مشروع إحياء 354 سنة نبوية

ياراا

:: مسافر ::
15 يناير 2019
992
3
0
41
151) سُنَّة إيقاظ الأهل للقيام
من أكثر العوامل التي تؤدي إلى فتور العبد عن العبادة انفراده بها دون عونٍ أو مشاركة من أحد؛ ذلك لأن الشيطان يكون عليه أقوى؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ: ".. وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ..".

لهذا رَغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاجتماع على الطاعة والعبادة، وأولى الناس بالاجتماع هم أهل البيت الواحد، فكانت هذه السُّنَّة؛ وهي سُنَّة إيقاظ الأهل للمشاركة في صلاة قيام الليل؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: حسن صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ، نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى، نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ".
فالمواظبة على قيام الليل أمر شاقٌّ، وللشيطان استعدادات كبيرة لمنع المسلم عنه، وذكر لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ..".
فتظهر هنا أهمية التعاون على حرب هذا الشيطان، ثم إن الله عز وجل وعد الذين يُواظبون على هذه السُّنَّة أجرًا عظيمًا؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عن أَبِي سَعِيدٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا، أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ". وقد وَعَدَ الله عز وجل الذاكرين والذاكرات بالمغفرة والأجر العظيم؛ فقال: {.. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

فلْيتَّفق كل زوج وزوجة على ذلك الأمر، ولْيحرص كل واحد منهما على إيقاظ الآخر لقيام الليل، ولْيتخيَّلا اسميهما وقد كُتِبَا عند الله تعالى في سجلِّ الذاكرين والذاكرات!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

152) سُنَّة عدم تخطي الرقاب في صلاة الجمعة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يجلس في صلاة الجمعة مُنْصِتًا مُنْتبهًا؛ لكي يستفيد من كل كلمة يقولها الإمام في خطبته؛ لذلك كان يمنع كلَّ ما يمكن أن يُعَكِّر صفو هذا الإنصات، ومن ذلك أنه كان يمنع المسلمين من تخطِّي رقاب إخوانهم كي يتقدَّمُوا إلى الصفوف الأولى؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه صَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ".
وهذا الإيذاء له وجوه أخرى كذلك غير الإلهاء عن السماع؛ فهو يُسَبِّب الضيق للجالسين عندما يرفع أحدهم قدمه فوق مستوى كتفه، وهو كذلك يُضَيِّع على القادمين مبكِّرًا أجرَ الصفوف الأولى، والعلاج الأمثل لهذه المشكلة يتمثَّل في أن يحرص المـُبَكِّرون بالقدوم على ملء الصفوف الأولى أولاً بأول، فلا يتركون فُرْجَة بينهم؛ وذلك حتى يستوعب المسجد جموع المـُصَلِّين، فلا يضطر أحدهم إلى مخالفة السُّنَّة بتخطِّي الرقاب.
ولا يفوتنا أن ننبِّه المسلمين إلى سُنَّة التبكير إلى صلاة الجمعة ، فيَكْثُر أجْرُنا، ونحفظ أنفسنا من هذه المخالفات، وما أروع أن نُنصت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُقَدِّم لنا نصائح غالية تُعِينُنا على تحقيق المغفرة في هذا اليوم العظيم! فقد روى البخاري عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى".
ولعلَّنا نلحظ من بين النصائح ألا يُفَرِّق المسلم بين اثنين في الصلاة، وهذا يكون بعدم تخطِّي الرقاب.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

153) سُنَّة إهداء الطعام للجيران
يحضُّ الإسلام أتباعه على التلاحم والترابط والشعور بالآخرين؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوصي دومًا بالجيران، فهم أقرب الناس إلينا، ولو فقدنا الاهتمام بهم فهذه مُقَدِّمة لفقد الاهتمام بكلِّ المسلمين، وقد أكثر جبريل عليه السلام من وصاية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيران؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ".
ونتيجة هذه الوصاية شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا من السنن نُعَبِّر بها عن اهتمامنا بجيراننا، فكان منها إهداء الطعام لهم، وليس المقصد في هذه السُّنَّة صناعة طعام خاصٍّ للجيران، ولكن فقط إهداؤهم من الطعام الذي تأكله الأسرة، ولا مانع من زيادة الكمية قليلاً حتى يمكن إهداء الجيران ولو شيئًا بسيطًا، ولقد وَجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحة خاصَّة بهذا الشأن للمرأة المسلمة؛ فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ". وفرسن الشاة هو ما دون الرسغ من يدها، وقيل هو عظم قليل اللحم؛ والمقصود المبالغة في الحثِّ على الإهداء، ثم وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحة أخرى للرجال؛ ففي رواية مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم أَوْصَانِي: "إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ".
فهكذا صارت النصيحة للأسرة كلها؛ فهذه سُنَّة جليلة تنشر المحبَّة والودَّ في أركان المجتمع، مع الحرص على عدم التكلُّف في الطعام بإرسال كمية كبيرة قد يعجز الجار عن المبادلة بمثلها فيحزن لذلك.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

154) سُنَّة إعلان التمسُّك بفطرة الإسلام
يُولَد كل مولود على الفطرة؛ فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ".
والفطرة المقصودة هي الطبيعة الخاصة التي تدفع صاحبها إلى الدين الحقِّ، وإلى توحيد الله عز وجل، وإلى حبِّ الخير، وبُغض الشرِّ، وهذه الفطرة السليمة مزروعة في كل مولود من البشر؛ ولكن العوامل التربوية والبيئية هي التي تُغَيِّر من هذه الفطرة فتنحرف بها عن جادَّة الصواب، ووظيفة المسلم أن يظلَّ على الفطرة السليمة إلى آخر عمره؛ لأنَّ مَنْ مات عليها مات مُوَحِّدًا، وبالتالي دخل الجنة، وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّة جميلة نُعْلِن بها كل يوم أننا ما زلنا على الفطرة السليمة، وما زلنا مُوَحِّدين بالله، وما زلنا كذلك متمسِّكين بطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء ومنهجهم؛ فقد روى النسائي -وقال الألباني: حسن- عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: "أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلاَمِ، وَكَلِمَةِ الإِخْلاَصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".
وهذه الرواية تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول هذه الكلمات في الصباح، ولكن في رواية أخرى عند أحمد -بسند حسن- أيضًا عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ، وَإِذَا أَمْسَى..". فذكر أن الكلمات تقال في الصباح والمساء، وهي تُقال مرَّة واحدة، وفيها الإعلان الصريح أننا على فطرة الإسلام السليمة، وعلى كلمة الإخلاص التي هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله. وأننا مُتَّبِعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبينا أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو صاحب المنهج الحنيف؛ أي المائل عن الباطل.
إنه إعلان رائع، وشهادة عظيمة، نسأل اللهَ أن نلقاه عليها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

