أشد الظلم ظلم ذوي القربى

ياراا

:: مسافر ::
15 يناير 2019
992
3
0
41
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين , قال تعالى : ( وَ لَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَ
الأَرْضِ وَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) الجاثية , و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , أمر بالعدل و نهى عن
الظلم ، و حرمه على نفسه و جعله محرما بين عباده ، و وعد بالانتصار للمظلوم و لو بعد حين ، و أشهد
أن محمدا عبده و رسوله , حرّج على أمته حق الضعيفين ، المرأة و اليتيم , وذلك لعجزهما عن الانتصار
ممن ظلمهما ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه و أجمعين , ثم أما بعد : فاتقوا الله
تعالى و أطيعوه ، و استمسكوا بدينكم و الزموا شريعة ربكم و هدي نبيكم عليه الصلاة و السلام ، و
أنصفوا من أنفسكم ، و أقروا بالحق الذي عليكم ، و لا تطلموا غيركم ، و لا سيما الضعفاء منكم , فإن
الظلم ظلمات يوم القيامة ، و دعوة المظلوم مستجابة ، ليس بينها و بين الله تعالى حجاب ..

و إن أشد الظلم ظلم ذوي القربى , و إن هذا الظلم ليتخذ صوراً شتى و أنواعاً مختلفة ، و من أعظم هذه
الأنواع خطراً ظلم الإنسان لمن جعل الله تعالى ولايته في يده , كظلم الوصي للأرملة و اليتيم ، و كظلم
الزوج للزوجة و الأولاد , و سنتعرض اليوم لظلم الولي لموليته في النكاح ، فقد فشا هذا النوع من الظلم
في بعض أوساط المجتمع , فخطره يشتد و يتعاظم ..

و لقد جعل الله سبحانه و تعالى ولاية النكاح في يد الوالد أو الإبن أو الأخ , او أي قريب ذكر آخر له ولاية
على امرأة , و جعل الله هذه الولاية بيد الرجل لأنه أوفر عقلاً و أكثر حزماً و أبعد نظراً عند اختيار الزوج , و
هذا الولي قد لا يقوم بواجبه الذي أوجبه الله عليه إذا عضل موليته من النكاح , أي منعها , أو زوجها بغير
الكفء ، إذ هو بفعله هذا يخالف وصية رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما قال : ( استوصوا بالنساء )
البخاري , و قال أيضا : ( اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم و المرأة ) أحمد و ابن ماجه و أسناده صحيح .

و زواج المرأة حق من حقوقها لا يحل لوليها أن يمنعها منه ، و لا أن يرد الخطاب المتقدمين الأكفاء عنها ،
و إلا كان عاضلا لها ، و عضل المرأة ظلم نهى الله تعالى عنه في القرآن ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) النساء , و قال تعالى : ( فَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة ، رَوَى البخاريُّ عن مَعقِل بن يَسَار رضي
الله عنه قال : ( زوَّجت أختًا لي من رجلٍ ، فطلَّقها حتى إذا انقَضَت عدَّتُها ، جاء يَخطُبُها ، فقلتُ له : زوَّجتُك
و أَفرَشتُك و أكرمتُك فطلَّقتَها ، ثم جئتَ تَخطُبها ! لا و الله لا تَعُود إليك أبدًا، و كان رجلاً لا بأسَ به ، و
كانت المرأةُ تُرِيد أن تَرجِع إليه ، فأنزل الله هذه الآيةَ : ( فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ) ، فقلتُ : الآن أفعلُ يا رسولَ اللهِ ، قال : فزوجها إيَّاه ) البخاري .

و غالبا لا يعضل الرجل موليته إلا لمصلحة خاصة به يرجوها من عضلها و لو كان في ذلك ظلم لها ,
و لقد حذر الله تعالى الأولياء و الأوصياء على اليتيمات من استغلال هذا الضعف لصالحهم ، فيحبسونهن
لأنفسهم أو لأولادهم إن كن جميلات أو ذوات أموال ، و لا يعطونهن حقهن من الصداق ، فقال تعالى :
( وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَ ثُلَاثَ وَ رُبَاعَ ) النساء , قالت
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ( هِيَ اليَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَ جَمَالُهَا، فَيُرِيدُ
وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ
يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ ، وَ أُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ )
متفق عليه . و في رواية لمسلم قَالَتْ عائشة رضي الله عنها : ( أُنْزِلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْيَتِيمَةُ وَ هُوَ
وَلِيُّهَا وَ وَارِثُهَا ، وَ لَهَا مَالٌ وَ لَيْسَ لَهَا أَحَدٌ يُخَاصِمُ دُونَهَا ، فَلَا يُنْكِحُهَا لِمَالِهَا فَيَضُرُّ بِهَا وَ يُسِيءُ صُحْبَتَهَا ) .
و لربما عضلها و هو لا يريدها , و لكن يريد مالها ، كما روت عَائِشَةُ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ تعالى : ( وَ مَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) النساء ,
قَالَتْ : ( أُنْزِلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ ، تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَ يَكْرَهُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ ، فَيَعْضِلُهَا فَلَا يَتَزَوَّجُهَا وَ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرَهُ ) متفق عليه ..

أيها المؤمنون , إن أسباب تزويج المرأة بغير الكفء أو منعها من الزواج بالكفء عديدة , منها : النعرة القبلية
و العصبية الجاهلية ، فالحبيب يقول : ( إذا أتاكم من ترضون خلقه و دينه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في
الأرض و فساد عريض ) الترمذي و ابن ماجه , فقد يرد الخاطب لقبيلته أو طبقته الإجتماعية أو ضعف
وظيفته , و ما علم هؤلاء أن أشرف العرب زوجوا بلالاً رضي الله عنه مؤذن رسول الله و هو عبد حبشي ،
و زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج القرشية ذات النسب و الحسب
زينب بنت جحش رضي الله عنها , و النبي عليه الصلاة و السلام يقول عن هذه العصبية التي تفرق و لا
تجمع , و تضر و لا تنفع : ( دعوها فإنها منتنه ) البخاري ..

