد مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ )
البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , و قال صلى الله عليه و سلم : ( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ
فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَ يُمْسِى كَافِرًا ، أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَ يُصْبِحُ كَافِرًا
يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ) مسلم من حديث أبي هريرة .
فتنٌ تموج موج البحار , فتتغير فيها المفاهيم وتنقلب الحقائق و تنطق الرويبضة , روى مسلم
في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال : ( كُنَّا مَعَ رَسُولِ صلى الله عليه و
سلم فِي سَفَرٍ ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ وَ مِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ ، وَ مِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ
إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم الصَّلاةَ جَامِعَةً ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى
الله عليه و سلم ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ
لَهُمْ وَ يُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَ إِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا ، وَ سَيُصِيبُ آخِرَهَا
بَلاءٌ، وَ أُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَ تَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَ تَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ
هَذِهِ مُهْلِكَتِي ، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَ تَجِيءُ الْفِتْنَةُ ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ
عَنِ النَّارِ ، وَ يُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَ هُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَ لْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي
يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ، وَ مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَ ثَمَرَةَ قَلْبِهِ ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ ،
فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ ) مسلم ، و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَ يُكَذَّبُ
فِيهَا الصَّادِقُ , وَ يُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَ يُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ ، وَ يَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ، قِيلَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، وَ مَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ ) أحمد و الحاكم و ابن
ماجه , قال شعيب الأرناؤوط إسناده حسن , و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ , وَ تَكْثُرَ الزَّلازِلُ , وَ يَتَقَارَبَ
الزَّمَانُ , وَ تَظْهَرَ الْفِتَنُ , وَ يَكْثُرُ الْهَرْجُ وَ هُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ , وَ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ )
البخاري , و عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( تَكُونُ فِتَنٌ عَلَى أَبْوَابِهَا دُعَاةٌ إِلَى النَّارِ , فَأَنْ تَمُوتَ وَ أَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ شَجَرَةٍ , خَيْرٌ لَكَ
مِنْ أَنْ تَتْبَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ ) ابن ماجة , و صححه الألباني ..
أيها المؤمنون , إن هذه الفتن جزءٌ من سنن الله تعالى التي قدرها على عباده من أمة محمد
صلى الله عليه و سلم , و ممن قبل أمة محمد , قال تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن
يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ , وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ
لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) العنكبوت , و إذا كان أمر الفتن واقعا لا محالة , فإن الاستعداد لها بالعلم
و العمل مطلب شرعي ملح , بالعلم حتى يعرف المسلم صور الفتن و أبوابها لئلا يسقط
فيها مع المبادرة بالعمل الصالح قبل أن تغشى الفتن , قال عليه الصلاة والسلام في حديث
أبي هريرة الذي مر معنا : ( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَ
يُمْسِى كَافِرًا ، أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَ يُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ) مسلم , أي
بادروا بالأعمال الصالحة , و إن هذه الفتن و البلايا إنما هي في الحقيقة امتحان من الله
لعباده ، ففي الضراء و المحن , و مع الشهوات و الشبهات تمتحن معادن القلوب
فيتكشف للجميع القلوب المؤمنة من القلوب المريضة , و لذا عقب الله تعالى آية
اليلاء بقوله : ( وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ) العنكبوت .
و إن هذه الفتن المتنوعة قد جعل لها أسباباً , فوجود السبب مؤذنٌ بوجود الفتنة , و
سبب كثير من هذه الفتن هو مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم , قال تعالى :
( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النور ,
أيها المؤمنون , إن من علامات السعادة و أسباب الفلاح أن يسلم العبد من الفتن ، و من
نجا من الفتنة في زمانها فقد نجا من عظيمه ، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن السعيد لمن جنب الفتن ، إن السعيد
لمن جنب الفتن ، إن السعيد لمن جنب الفتن ، و لمن ابتلي فصبر فواها ) أبو داود وصححه
الألباني , و إنَّ علينا أن نكثِرَ من التَّعَوُّذِ بالله تعالى من الفتن ، أُسْوَةً بالنبي صلى الله عليه و
سلم ، فقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام في صلاته : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ
وَ تَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَ حُبَّ الْمَسَاكِينِ , وَ إِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُون )
أحمد و الترمذي ، و قال صلى الله عليه و سلم : ( تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا
بَطَنَ ) مسلم , فالفتن إذا أتت لا تصيبُ الظالمَ وحده ، و إنما تُصيبُ الجميع , قال تعالى :
( وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الانفال .