155) سُنَّة الحمد عند رؤية صاحبِ بلاء
كلُّ الناس مُبتلى! فقد قال الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، والبلاءات أنواع، والله عز وجل يختار لكل إنسان ما يُناسبه من البلاء ليختبره به، فهو يعلم طاقات كلٍّ منَّا وقدراته، ولقد عَلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأينا صاحبَ بلاء سُنَّةً جميلة نحقِّق بها فائدتين عظيمتين؛ وهي سُنَّة حمد الله عند رؤية المبتلى؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ رَأَى صَاحِبَ بَلاَءٍ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً. إِلاَّ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ البَلاَءِ كَائِنًا مَا كَانَ مَا عَاشَ".
فأما الفائدة الأولى؛ فهي الاعتراف بنعم الله عز وجل علينا، والذي عافانا من هذا البلاء، وهذه فائدة عظيمة؛ لأننا حين نُبْتَلى بمرض، أو فقر، أو فَقْدِ حبيب، نظنُّ أننا أشدُّ الناس معاناة، وقد يدفعنا هذا إلى ازدراء نعمة الله علينا، فلا ننظر إلى ما فَضَّلنا اللهُ به على غيرنا، فنحن بهذا الحمد نُعْلِن أننا راضون بما وهبه الله لنا، ومدركون لنعمته علينا.
وأمَّا الفائدة الثانية؛ فهي الوقاية من هذا البلاء، وذلك كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، وجدير بالذكر أننا ينبغي ألا نُشْعِر صاحب البلاء بكلماتنا حتى لا يضجر من بلواه، أو يشعر بالحرج أو الألم، فلْيكن حمدنا خافتًا، ولنأخذ بيد المبتلى دون أن نُؤذيه.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

156) سُنَّة عدم قول لو
كثيرًا ما يشعر الإنسان بالندم لفوات فرصة من فرص الحياة، أو يتمنَّى أن لو كان قد اختار اختيارًا آخر، وفي معظم الأحوال تكون فرصة تغيير الحال صعبة أو مستحيلة، فعجلة الزمان لا تعود إلى الوراء، وهذا قد يُورِث المرء همًّا وكمدًا؛ بل يمكن أن يُقْعِده عن العمل يأسًا وإحباطًا، والواقع أن هذه حالة سلبية لا يحبُّها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين؛ ومن ثَمَّ كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم ألا يتحسَّر على الماضي، وكان يأمر المسلم بألا ينظر إلى الوراء نادمًا؛ فهذه صورة من صور الضعف غير المقبول؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".
فهذا نهيٌ مباشر عن قول: "لو"، فهي لا تُعِيد الماضي أبدًا؛ بل إنها تصرف الذهن عن "الممكن"؛ إنما الواجب على المسلم القوي أن يتعامل مع الحدث بواقعية، ولْيَقُمْ بما أَمَرَه به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
فقد أمره أولاً بالأخذ بالأسباب العمليَّة النافعة: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ".
وأمره ثانيًا بأن يلجأ إلى الله ويستعين به: "وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ".
ثم أمره ثالثًا أن يُعْلِن إيمانه بقَدَرِ الله ومشيئته: "قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ".
ثم أمره رابعًا وأخيرًا ألا يقول: لو. أو يفترض افتراضات غير واقعية: "فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا".
فهذه هي سُنَّته صلى الله عليه وسلم عندما تحدث أمورٌ ليست على هوانا، وهي سُنَّة المؤمن القوي.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

157) سُنَّة التلطُّف مع الزوجة
كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحسِن عشرة زوجاته، وأن يربط خير المؤمن بقدرته على تقديم الخير لأهله؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي".
وكانت له لمسات رقيقة كثيرة في حياته صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وصارت كل هذه اللمسات سُننًا نبوية جميلة، وعلى المسلمين أن يُمارسوها ويعتادوا عليها؛ فمنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعمَّد أن يشرب أو يأكل من الموضع الذي شربت زوجتُه منه أو أكلت؛ فقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ". والعَرْقُ هو العظم الذي عليه بقية من لحم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من موضع فم عائشة رضي الله عنها ليتلطَّف معها، خاصَّة في وقت الحيض؛ الذي قد تتأثَّر فيه نفسية الزوجة بانعزال الزوج عنها.
ومن اللمسات النبوية -أيضًا- أنه كان يعتبر أي تلطُّف مع الزوجة عملَ خيرٍ يُؤجَر عليه المرء؛ فقد روى البخاري عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ".. وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ".
ومن لمساته صلى الله عليه وسلم كذلك أنه كان يختار لزوجته اسمَ تدليلٍ ليتلطَّف به معها؛ فقد روى البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشُ؛ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ".
فهذه بعض الأمثلة النبوية، وعلينا أن نقتدي بها، وأن نبتكر كذلك ما يُناسب من طرقٍ لنُظهر حبَّنا وتلطُّفنا لأزواجنا؛ فبذلك تسعد بيوتنا في الدنيا، ويزيد أجرنا في الآخرة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

158) سُنَّة التلبينة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على الحفاظ على صحَّة المسلم البدنيَّة والنفسيَّة، وكان كثيرًا ما يأمر المرضى أن يذهبوا إلى الأطباء حتى يجدوا عندهم ما يدفع المرض عنهم؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُبَيٍّ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا".
ومع ذلك فقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأدوية النافعة، ولم يكن ذلك إلا عن طريق الوحي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن يمارس الطب؛ ولذلك فيقيننا فيما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من علاج يقينٌ جازم، ويُصبح سُنَّة من سننه صلى الله عليه وسلم؛ ومن هذه السنن التلبينة، ولها دور في علاج الحالة النفسية للمريض؛ فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ المَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا، فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلاَّ أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ المَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الحُزْنِ".
وفي رواية أخرى للبخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الهَالِكِ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ المَرِيضِ، وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الحُزْنِ".
فالتلبينة تَجُمُّ القلب؛ أي تُسَرِّي عنه، وترفع عنه شيئًا من الحزن، والتلبينة عبارة عن حساءٍ يُعمل من دَقِيق، أوْ من نُخالة، وسُمِّيَت بذلك لأنها تُشْبِه اللبن لبياضها ورقَّتها، وشرح طريقة عملها متوفِّر على صفحات الإنترنت.
وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينَةِ وَتَقُولُ: "هُوَ البَغِيضُ النَّافِعُ". وأطلقت عائشة رضي الله عنها على التلبينة لفظ البغيض لأنها ليست حلوة الطعم؛ لذلك أضافتها على الثريد، وقد يُضيف بعضهم عسلاً عليها، وعلى العموم فلا بُدَّ لآكل التلبينة أن يكون مطمئنًا إلى فائدتها؛ لأن الأحاديث الخاصة بها كلها في الصحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

159) سُنَّة عدم لعن العصاة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنَّ كلَّ البشر يُذنبون، وأنَّ القضية التي ينبغي أن ننشغل بها هي قضية التوبة عندما يحدث الذنب؛ لهذا قال -فيما رواه الترمذي، وقال الألباني: حسن، عَنْ أنس رضي الله عنه-: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ".
لهذا لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المذنبين كأشرار يحتاجون المقاومة؛ إنما كمرضى يحتاجون العلاج؛ لهذا كان ينهى عن لعنهم أو إبعادهم عن دائرة المؤمنين؛ فقد روى البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ". وفي رواية لأبي يعلى الموصلي -بسند صحيح- قَالَ: "لاَ تَلْعَنُوهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ". فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لعنه، وأخبر أن الرجل يحبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس شربه للخمر مانعًا له من هذا الحبِّ؛ وهذا أمر يستغربه كثير من الناس؛ لأن شرب الخمر كبيرة خطيرة، وقد روى النسائي -وقال الألباني: صحيح- عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي فَيَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَلاَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا".
ومع ذلك ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن لعن الرجل، ويُثْبِت له حبَّ اللهِ ورسوله، والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُريد أن يُعِين الشيطانَ على المسلم ولو كان عاصيًا؛ وقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ. فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ".
فالرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يُفَرِّط في إقامة الحدِّ على المخطئ؛ فإنه لا يُريد أن يُبْعِده عن دائرة المؤمنين؛ لأن لعنه وطرده سيبعث به إلى صحبة الأشقياء والمجرمين؛ أمَّا استيعابه في الصفِّ المسلم فسيكون سببًا في توبته وإنابته.
فلْنَكُفَّ ألسنتنا عن أعراض المذنبين؛ فلعلَّ قلوبهم تحبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولْنحرص على دعوتهم إلى الخير.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