و من الأسباب أيضا ما يتعلق بالمال , و قد تبين في الآيات السابقة و الحديث السابق أن المال أهم
سبب لعضل الفتاة و منعها من الزواج ، و من صوره المنتشرة في عصرنا هذا أن يعضل الأب ابنته ، أو
الأخ أخته ، لأجل ما تكتسبه من مال إن كانت عاملة ، أو لأن اسمها مسجل في الضمان الاجتماعي و
يُسقط منه إن تزوجت ، فلما صارت مصدر دخل للأسرة قد اعتاد عليه الولي عسر عليه أن يزوجها
فيفقده , و من الأولياء من يزوجها بشرط أن تبذل له راتب وظيفتها أو جزءًا منه على الدوام ..

و من الأسباب أيضا , أن يمنع الولي المرأة من النكاح استغلالاً لها في خدمة البيت و أهله ..
و من الأسباب أيضا حبسها على أولادها , فيعضلها وليها بحجة أولادها , أو لئلا يقال إنها تريد الرجال ،
فتمنع حقها بسبب ذلك ، و هي حين طلبت النكاح أعلم بحاجتها من غيرها .

و من الأسباب أيضا لمنع الفتاة من الزواج , حجة إكمال الفتاة تعليمها الثانوي أو الجامعي ، فترى الوالدين
يحبان أن يفخرا في المجتمع بذكر ابنتهما الحاصلة على الدرجات العلمية العالية , ثم يفوتها ركب الزواج
فتملأ الحسرة قلب الأبوين و قلبـها ، و يندم الجميع حين لا ينفع الندم ..

أيها المؤمنون , إن العضلَ و تحجيرَ المرأة و إجبارَها على الزواجِ بمن لا ترضاه ، و عدمَ استئمارِها أو أخذِ
إذنِها , من العاداتِ الجاهليةِ التي أَبطَلها الإسلامُ ، و جاء بالنهيِ عنها و التهديدِ و الوعيدِ الشديدِ على
المصرِّين عليها ، كما جاء الوعيدُ الشديدُ في حقِّ المخالفينَ لأمر الله تعالى و أمر رسولِه صلى الله عليه
و سلم في قول الله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
النور , و قوله تعالى : ( وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ ) الحشر ..

و العضل قد يقع من الزوج ، فيحبس زوجته في عصمته و هو لا يريدها ، أو يكون عاجزا عن أداء حقوقها ،
و يريد بعضلها مضارتها أو يمسكها لتخلع نفسها بمال تبذله له ، فيؤذيها و لا يحسن عشرتها ، و لا يعطيها
حقوقها ، حتى ترد عليه مهره أو بعضه لتتخلص من عذابه ، و هذه دناءة لا يفعلها إلا أراذل الناس ، فنهى
الله تعالى الأزواج عن ذلك تكريما للمرأة و رعاية لحقوقها , فقال تعالى : ( وَ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ
مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَ يَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) النساء ..

و من جهة أخرى , فإن الإحسان إلى البنات و خوف الله تعالى فيهن باب إلى الجنة , عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو
ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن و اتقى الله فيهن فله الجنة ) التـرمذي , و صححه الألباني ، و في
رواية أبي داود : ( مَنْ عَالَ ثَلاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَ زَوَّجَهُنَّ وَ أَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ ) و صححه الألباني ..
بل و جاء الحديث في الواحدة , فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ :
( مَنْ كَانَ لَهُ ثَلاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَى لأْوَائِهِنَّ وَ ضَرَّائِهِنَّ وَ سَرَّائِهِنَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُنَّ ,
فَقَالَ رَجُلٌ أَوْ ثِنْتَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ أَوْ ثِنْتَانِ , فَقَالَ رَجُلٌ أَوْ وَاحِدَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَوْ وَاحِدَةٌ )
أحمد و الحاكم , و صححه أحمد شاكر في المسند ..
و عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( لا تُكْرِهُوا الْبَنَاتِ فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ
الْغَالِيَاتُ ) أحمد , و صححه الألباني ..

و من أراد أن يحشر مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم القيامة , و يدخل معه الجنة فليسمع ما يرويه
أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم
القيامة أنا و هو , و ضم أصابعه ) مسلم و الترمذي , و لفظ الترمذي : ( دخلت أنا و هو الجنة كهاتين ،
و أشار بإصبعيه ) ..

و قد ذَكَر أهلُ العلمِ رحمهم الله أن الولِيَّ إذا امتَنَع من تزويجِ مُوَلِّيتَه بكفْءٍ رَضِيته سَقَطتْ ولايتُه ، و
انتَقَلت لمن بعده , الأحق فالأحق ، أو انتَقَلت إلى السلطانِ , لعمومِ حديثِ : ( فَإِن اشتَجَروا فالسلطانُ
وَلِيُّ مَن لا وَلِيَّ له ) الترمذيُّ من حديث عائشة رضي الله عنها و قال حديث حسن ..

فاحذروا عباد الله ظلم النساء و عضل الفتيات , فإن الله تعالى قد نهى عن ذلك نهيا شديدا ، و كرره
في كتابه الكريم , لأنه سبحانه عدل لا يحب الظلم و لا الظالمين : ( وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) الشُّورى , و اتقوا الله تعالى و أطيعوه , ( وَ اتَّقُوا يَوْمًا
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) البقرة ..