الإسراف و التبذير في نعم الله تعالى

ياراا

:: مسافر ::
15 يناير 2019
992
3
0
41
الحمدلله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد , و هو على كل شيء قدير , و الصلاة و السلام على
تبينا محمد , و على آله و أصحابه و أزواجه أجمعين , ثم أما بعد , فيا أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى حق
التقوى , ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون ) آل عمران .

أيها المؤمنون , إن لله على عباده نعماًً عظيمة و آلاء جسيمة ، و على العبد أن يتأمّل فيها تأملا يدعوه
إلى شكرها و القيام بحقها و الثناء على منعمها و محبته و استعمال تلك النعم فيما يقربه إلى الله , و
إن المصيبة تكمن في تجاهل تلك النعم و الغفلة عنها , و تعظم المصيبة في احتقارها و ازدرائها و عدم
المبالاة بها ، فعياذاً بالله تعالى من ذلك , قال تعالى : ( وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِن
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ابراهيم ..
نعم عظيمة لا نستطيع عدها و لا إحصاءها ، كيف نستطيع و ما لحظة من لحظات حياتنا إلا و لله تعالى
علينا فيها نعمة ؟ فهي نعم نعجز عن عدها و استقصائها ، و صدق الله تعالى حين قال : ( وَ إِن تَعُدُّواْ
نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) النحل , فنعم الله تعالى علينا عظيمة كثيرة جداً ، لكن المؤمن
الحق دائم الشكر لله ، دائم الثناء على الله ، يشكر الله تعالى بقلبه و لسانه و جوارحه ، فقلبه ممتلئ
بالإيمان ، على يقين أن هذه النعم فضل من الله تعالى ساقها الله له ، ليس له فيها جهد و لا قوة ،
و لكنه تفضُّل من رب العالمين ، جعل لها أسبابًا ، و وفقنا جميعا للأخذ بها ليتحقق لك ما أراد الله من
ذلك ، جاء في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : ( إن الله ليرضى عن العبد أن
يأكل الأكلة فيحمده عليها ، و يشرب الشربة فيحمده عليها ) مسلم ,
و قد ذكَّر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بنعمه ليقوم بشكرها , قال تعالى : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً
فَآوَىٰ , وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ , وَ وَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ , فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهرْ , وَ أَمَّا ٱلسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ,
وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ ) الضحى .

أيها المؤمنون , لقد انتشرت في الآونة الأخيرة مقاطع فيديو تظهر أهل هذه البلاد المباركة و هم
يسرفون و يبذرون في النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم , قال تعالى : ( وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ
وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) ابراهيم , أي كثير الظلم لنفسه بالمعصية و
الكفر لنعمة ربه , فمنهم من ظهر و هو يغسل يديه بعد الأكل بدهن العود الفاخر , و منهم من يضع
النقود في دلة القهوة بدلا من البن و الهيل , و منهم من يمتخط بأوراق النقود , و منهم من يرمي
كيس الهيل بما فيه و ينثره دون احترام لهذه النعمة . و منهم من يرمي بقايا الطعام الفائض في
صناديق النفايات دون احترام لنعمة , و دون خوف من الباري سبحانه , و من أعجب ما رأينا أن يتظاهر
مسلم بذبح ولده , ثم يغسل بالدم النازف أيدي ضيوفه . فتذكر نعم الله عليك أيها المسلم ، أنعم الله
تعالى عليك بالعقل ، و منحك العقل لتدرك به النافع و الضار ، و تسخره فيما يقربك إلى الله ، و هذا
العقل نعمة أنعم الله بها عليك ، تميزتَ به عن سائر المخلوقات ، أنعم الله عليك بنعمة السمع فتسمع
و بنعمة البصر فترى ، و سيسألك عن هذه الحياة و ما فيها من النعم , قال تعالى : ( إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَ
ٱلْبَصَرَ وَ ٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا ) الإسراء .

أيها المؤمنون , و مع كل هذا التفاخر الكاذب المذموم و الهياط , نرى مدى احتقار نعم الله تعالى علينا
بينما نرى إخواننا المسلمين يعانون الجوع و الأمراض و التشرد و التغرب عن ديارهم , نراهم يبحثون
عن الطعام و لو في صناديق النفايات إن وجدوا شيئا ..
و لقد كان من الواجب على هؤلاء المسرفين المهينين المحتقرين لنعم الله , شكر الله تعالى و حمده
و الثناء عليه , بدلا من البطر و الرياء و التفاخر بهذه النعم , و كأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى : ( يا بَنِي
آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الأعراف , و
الإسراف هو تجاوز الحد المتعارف عليه , و هذا نهي من الله تعالى عن الإسراف في كل شيء , في
الأكل و الشرب و اللباس , حتى في المياه التي نستخدمها للغسيل و بقية المنافع , بل و في التيار
الكهربائي , و الاقتصاد في استخدام الأجهزة الكهربائية المتنوعة ..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما : ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَ هُوَ
يَتَوَضَّأُ فَقَالَ : مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَ إِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ
جَارٍ ) أحمد و ابن ماجة , قال الشيخ أحمد شاكر : إسناده صحيح ، و حسنه الألباني .