160) سُنَّة نفع الناس
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ العبد النافع للناس، والنافع للأرض، وكان يمدحه ويُثني عليه؛ وذلك إلى الدرجة التي جعله فيها أحبَّ الناس إلى الله؛ فقد روى الطبراني -وقال الألباني: حسن- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ..".
فصار نفعُ الناس بذلك سُنَّة نبوية رائعة، وضرب لنا أمثلة عدَّة لذلك في حياته صلى الله عليه وسلم، فحضَّ مثلاً على العلم بشرط أن يكون نافعًا، فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".
وضرب كذلك أمثلة أخرى جميلة يمكن أن ننفع بها الناس، ففي رواية الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلاَلِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ".
فهذه كلها صور راقية جدًّا لنفع الناس، وضرب أمثلة أخرى كثيرة؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ". قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا". قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: "تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ".
ونلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم لم يَسْتثنِ أحدًا من أداء سُنَّة نفع الناس، حتى لو كان هذا النفع هو مجرَّد إيقاف الضرر والشرِّ عن الناس! فما أعظم هذه السُّنَّة! وما أنفعها في الدنيا والآخرة!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

161) سُنَّة الصلاة في النعل
الإسلام دين اليسر؛ ومن ثَمَّ أراد لأتباعه أن يُؤَدُّوا ما فرض الله عليهم من عبادات بأيسر طريقة ممكنة، وأفضل ألوان التيسير هو الالتزام بسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ففيها الخير كلُّه، وكان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أنه كان يُصَلِّي في نعله؛ أي في حذائه، ولم يكن يتكلَّف أن يلبس نعلاً خاصًّا للصلاة، إنما كان يُصَلِّي في نعله الذي يمشي به في الطرقات؛ وذلك بشرط ألا يكون قد تعلَّق به قذر أو وسخ؛ علمًا بأن المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مفروشًا بالسجاد، إنما كانت أرضه الرمل والحصى، وقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ، قَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟" قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا -أَوْ قَالَ: أَذًى". وَقَالَ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا".
ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدف من الصلاة في النعال هو التيسير فقط؛ إنما قصد أيضًا مخالفة اليهود؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلاَ خِفَافِهِمْ".
وإذا كنا نصلي اليوم في مساجدنا حفاة أو بالجورب لوجود السجاد والحصير فيه، فإنه يمكن أن نُطَبِّق هذه السُّنَّة عند صلاتنا في الطرق، أو المتنزهات العامة، أو الأسواق؛ حيث يُصَلِّي الناس على الأرض دون سجاجيد، ولا نتكلَّف خلع النعل خارج المسجد.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

162) سُنن من رأى حُلْمًا يكرهه
كثيرًا ما يرى الناس أحلامًا مزعجة، أو ما يُسَمَّى بالكابوس، وقد تُؤَدِّي هذه الأحلام إلى الفزع أو التشاؤم، وهذه الأحلام يُحْدِثها الشيطان بُغْية إلقاء الحزن في قلب الإنسان، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عدد من السنن الجميلة التي تدفع هذا الحزن عنا، ويمكن جمع بعض هذه السنن من الروايتين الآتيتين؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا أُعْرَى مِنْهَا -أي أُصاب بالحمَّى- غَيْرَ أَنِّي لاَ أُزَمَّلُ -أي لا أُغَطَّى- حَتَّى لَقِيتُ أَبَا قَتَادَةَ رضي الله عنه فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاَثًا، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ".
والرواية الثانية عند مسلم أيضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالرُّؤْيَا ثَلاَثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ".
فهذه أربع سنن نبوية عند رؤية ما نكره في الأحلام: الأولى النفث عن اليسار ثلاثًا، والثانية التعوُّذ من شرِّ الحُلْم، والثالثة القيام للصلاة، والرابعة عدم تحديث الناس بها، فإذا فعلنا ذلك ذهب عنَّا الضرر والحزن بإذن الله.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

163) سُنَّة العمل
لا يعرف الإسلام ما يُسَمَّى بالبطالة، ولا يعرف أن يعتمد الرجل في رزقه على عطايا الناس ومِنحهم؛ بل يعرف الجد والعمل، ويعرف بذل الجهد والطاقة؛ لهذا كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعمل، وأن يأمر الناس بالعمل؛ فقد روى البخاري عَنِ المِقْدَامِ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ".
فأفضل الطعام -بناءً على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم- هو الطعام الذي اشتراه المرء من كسب يده، مع أن جودة الطعام المـُهْدَى أو المـُتَصَدَّق به قد تكون أعلى من ناحية النوع والطعم، ولكن خيرية الطعام من كسب اليد تعود إلى سعادة التعفُّف عن الناس التي تجعل الطعام أطيب، وذَكَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده؛ وسبب تخصيصه لداود عليه السلام أنه كان مَلِكًا، ومصادر رزقه كثيرة، ومع ذلك كان يحبُّ أن يأكل من كسب يده؛ بل جاء في رواية أخرى للبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ لاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ". وهذه الرواية تُفيد الحصر؛ بمعنى أنه حتى مع توفُّر مصادر الطعام الأخرى فإن النبي الملك داود عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده دلالة على خيريته وأفضليته.
وكان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر الرجال بالعمل مهما كان العمل بسيطًا، وليس بالضرورة أن يكون في مجال التخصُّص، أو في الوضع الذي يروق للإنسان، ولكن المهم فقط أن يكون حلالاً، وقد روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ".
بل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رعي الأغنام! فقد روى البخاري عَنْ أبو هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الغَنَمَ". فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ".
فهذا يفتح الباب أمام الجميع للعمل، ولا يتعلَّل أحدٌ بأنه ينتظر عملاً مناسبًا؛ فأسوأ الأمور أن يبقى المرء بلا عمل، ولا أفضل من اتباع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

164) سُنَّة الدعاء للمسلمين بظهر الغيب
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يكون حريصًا على إيصال الخير إلى إخوانه من المسلمين، وأن يكون هذا الشعور متجرِّدًا لله، ولا يتعلَّق بمصالح دنيويَّة أو مادِّيَّة؛ لهذا كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يحضَّ المسلم على الدعاء لأخيه بظهر الغيب، أي يدعو له وهو غائب غير حاضر؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلاَّ قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ". وفي رواية أخرى عند مسلم كذلك عن أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ".
فهذه صورة عجيبة يُشَجِّعنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدعاء للمسلمين؛ فالخير لن يصل إلى الأخ فقط؛ إنما سيناله الداعي كذلك؛ لأن الله الذي أرسل الملَكَ ليقول: "آمِينَ". أرسله وهو يُريد الإجابة، كما أن الملَكَ يقول بيقين: "وَلَكَ بِمِثْلٍ". وهذه مسألة لا يمكن أن يقطع بها الملَكَ بمفرده، إنما أخبره الله بتحقُّق الإجابة، فصار أداء هذه السُّنَّة الجميلة نافعًا للطرفين: الداعي والمدعو له؛ بل أكَّدت أم الدرداء رضي الله عنها لزوج ابنتها الدرداء، وهو عبد الله بن صفوان، أن هذه الدعوة مستجابة، فقد روى مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ صَفْوَانَ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ الدَّرْدَاءُ، قَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ، فَأَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه فِي مَنْزِلِهِ، فَلَمْ أَجِدْهُ وَوَجَدْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنها، فَقَالَتْ: أَتُرِيدُ الْحَجَّ الْعَامَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَادْعُ اللهَ لَنَا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ".
فلْنُطَبِّق هذه السُّنَّة الرائعة، ونراجع سجلَّ إخواننا وأصدقائنا، ولْنَدْعُ لكلِّ واحد منهم بما نتوقَّع أنه يحتاجه، وسيستجيب الله عز وجل لدعائنا؛ فيخرج أخواننا من أزماتهم، ويتحقَّق لنا من الخير مثل الذي دعونا به لهم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