نسأل الله جل و علا أن يحفظنا بحفظه و يكلأنا برعايته ، و يعصمنا من شرور المحن ،
و يميتنا على السنن , هذا و صلوا و سلموا على نبي الهدى والرحمة , فقد أمركم الله
تعالى بذلك فقال : ( إِنَّ اللَّهَ وَ مَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) الأحزاب ..
كل شيء قدير , و أشهد أن نبيَّنا و سيدَنا محمدًا عبدُه و رسولُه ، صلَّى الله وسلم و بارك عليه و
على آله و أصحابه أجمعين , ثم أما بعد ، فاتقوا الله تعالى , فإن في تقواه النجاة و الفلاح , قال
تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُون ) آل عمران ..
و قال تعالى : ( يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَ يُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ
لَكُمْ وَ ٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ) الأنفال , أي يجعل لكم مخرجا و نجاة في الدنيا و الآخرة ..
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون و استقيموا على شرعه القويم ، و التزموا صراطه المستقيم ،
التزموا كتابه العظيم و هدي رسوله الكريم , قال تعالى : ( وَ أَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ
وَ لاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) الأنعام .
أيها المؤمنون , إن من المقرر في شريعتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصح لهذه الأمة
وتركها على البيضاء , فما من خير إلا دلّها عليه وما من شر إلا حذرها منه , عن الْعِرْبَاضَ بْنَ
سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ : ( وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا
الْعُيُونُ وَ وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ هَذَا لَمَوْعِظَةُ مُوَدَّعٍ فَإِذًا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ،
قَالَ : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ ، وَ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ
فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ مِنْ
بَعْدِي ، وَ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَ إِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ) ابن ماجة و الحاكم و
أحمد , و صححه الألباني في الصحيحة , و لم ينتقل عليه الصلاة و السلام إلى الرفيق الأعلى
حتى أكمل الله تعالى به الدين و أتمّ به النعمة على الخلق أجمعين , فترك أمته على المحجة
البيضاء ، الواضحة للسالكين و البينة للناهجين ، لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين ..
كما أنه عليه الصلاة و السلام قد أخبر بما يكون في الأمة بعده إلى قيام الساعة من تفرق و
اختلاف و نزاع و شقاق و ضياعٍ و تشتت و بُعد عن نهج الإسلام السوي و تفشي المنكراتِ ،
فنشأ عن كل ذلك فتنٌ عظمى , يوقد نارَها و يُذكي جذوتَها أعداءٌ متربّصون و كفرةٌ حاقدون ،
و لقد كثرت الفتن في هذا الزمان ، و أصبح المسلمون يرون الفتن بكرة و عشياً ، و نزل بهم
من هذه البلايا و المحن و النوازل و الخطوب العظام الشيءُ الكثير ، فتسلطت عليهم الأمم
الكافرة و استباحت بيضَتَهم . فتن و محن و إبتلاءات , فتنٌ من استشرف لها استشرفته و
ابتلعته , فتنٌ تحار فيها أناةُ الحلماء و تطيش بسببها عقول العقلاء ..
فتنٌ أنذر النبيُّ صلى الله عليه و سلم منها و حذَّر من الوقوع فيها ، فقال صلى الله عليه و
سلم : ( ستكونُ فِتَنٌ ، القاعِدُ فيها خيرٌ مِنَ القائِمِ ، و القائمُ فيها خيرٌ منَ الماشي ، و الماشي
فيها خيرٌ من الساعي ، و مَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ ، و مَنْ وجد مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ )
البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , و قال صلى الله عليه و سلم : ( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ
فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَ يُمْسِى كَافِرًا ، أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَ يُصْبِحُ كَافِرًا
يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ) مسلم من حديث أبي هريرة .