و قد رأينا غضب أهل العقول السليمة من تصرفات هؤلاء الحمقى الذين يصورون أنفسهم في تلك
المقاطع , و يظهرون فيها و هم في بذخ و إسراف و إهانة و احتقار لنعم الله تعالى عليهم , و كان
الأجدر بهم أن يتصدقوا على الفقراء و المساكين , و يذهبوا إلى أماكن هؤلاء الفقراء في الأحياء و القرى
الفقيرة و يتصدقوا و لو بجزء يسير مما لديهم من نعم الله تعالى , قال تعالى : ( قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَ لَا خِلَالٌ )
ابراهيم , و قال تعالى : ( وَ أَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَ أَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ ) البقرة , و قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ
فِيهِ وَ لَا خُلَّةٌ وَ لَا شَفَاعَةٌ وَ الْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ ) البقرة , و قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) البقرة , و قال تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ
اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَ مَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) التغابن ..
و كل هذه الآيات الكريمة و غيرها تدعو إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى , و عدم الإسراف و التبذير
و الشح و البخل , بل ورد في بعض الآيات أن الله تعالى يبارك للمنفقين و يخلف لهم , قال تعالى :
( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ ) سبأ , أي يخلفه في الدنيا بالبدل ، و في الآخرة بالجزاء و الثواب ..

و أما الأحاديث الشريفة , فعن عدي بن حاتم رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال :
( اتقوا النار و لو بشق تمرة ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ , و عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه
و سلم قال : ( قال اللَّه تعالى : أنفق يا ابن آدم ينفق عليك ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ , و عنه أيضا قال ، قال
رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما ,
اللهم أعط منفقاً خلفاً ، و يقول الآخر , اللهم أعط ممسكاً تلفا ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ , و عن عبد اللَّه بن عمرو
بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما : ( أن رجلاً سأل رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : أي الإسلام خير ؟ قال :
تطعم الطعام ، و تقرأ السلام على من عرفت و من لم تعرف ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ..

فيجب علينا أيها المؤمنون أن نؤدي شكر نعم الله تعالى كما يجب , و أن نتجنب الإسراف و التبذير
و المباهاة في ذلك , و أن نتجنب أيضا الشح و البخل , كما و يجب علينا أن نكون عونا لقيادتنا
الرشيدة و لوطننا الحبيب في اتباع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف في هذا الجانب المهم و غيره
من الجوانب , و يجب علينا أيضا عدم تداول مثل هذه المقاطع التي تدعو إلى الإسراف و التبذير
و المباهاة خصوصا و ان بلدانا كثيرة من حولنا تعاني من الفقر و العوز و الفاقة و الحاجة ..

و يجب علينا أيضا الأخذ على أيدي هؤلاء العابثين بنعم الله سبحانه علينا و على هذه البلاد المباركة
و ألا ننشر مقاطعهم , و أن نبلغ عنهم الجهات المختصة لينالوا الجزاء المستحق الرادع لهم ,
و لنتأمل في قول الله تعالى : ( وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) النحل .
بل أخبر تعالى أنه من فضله لا يزيل النعم عن عباده حتى يكون العباد هم السبب في ذلك ، قال
تعالى : ( ذلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الأنفال .
فعياذاً بالله من زوال نعمته ، و من تحول عافيته ، و من فجاءة نقمته ، فهو أرحم الراحمين ، لو أخذ
العباد بذنوبهم لما أبقى على وجهها أحداً ، قال تعالى : ( وَ لَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ
عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ ) النحل ، و لكن رحمته سبقت غضبه ، و حلمه سبق عقوبته ، فهو أرحم الراحمين
و أكرم الأكرمين سبحانه ..
هذا و صلوا رحمكم الله على عبد الله و رسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم , قال تعالى :
( إِنَّ ٱللَّهَ وَ مَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَ سَلّمُواْ تَسْلِيماً ) الأحزاب .
اللهم صلِّ و سلم و بارك على عبدك و رسولك محمد بن عبدالله و على آله و صحبه أجمعين ..