165) سُنَّة سجدة التلاوة
كانت الجريمة الكبرى لإبليس أنه عصى اللهَ متعمِّدًا في أمر السجود، وكان الدافع الرئيس لعصيانه هو الكِبْر؛ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، ولأن السجود هو أعظم مظاهر الخضوع لله عز وجل فقد فَرَضَه سبحانه على عباده المؤمنين، فمَنْ فَعَلَه بحبٍّ وخشية كان دليلاً على إيمانه وتواضعه لله عز وجل، ومَنْ تردَّد فيه شابه إبليس في جريمته، وقد وَضَعَ اللهُ عز وجل في القرآن الكريم عدَّة مواضع للسجود، وكان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسجد عند هذه المواضع، وعُرِف هذا السجود بسجود التلاوة، ويعرف الشيطان أن نجاح ابن آدم في السجود يعني فشله هو -أي الشيطان- في إغوائه؛ ولهذا يحزن الشيطان كثيرًا عندما يرى مسلمًا حريصًا على أداء هذه السُّنَّة؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ -وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي- أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ".
فالحديث يُبَشِّر بأن الجزاء المباشر للسجود هو الجنة، وهذا أمر عظيم ينبغي لكلِّ مؤمن الاحتفال والاهتمام به؛ لذلك لم يكن يتخلَّف عن فعله أحدٌ من الصحابة قطُّ؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ".
أمَّا ما كان يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم في سجود التلاوة فهو مزيج من التعظيم للربِّ والتضرُّع له بالدعاء؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي سُجُودِ القُرْآنِ بِاللَّيْلِ: "سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ".
وروى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَةً، ثُمَّ سَجَدَ". فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ "يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ".
فهذه أذكاره صلى الله عليه وسلم في سجدة التلاوة، فلْنحفظها، ولْنُرَدِّدها، ولْنتخيَّل شكل الشيطان وهو يبكي لسجودنا؛ حتى نُقَدِّر العمل الكبير الذي نعمله.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

166) سُنَّة الإنصات إلى خطبة الجمعة
من أهمِّ أعمال يوم الجمعة الخطبة التي يُلقيها الإمام، فيَعِظ ويُذَكِّر، ويُعطي المسلمين جرعة إيمانية تكفيهم إلى الجمعة التالية؛ لذلك كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر المسلمين بالإنصات إلى هذه الخطبة، فلا يتكلم أحدٌ مع أحد، ولا ينصرف أحدٌ بذهنه بعيدًا عن تذكير الخطيب، ولا يقضي أحدٌ وقت الخطبة في نومٍ أو راحةٍ انتظارًا لإقامة الصلاة؛ وتشجيعًا لنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجر الإنصات إلى الخطيب هو مغفرة ذنوب عشرة أيام كاملة! فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا".
بَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن المطلوب من المؤمن ليس السماع فقط؛ بل الإنصات، وهو إرهاف السمع لتحصيل كل كلمة تخرج من فم الخطيب، وذَكَرَ أن مجرَّد لمس حصى الأرض للتشاغل بها وقطع الوقت يُعَدُّ لغوًا؛ بل إذا نَبَّه أحدُ المصلِّين أخاه إلى السكوت، ولو بأيسر الكلمات، فهذا أيضًا يُعَدُّ لغوًا؛ وذلك حثًّا لكل المسلمين على الصمت التامِّ أثناء الخطبة؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ. وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ".
وبناءً على الإنصات صَنَّفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاضرين في صلاة الجمعة إلى ثلاث طوائف؛ ففي رواية أبي داود -وقال الألباني: حسن- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]".
ثم ختامًا نُبَشِّر المسلمين أن مَنْ أنصت إلى الخطبة، بالإضافة إلى قيامه بسُنَّتي الغُسْل والتبكير، حقَّق ما لا يستطيع أحدٌ تخيُّله من الأجر! فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَغَسَّلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا". فما أعظمها من سنن!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

167) سُنَّة رد التثاؤب
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره كل مظاهر الكسل والخمول، ولـمَّا كان التثاؤب علامة على ذلك فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم برَدِّه ما استطعنا؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ: هَا. ضَحِكَ الشَّيْطَانُ".
وفي رواية أخرى للبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، صَرَّح بأن الله يكره التثاؤب؛ فقال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ: فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: هَا. ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ".
فالشيطان -الذي يكره الخير للإنسان ويحبُّ كسله وخموله- يضحك ويسعد برؤية الإنسان متثائبًا كسلان؛ بل أكثر من ذلك فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا عجيبًا يحدث عند التثاؤب، وهو دخول الشيطان إلى جوف الإنسان عن طريق فمه المفتوح! فقد روى مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ".
وفي رواية للترمذي -وقال الألباني: حسن صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فسَّر أن ضحك الشيطان يكون من داخل جوف الإنسان! فقال: "العُطَاسُ مِنَ اللَّهِ وَالتَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَإِذَا قَالَ: آهْ آهْ. فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْ جَوْفِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: آهْ آهْ. إِذَا تَثَاءَبَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ فِي جَوْفِهِ".
وأسوأ التثاؤب ما كان أثناء الصلاة؛ وقد خصَّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلاَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ".
فلْنحذر من هذه الصورة التي يحبها الشيطان؛ فإذا حدث التثاؤب لا محالة فعلينا ألا نُحْدِث صوتًا، وعلينا أيضًا أن نضع اليد على الفم، فإن ذلك يمنع دخول الشيطان.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

168) سُنَّة الاستغفار مع التهليل
طبيعة الإنسان أنه يُذْنِب ويُخطِئ ويُخالِف، وهذه الطبيعة لا مهرب منها؛ إذ إن الإنسان مجبول على هذا، وليس هناك وقت سيصل فيه العبد إلى الخلاص الكامل من فعل الذنوب، ومع ذلك فمطلوب من الإنسان أن يستغفر ربَّه من الذنب بعد حدوثه ويتوب إليه، وهذه التوبة -لو كانت صادقة- تُعيد الإنسان إلى طريق الله نظيفًا من الخطايا والآثام، وإلى هذا المعنى يرمي الحديث الذي رواه مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ".
فالحديث ليس دعوة إلى ارتكاب الذنوب؛ ولكنه دعوة إلى الاستغفار والتوبة، وأعظم أنواع الاستغفار ما كان مصحوبًا بتمجيد الله عز وجل وتعظيمه، وليس هناك أفضل في تعظيم الله من شهادة التوحيد: لا إله إلا الله؛ ولذلك إذا قُرِن الاستغفار مع التهليل فإن المغفرة تتحقَّق بإذن الله، ومن هنا اكتسب الدعاء المعروف بسيد الاستغفار أهميته؛ حيث يقول العبد في أوله -كما في رواية البخاري عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه-: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ..". وفي آخره يسأل المغفرة فيقول: ".. فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ".
وبين أيدينا سُنَّة جليلةٌ عجيبة! ووجه العجب فيها أنها صيغة استغفار سهلة وقصيرة؛ ومع ذلك يمسح الله بها الذنوب الصغائر والكبائر! فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عن زَيْدٍ رضي الله عنه مولى الرسول صلى الله عليه وسلم، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ".
فالقول قصير وسهل الحفظ؛ لكنه عميق الدلالة جدًّا؛ ففيه التوبة من الذنب، وفيه التوحيد لله ربِّ العالمين، وفيه وصف الله عز وجل بصفتين عظيمتين من صفاته؛ وهما الحي القيوم، ولعلَّ هذه الأمور مجتمعة هي التي أعطت هذه الصيغة هذا الأثر المهيب، فلْنحرص على ترديدها كثيرًا، ولْنستشعر معانيها الكبيرة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