فتنٌ تموج موج البحار , فتتغير فيها المفاهيم وتنقلب الحقائق و تنطق الرويبضة , روى مسلم
في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال : ( كُنَّا مَعَ رَسُولِ صلى الله عليه و
سلم فِي سَفَرٍ ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ وَ مِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ ، وَ مِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ
إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم الصَّلاةَ جَامِعَةً ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى
الله عليه و سلم ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ
لَهُمْ وَ يُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَ إِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا ، وَ سَيُصِيبُ آخِرَهَا
بَلاءٌ، وَ أُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَ تَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَ تَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ
هَذِهِ مُهْلِكَتِي ، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَ تَجِيءُ الْفِتْنَةُ ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ
عَنِ النَّارِ ، وَ يُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَ هُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَ لْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي
يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ، وَ مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَ ثَمَرَةَ قَلْبِهِ ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ ،
فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ ) مسلم ، و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَ يُكَذَّبُ
فِيهَا الصَّادِقُ , وَ يُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَ يُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ ، وَ يَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ، قِيلَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، وَ مَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ ) أحمد و الحاكم و ابن
ماجه , قال شعيب الأرناؤوط إسناده حسن , و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ , وَ تَكْثُرَ الزَّلازِلُ , وَ يَتَقَارَبَ
الزَّمَانُ , وَ تَظْهَرَ الْفِتَنُ , وَ يَكْثُرُ الْهَرْجُ وَ هُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ , وَ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ )
البخاري , و عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( تَكُونُ فِتَنٌ عَلَى أَبْوَابِهَا دُعَاةٌ إِلَى النَّارِ , فَأَنْ تَمُوتَ وَ أَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ شَجَرَةٍ , خَيْرٌ لَكَ
مِنْ أَنْ تَتْبَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ ) ابن ماجة , و صححه الألباني ..
أيها المؤمنون , إن هذه الفتن جزءٌ من سنن الله تعالى التي قدرها على عباده من أمة محمد
صلى الله عليه و سلم , و ممن قبل أمة محمد , قال تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن
يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ , وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ
لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) العنكبوت , و إذا كان أمر الفتن واقعا لا محالة , فإن الاستعداد لها بالعلم
و العمل مطلب شرعي ملح , بالعلم حتى يعرف المسلم صور الفتن و أبوابها لئلا يسقط
فيها مع المبادرة بالعمل الصالح قبل أن تغشى الفتن , قال عليه الصلاة والسلام في حديث
أبي هريرة الذي مر معنا : ( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَ
يُمْسِى كَافِرًا ، أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَ يُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ) مسلم , أي
بادروا بالأعمال الصالحة , و إن هذه الفتن و البلايا إنما هي في الحقيقة امتحان من الله
لعباده ، ففي الضراء و المحن , و مع الشهوات و الشبهات تمتحن معادن القلوب
فيتكشف للجميع القلوب المؤمنة من القلوب المريضة , و لذا عقب الله تعالى آية
اليلاء بقوله : ( وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ) العنكبوت .
و إن هذه الفتن المتنوعة قد جعل لها أسباباً , فوجود السبب مؤذنٌ بوجود الفتنة , و
سبب كثير من هذه الفتن هو مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم , قال تعالى :
( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النور ,
أيها المؤمنون , إن من علامات السعادة و أسباب الفلاح أن يسلم العبد من الفتن ، و من
نجا من الفتنة في زمانها فقد نجا من عظيمه ، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن السعيد لمن جنب الفتن ، إن السعيد
لمن جنب الفتن ، إن السعيد لمن جنب الفتن ، و لمن ابتلي فصبر فواها ) أبو داود وصححه
الألباني , و إنَّ علينا أن نكثِرَ من التَّعَوُّذِ بالله تعالى من الفتن ، أُسْوَةً بالنبي صلى الله عليه و
سلم ، فقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام في صلاته : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ
وَ تَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَ حُبَّ الْمَسَاكِينِ , وَ إِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُون )
أحمد و الترمذي ، و قال صلى الله عليه و سلم : ( تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا
بَطَنَ ) مسلم , فالفتن إذا أتت لا تصيبُ الظالمَ وحده ، و إنما تُصيبُ الجميع , قال تعالى :
( وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الانفال .
نسأل الله جل و علا أن يحفظنا بحفظه و يكلأنا برعايته ، و يعصمنا من شرور المحن ،
و يميتنا على السنن , هذا و صلوا و سلموا على نبي الهدى والرحمة , فقد أمركم الله
تعالى بذلك فقال : ( إِنَّ اللَّهَ وَ مَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) الأحزاب ..