169) سُنَّة صيام الاثنين والخميس
الصيام أحد أفضل الوسائل لتحقيق التقوى؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]؛ لذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتفي بصيام رمضان؛ إنما كان من سُنَّته صيامُ أيامٍ أخرى كثيرة من غير رمضان، وكان من هذه السُّنَّة صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّكَ تَصُومُ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ؟ فَقَالَ: "إِنَّ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ، إِلاَّ مُتَهَاجِرَيْنِ، يَقُولُ: دَعْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا".
وفي حديث آخر ذَكَرَ فضيلة خاصَّة ليومي الاثنين والخميس؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".
وكان أحيانًا يصوم ثلاثة أيام فقط من الشهر فيجعلها متوافقة مع الاثنين والخميس؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: حسن- عَنْ حفصة رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، وَالاِثْنَيْنِ مِنَ الْجُمْعَةِ الأُخْرَى".
ولو فاتك صيام الخميس فلا يفوتنَّك صيام الاثنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أكثر مواظبة على صيامه من الخميس؛ وقد روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الاِثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: "فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ".
فلْنزرع التقوى في قلوبنا بهذا العمل العظيم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

170) سُنَّة انتظار الصلاة
الصلاة هي أعظم الأعمال التي يتقرَّب بها العبد إلى الله عز وجل؛ لهذا جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم العمل الفارق بين الإيمان والكفر؛ فقد روى مسلم عن جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاَةِ". لهذا كان الاهتمام الكبير بالصلاة علامة على صدق الإيمان، وكان أداء الصلاة في وقتها أحبَّ الأعمال إلى الله؛ فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ".
ومع هذه القيمة الكبيرة للصلاة فإننا نجد الكثير من المسلمين يُؤَخِّرون الصلاة عن وقتها، ذلك أنهم ينشغلون بأعمالهم وحياتهم عن الصلاة، فيأتي وقتها وقد تَعَذَّر عليهم ترك ما في أيديهم، فيمرُّ الوقت وتتأخَّر الصلاة؛ ومن هنا تأتي أهمية السُّنَّة التي بين أيدينا، وهي سُنَّة انتظار الصلاة، وهذه سُنَّة جليلة للغاية؛ وتعني أن العبد منشغل بالصلاة إلى الدرجة التي تجعله ينظر في فترات متقاربة إلى التوقيت حتى يعلم أول دخول وقت الصلاة، وهو بالتالي يُرَتِّب أموره ليكون مُتفرِّغًا عندما يحين هذا الوقت، فيُصلِّيها حينئذٍ، وقد يذهب إلى المسجد قبل وقت الصلاة بعدَّة دقائق ليؤدي سُّنَّة انتظار الصلاة هناك؛ فيُحَقِّق الأجر الكبير.
وهذه السُّنَّة العظيمة أخبرنا بها وبأجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، حيث قَالَ: "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ".
فلْنحرص على هذه السُّنَّة، ولْنحذر أن نُفَاجَأ دومًا بأن وقت الصلاة قد دخل دون أن ندري!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

171) سُنَّة صلاة الليل قاعدًا
من أعظم العبادات عبادة قيام الليل؛ وقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ".

ولكون هذه الصلاة على هذه الدرجة من الأهمية فإن الشيطان يجتهد في أن يصرف المسلم عن أدائها، وله في ذلك مداخل كثيرة، ومن هذه المداخل أنه يستغلُّ كسل الإنسان في أي يوم نتيجة إرهاق أو مرض أو كِبَرِ سنٍّ فيُثَبِّطه عن القيام للصلاة؛ بدعوى أنه لن يقدر على الوقوف الطويل في جوف الليل، وهنا تأتي أهمية سُنَّة صلاة الليل قاعدًا في مثل هذه الظروف؛ وذلك لتسهيل الأمر على المصلِّي فلا يتردَّد في القيام؛ فقد روى البخاري عَنْ عائشة رضي الله عنها، أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا "لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ آيَةً -أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً- ثُمَّ رَكَعَ".

وروى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لاَ تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لاَ يَدَعُهُ، وَكَانَ إِذَا مَرِضَ، أَوْ كَسِلَ، صَلَّى قَاعِدًا".

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أُمَّته من المبالغة في العبادة؛ لأن هذا قد يقود إلى تركها بالكلِّية بعد ذلك؛ لذلك كان يحضُّ على القعود في القيام إذا شعر القائم بالإرهاق؛ فقد روى البخاري عَنْ أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: "مَا هَذَا الحَبْلُ؟" قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ".

ولكي تكتمل الصورة لا بُدَّ أن نذكر أن أجر القائم أعلى من أجر القاعد؛ خاصة إذا لم يكن للقاعد عذر مقبول؛ فقد روى البخاري عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه -وَكَانَ مَبْسُورًا؛ أي: مصابًا بالبواسير- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلاَةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، فَقَالَ: "إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَاعِدِ".

فلْنحرص على التوازن في هذه المسألة، بحيث يكون الأصل عندنا في صلاة الليل هو القيام، فإن فترنا يومًا كان القعود في الصلاة وتحصيل نصف الأجر أفضل من الترك بالكلِّية.

ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

172) سُنَّة عيادة المريض
يكون المريض -بصرف النظر عن نوع المرض- في حالة من حالات الضعف البدني والنفسي، وهذه حالة تحتاج إلى مواساة وتثبيت، وقد ينقطع المريض عن عمله أو عن الخروج من بيته بشكل عامٍّ فيحتاج -هو أو أهله- إلى صورة من صور الدعم وقضاء الحاجات، كما يحتاج إلى دعوة صالحة من محبٍّ له قد يرفع الله عز وجل بها عنه البلاء، وكلُّ هذا يتحقَّق إذا زاره الأصدقاء والمعارف والزملاء، وكلما زاد عدد المهتمِّين بالزيارة كان هذا دلالة على زيادة الاهتمام بالمريض والانشغال عليه؛ لهذا كله كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزور المرضى في بيوتهم، وأمر المسلمين بذلك بشكل مباشر، فقال -فيما رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه-: "فُكُّوا العَانِيَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَعُودُوا المَرِيضَ".

بل جعل ذلك حقًّا للمريض، وليس تفضُّلاً من الزائر؛ فقد روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ...". وذكر منها: "وَعِيَادَةُ المَرِيضِ".

وعظَّم جدًّا من أجر الزيارة فجعل مدَّة الزيارة كلها وكأنها فترة قضاها الزائر في الجنة! ففي رواية مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "جَنَاهَا".

بل أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّ العزَّة أن زيارة المريض وكأنها تعني زيارة لله سبحانه! فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ؛ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟..".

فهذه سُنَّة نبوية هائلة الأجر؛ لأن الله رحيم، ويحبُّ الرحماء من عباده، فلا نُضَيِّع هذه الفرصة إذا واتتنا، ولن نُعْدَم مريضًا في معارفنا وأرحامنا، خاصَّة كبار السنِّ من الأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات، والجيران والأصدقاء؛ بل إن هذا حقٌّ للمرضى البسطاء الذين لا نعرفهم في المستشفيات العامَّة، الذين هم في أشدِّ الحاجة إلى زائر يُخَفِّف شيئًا من معاناتهم النفسية والمادية.

ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

173) سُنَّة سؤال الله المعافاة في البدن والسمع والبصر
يُقْعِد المرضُ الإنسانَ عن أداء الكثير من واجباته، ويُصيبه بالهمِّ والكمد وقلَّة الحيلة، وقد يدفعه إلى الحاجة والفاقة إن طال به؛ لهذا كله كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله كل يوم المعافاة في بدنه من الأمراض، وكان يَخصُّ في دعوته سمعه وبصره لأهميتهما في تحصيل الهداية، والتعرُّف على الله وخَلْقِه وشرعه؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: حسن- عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رحمه الله، أَنَّهُ قَالَ لأَبِيهِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه: يَا أَبَتِ؛ إِنِّي أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ: "اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. تُعِيدُهَا ثَلاَثًا، حِينَ تُصْبِحُ، وَثَلاَثًا حِينَ تُمْسِي". فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِنَّ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ.
فلْنكن كأبي بكرة رضي الله عنه الذي تعلَّم سُنَّةً من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم فأحبَّ أن يستنَّ بها في كل يوم، وجهر بها حتى أسمعها أولاده فتعلموها منه، وحقَّقُوا جميعًا بذلك خيرَ اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك إضافة إلى خير الذكر نفسه، وهو تحقُّق المعافاة في البدن والسمع والبصر، فلا تُضَيِّعوا هذا الفضل.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

174) سُنَّة الحمد بعد الطعام
مِن أعظم نعم الله علينا نعمة الطعام! وإن كثيرًا من الناس ليعتبرون طعامهم من المسلَّمات التي لا تستحقُّ حمدًا خاصًّا، أو يُعِدُّون الطعام شيئًا بسيطًا لا يستوجب الحمد، والأمر في الحقيقة خلاف ذلك؛ ولقد حَذَّر الله عز وجل عباده من جحود نعمة الطعام؛ فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، فكان الجوعُ عقابًا لـمَنْ لم يُقَدِّر نعمة الشبع؛ لهذا كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله عقب الانتهاء من الطعام مباشرة، وكان يُعْلِن هذا الحمد حتى يُذَكِّر به أهل بيته والآكلين معه، وحتى يُذَكِّر نفسه كذلك بفضل الله عليه؛ وكانت له صلى الله عليه وسلم صيغ متعدِّدَة في هذا الحمد؛ وكان منها ما رواه البخاري عَنْ أبي أمامة رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: "الحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، رَبَّنَا".
وغير مَكْفِيٍّ أي غير محتاج لخلقه؛ بل هو الذي يكفيهم، وغير مُوَدَّعٍ أي غير متروك؛ بمعنى أنني لن أترك حمدك أبدًا، وهذا خطاب خاشع لله عز وجل يُعَبِّر عن امتنان العبد له سبحانه إذ أنعم عليه بالطعام، فلْنحرص عليه، ولْنتدبَّر في معانيه التعبُّدِيَّة، فإن فيه من الخير ما فيه.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

175) سُنَّة وضع اليدين في السجود
وضَّح لنا ربنا عز وجل في كتابه الكريم أن مَنْ كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر فعليه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، واتخاذُ الرسول صلى الله عليه وسلم أسوةً يكون في كل الأمور، وأعظمها الصلاة؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البخاري عَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه-: ".. وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي..".
وهذا الاتباع يكون في شكل الصلاة ومضمونها، وفي أدقِّ تفاصيلها، وكان من ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع يديه على الأرض في السجود بصفة معيَّنة يُسَنُّ لنا أن نُقَلِّدها تمامًا؛ فكان من هذه الصفة أنه يضمُّ أصابع اليدين ولا يُفَرِّجها؛ لما رواه ابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عَنْ وَائِلِ بنِ حَجَرٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَكَعَ فَرَّجَ أَصَابِعَهُ، وَإِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ".
وكان لا يفترش يديه صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه لا يجعل كوعه يلمس الأرض؛ بل يرفعه عنها؛ فقد روى البخاري عن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قال: ".. فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قَابِضِهِمَا..". وروى مسلم عَنْ عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: ".. وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ..".
وكان يُباعِد بين يديه وجسمه، فلا يلصق الساعدين بالبدن؛ وذلك لما رواه مسلم عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "إِذَا سَجَدَ جَافَى حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَهُ وَضَحَ إِبْطَيْهِ". قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي بَيَاضَهُمَا.
وكان يضع كفيه على الأرض في حذو الكتفين، فلا يتقدَّم بهما إلى مستوى الرأس، ولا يرجع بهما إلى مستوى الصدر؛ لما رواه أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عن أَبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: ".. ثُمَّ سَجَدَ فَأَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ..".
فهذه صورة يديه وذراعيه صلى الله عليه وسلم في سجوده؛ فعلينا أن نقتدي بها، ولنا في كل جزئية منها حسنة، فلا تتركوا منها شيئًا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

176) سُنَّة أكل الدباء
وَرَدَ في سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم الحضُّ على أكل بعض أنواع الأطعمة؛ كالعسل، والتلبينة، والعجوة، ووَرَدَ كذلك أنه كان يحبُّ بعض الأطعمة؛ ولكنه لم يأمر بأكلها، وكان مِنْ حِرْص الصحابة رضي الله عنهم على اتباع طريقته أنهم كانوا يتابعونه في النوعين؛ الذي حضَّ عليه، والذي أحبَّه دون أن يأمر به، وكان من هذا النوع الثاني أكلُه صلى الله عليه وسلم للدبَّاء؛ وهي القرع أو الكوسة؛ فقد روى البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا وَمَرَقًا، فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ القَصْعَةِ". قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: "فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ".
والمرق هو الحساء، والقديد هو اللحم المجفَّف، وحوالي القصعة أي جنباتها؛ فهذا يُشْبه في زماننا حساء الخضار به قطع اللحم مع الكوسة.
وهناك رواية أخرى للموقف نفسه عند مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أيضًا، وفيها بعض التفصيلات الأخرى، وفيها قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: "دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَجِيءَ بِمَرَقَةٍ فِيهَا دُبَّاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ الدُّبَّاءِ وَيُعْجِبُهُ". قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أُلْقِيهِ إِلَيْهِ وَلاَ أَطْعَمُهُ. قَالَ: فَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: "فَمَا زِلْتُ بَعْدُ يُعْجِبُنِي الدُّبَّاءُ".
ولقد وَقَفْتُ مع موقف أنس رضي الله عنه الذي دفعه حبُّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتنع يومها عن أكل الدباء ليُعطيه كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك اليوم صار مُحِبًّا للدباء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبُّه! بل جاء في روايةٍ لمسلم عن أنسٍ رضي الله عنه قولٌ عجيبٌ له؛ إذ قال: "فَمَا صُنِعَ لِي طَعَامٌ بَعْدُ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُصْنَعَ فِيهِ دُبَّاءٌ إِلاَّ صُنِعَ"!
فكان أنسٌ رضي الله عنه يجعل الدباء في معظم طعامه بعد هذا الموقف، وهذا كله من الرغبة الشديدة في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدهيٌّ أنه إن كان أنسٌ رضي الله عنه حريصًا على اتباع شيء لم يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ولا شك على اتباع أوامره أحرص، وهذه هي الروح التي نبحث عنها، فلا تحرموا أنفسكم من هذه النوايا الجميلة في فعل ما كان يحبُّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان عادة من عاداته التي لم يأمر بها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

177) سُنَّة الدعاء بالثبات
ما أكثر الفتن التي يتعرَّض لها الناس في حياتهم! وليس هناك مِن البشر مَنْ يُستثْنى من هذه الفتن؛ قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، وهناك فتن السراء وفتن الضراء؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]؛ وبالتالي قد تأتي الفتنة والإنسان غير مستعدٍّ لها، أو مُنتبهٍ إليها، وقد تعصف الفتنة بإيمان المسلم، فيترك الدِّين بالكلِّية! فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
لهذا كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله كثيرًا بالثبات؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ».
ولْيعلم الجميع أن الفتن تزيد بشكل مطَّرد كلما اقترب يوم القيامة؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ -وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ- حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ».
فنحن في أشدِّ الحاجة إلى الإكثار من هذا الدعاء عسى الله أن يحفظ ديننا، ولْنعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يُذَكِّر نفسه والناس بأن الله يُقَلِّب القلوب في لحظة؛ فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: «لاَ وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ».
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

178) سُنَّة سؤال الجنَّة والاستجارة من النار
أعظم الفوز هو دخول الجنة والنجاة من النار، وهذا هو التعريف الذي اختاره ربُّ العزة سبحانه للفوز؛ فقال: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]، وينبغي لهذه القضية ألا تغيب عن ذهن المؤمن أبدًا؛ لذلك كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسأل اللهَ الجنة، ويستجير به من النار، وفي سنن ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عائشة رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ: ".. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ..".
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مَنْ يُداوم على سؤال الله الجنة فإن الجنة بدورها تطلب من الله أن يُدْخِلَه إياها! وكذلك تسأله النار الإجارة منها! فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الجَنَّةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الجَنَّةَ. وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ".
وقد رَغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون معظم دعائك على هذه الصورة؛ ففي سنن أبي داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: "كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ؟" قَالَ: أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لاَ أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ".
فكل أنواع الدعاء تهدف في النهاية إلى دخول الجنة، والاستعاذة من النار، ومن هنا كانت سُنَّة سؤال الله الجنة والاستجارة به من النار، سُنَّة عظيمة ينبغي لنا المداومة عليها؛ ففيها الفوز الكبير؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11].
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

179) سُنَّة تقليم الأظفار
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يكون في حياته مثالاً راقيًا للإسلام، شكلاً ومضمونًا، فهيئته الخارجية جميلة، وأخلاقه التعاملية حميدة؛ وبالتالي فهو صورة طيبة داعية للإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على أدقِّ التفاصيل في هذه الصورة، ويهتمُّ بجعل المسلم متوافقًا مع كل ما يُسْعِد النفس الإنسانية بشكل عامٍّ، ومن هنا دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الالتزام بسنن الفطرة؛ وهي السنن التي تتوافق مع نفوس عامَّة البشر بصرف النظر عن موطنهم أو زمان معيشتهم، وحدَّد هذه السنن في عدَّة أحاديث منها ما رواه البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الفِطْرَةُ خَمْسٌ: الخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ".
فكان من هذه السنن تقليم الأظفار؛ وهي سُنَّة جميلة تُعطِي بالإضافة إلى الشكل الطيب النظيف السلامةَ الصحية للمسلم؛ فإنه من المعروف أن الأوساخ والميكروبات تتراكم تحت الأظفار؛ ومن ثَمَّ فإن قصَّها يحمي الإنسان -ومَنْ يتعامل معه- من أمراض كثيرة، والحدُّ الأقصى الذي سمح به رسول الله صلى الله عليه وسلم لترك الأظفار هو أربعين ليلة؛ فقد روى مسلم عَنْ أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: "وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، أَنْ لاَ نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً".
وهناك معلومة لغوية طريفة؛ وهي أن كلمة "أُفٍّ"، التي تُستخدم في الضجر، إنما تعني في اللغة العربية: وسخ الأظفار! والعرب يستخدمونها مِنْ قَبْل الإسلام للدلالة على كل ما يُسْتَقْذر؛ وهذا يُؤَكِّد ما قلناه من أن النفوس البشرية بشكل عامٍّ تأنف من مخالفة سنن الفطرة، ومع ذلك فقد ظهرت عادات غريبة على الإسلام يُطلِق فيها الأولاد والبنات العنان لأظفارهم، ويعتبرون طولها من علامات الجمال، وهذا أمر مخالف للسُّنَّة النبوية، فعلينا أن نجتنبه، ولْنحرص على اتباع هديه صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

180) سُنَّة الاستشارة
ليس هناك إنسان يمتلك كل الخبرات والمواهب والفنون والعلوم؛ إنما يظلُّ المرء دومًا في حاجة إلى غيره كي يُكْمِل عجزه ونقصه، والإنسان الذي لا يهتمُّ بآراء مَنْ حوله إنسان متكبِّر، يظنُّ في نفسه الكمال وليس كذلك؛ لذلك كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستشير مَنْ حوله، ويهتمُّ بسماع آراء الناس، ويأخذ بنصحهم، وحصرُ المواقف التي استشار فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وأُمَّهات المؤمنين، أو حَرِصَ فيها على سماع آراء مَنْ حوله، أمرٌ صعب لكثرته؛ وقد استشار أمَّ سلمة رضي الله عنها في الحديبية، واستشار الصحابة في القتال في بدر، وفي الخروج إلى أُحُد، واستشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما في أمر عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، واستشار سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رضي الله عنهما في إعطاء ثلث ثمار المدينة لغطفان، ولم يندم يومًا على استشارة فعلها، وهو الذي قال -كما روى الطبراني -وقال السيوطي: حسن- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه-: "مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ, وَلاَ نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ, وَلاَ حَالَ مَنِ اقْتَصَدَ".
وإذا كان على المسلم أن يستشير مَنْ يثق برأيه في قضايا حياته فعلى المستشار أن يكون أمينًا في الرأي الذي يتقدَّم به؛ وقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ". وروى أبو داود -وقال: الألباني حسن- عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ، وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ".
فعملية الاستشارة إذن تحتاج إلى تفاعل جيد بين اثنين؛ الأول يستشير بتواضُع واستعداد لقبول النصيحة، والثاني يُشِير بأمانة وإخلاصٍ وحرصٍ على نفع طالب الاستشارة، فإذا تحقَّق هذا التفاعل سعد الجميع بالنتيجة، وطُبِّقَت سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

181) سُنَّة التسبيح مائة مرة في اليوم
تسبيح الله يعني تنزيهه عن كل نقص؛ ففيه كمال التعظيم والتوقير له سبحانه؛ لذلك اختاره الله عز وجل ليكون وسيلة كل المخلوقات لعبادته سبحانه؛ فقال في كتابه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، والتسبيح هو الغالب على عبادة الملائكة؛ فقد قال الله عز وجل على لسان الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166]، وقال: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38].
فهذه عبادة جليلة عظيمة؛ لهذا كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم الإكثار من التسبيح كل يوم، وأراد منا ألا نُسَوِّف في هذا الأمر فوضع لنا هدفًا وحفَّزنا على تحقيقه، وهذا الهدف هو تسبيح الله عز وجل مائة مرَّة في اليوم؛ فقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟" فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: "يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ".
والتسبيح الذي يحقِّق ألف حسنة في اليوم لا يأخذ إلا دقيقة واحدة! ويكون بقول: سبحان الله.. سبحان الله، ولا يُشْتَرط الانقطاع عن الأعمال لقولها، أو تخصيص وقت لها؛ بل يمكن أن تُقال أثناء المشي، أو ركوب المواصلات، أو أثناء أداء بعض الأعمال المنزلية، وإن كان الجلوس خصوصًا للذكر أعلى وأفضل.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

182) سُنَّة طرد الجوع عن المسلمين
مِنْ أكبر الفتن التي يمكن أن يمرَّ بها الإنسان فتنة الجوع، وليس المقصود هنا الجوع الذي يسبق وجبة الطعام؛ إنما المقصود هو الجوع الشديد الذي لا يجد فيه بعض الناس من الطعام ما يدفعونه به! فإذا وصل الناس إلى هذه الحالة صار وقوعهم في أي فتنة قد تطرد عنهم هذا الجوع أمرًا قريبًا جدًّا؛ لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذه الفتنة الكبيرة؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ؛ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ".
وعلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّة جميلة عظيمة وهي سُنَّة طرد الجوع عن المسلمين؛ واعتبر ذلك عملاً من أكثر الأعمال التي يُحِبُّها الله عز وجل؛ فقد روى الطبراني -وقال الألباني: حسن- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلاً سألَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فكان ممَّا قاله رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ".. أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ -أي عن المسلم- جُوعًا..". وروى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ".
وطَبَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السُّنَّة العظيمة في حياته كثيرًا، ولم يكن بالضرورة يطرد الجوع عن المسلمين بطعام كثير؛ بل كان يطرده أحيانًا بكوب من اللبن، كما في الموقف الذي رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، ووصف فيه جوعًا شديدًا أصابه، ثم قال: "فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَقَالَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ". فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذِي بِي، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ، فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "عُدْ يَا أَبَا هِرٍّ". فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ: "عُدْ". فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالقِدْحِ..".
وروى البخاري ومسلم عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ، كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ مَرَّةً: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَلاَثَةٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ، بِسَادِسٍ". أَوْ كَمَا قَالَ: وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ، وَأَبُو بَكْرٍ بِثَلاَثَةٍ.
فلْنبحث عن الجوعى الذين لا يجدون ما يُسَكِّن آلام جوعهم، ولْيكن لنا نصيب في طرد الجوع عنهم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

183) سُنَّة النوم على الجانب الأيمن
كان أغلب نوم الرسول صلى الله عليه وسلم على شِقِّه الأيمن؛ فقد روى البخاري عَنْ عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ". وروى البخاري أيضًا عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ..". وأوصى المسلمين بذلك؛ ففي رواية البخاري عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ..".
فهذه هي الطريقة التي يحبُّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، والتي جعلها سُنَّة للمسلمين، ومع ذلك فإن المسلم يمكن له أن ينام في أوضاع أخرى يستريح فيها باستثناء الأوضاع التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهما في الأساس وضعان؛ أما الأول فهو النوم على البطن؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مُضْطَجِعًا عَلَى بَطْنِهِ فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ ضِجْعَةٌ لاَ يُحِبُّهَا اللَّهُ". وروى ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِي، فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: "يَا جُنَيْدِبُ، إِنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ".
وأما الوضع الثاني المكروه فهو أن يستلقي الرجل على ظهره واضعًا إحدى رجليه على الأخرى إذا خيف من كشف عورته؛ فقد روى مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ[1]، وَالاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ[2]، وَأَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ".
والذي دعانا أن نُخَصِّص الكراهية بكشف العورة ما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ "رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِيًا فِي المَسْجِدِ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى". فدلَّ ذلك على أن المنع في حديث مسلم عن جابر رضي الله عنه كان في حالة الخوف من كشف العورة؛ فإن أمِن ذلك فلا بأس إذن، والنوم وإن كان من العادات التي يختلف فيها الناس بعضهم عن بعض فإن اتباع السُّنَّة يُحَقِّق خيرًا كثيرًا، قد يكشف لنا العلم بعضه، وقد يظلُّ مَخْفيًّا عنا إلى يوم القيامة، لكن يظلُّ فيه أجر اتباع السُّنَّة وهو الأهمُّ.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

184) سُنَّة التواضع
وَصَفَ اللهُ عز وجل خُلُقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعظمة، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ومن أعظم أخلاقه صلى الله عليه وسلم خُلق التواضع، والمسلم الذي يُقَلِّد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الخلق يُؤَدِّي سُنَّة عظيمة؛ حيث إن آثارها على المجتمع كبيرة للغاية؛ فهي ليست حسنات فقط في ميزان المتواضع؛ إنما هي أمان في المجتمع، وحُسْن في العلاقات بين الناس؛ لهذا حَفَّزَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحلِّي بهذه السُّنَّة الأخلاقية الجميلة، فقال -كما روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه-: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ".
وكانت حياته صلى الله عليه وسلم مثالاً لهذا التواضع، ووضَّحت لنا كتب السُّنَّة بعض الأمثلة التطبيقية التي يمكن أن نُبْرِز فيها هذا الخلق، فعند مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقَالَ: "يَا أُمَّ فُلاَنٍ؛ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ". فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.
وروى البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: "إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ -أي المرأة المملوكة- مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ".
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ". والذراع هو اليد من الحيوان، والكراع هو ما استدقَّ من ساق الحيوان، والمقصود أنه يُلَبِّي الدعوة حتى مع بساطة الوليمة.
فهذه كلها أمثلة تُبَيِّن صورًا من التواضع يمكن أن نمارسها في حياتنا، والصور الأخرى كثيرة لمن أراد أن يعيش حياة التواضع، وما أروع أن نُدرك أننا بهذا الخلق نصير من أهل الجنة! فقد روى البخاري عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الخُزَاعِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ". والجوَّاظ هو الفظُّ الغليظ المختال في مشيته؛ فهذا هو الفارق بين صفة أهل الجنة وأهل النار، فلْنحرص على التحلِّي بهذه السُّنَّة الجميلة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

185) سُنَّة التناصح
ما من إنسان إلا ويحتاج النصيحة؛ فطبيعة الحياة أن يمرَّ المرء بمواقف كثيرة تحتاج رأيًا حاسمًا، وقد يكون الاختيار بين أمرين اختيارًا مصيريًّا، وعلى المرء أن يأخذ مثل هذه القرارات كثيرًا؛ بل لعلَّه يأخذ عدَّة قرارات كل يوم، ولمـَّا كان من طبيعة الإنسان أنه يُصيب ويُخطئ كان دومًا في حاجة إلى مَنْ ينصحه إذا ما تردَّد أو أخطأ، ولأهمية الأمر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل أمر النصيحة هذا أمرًا تطوعيًّا يقوم به بعضهم على سبيل التفضُّل بل جعله حقًّا للمسلم؛ أي أن مِنْ حقِّ المسلم أن يتقدَّم له إخوانه بالنصيحة إذا لزم الأمر؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ". قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ[1]، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ".
فجعل من حقوقه أن تُقَدَّم له النصيحة إذا طلبها؛ ولكنه وسَّع دائرة النصح في حديث آخر فلم يجعلها للطالبين فقط؛ إنما جعلها لكل مسلم؛ سواء طلب النصح أم لم يطلبه؛ فقد روى البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".
وأكَّد على ذلك في حديث مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ". قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".
فلْنحرص على هذه السُّنَّة النبيلة، ولْنحرص كذلك على تَخَيُّر أفضل الطرق لإيصال النصيحة حتى يتحقَّق الهدف المرجوُّ منها بإذن الله تعالى.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].
________________________________________
[1] قال النووي: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَيُقَالُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَالَ اللَّيْثُ: التَّشْمِيتُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِلْعَاطِسِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ: سَمَّتَّ الْعَاطِسَ وَشَمَّتَّهُ إِذَا دَعَوْتَ لَهُ بِالْهُدَى، وَقَصْدُ السَّمْتِ الْمُسْتَقِيمُ. قَالَ: وَالْأَصْلُ فِيهِ السِّينُ الْمُهْمَلَةُ، فَقُلِبَتْ شِينًا مُعْجَمَةً. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: تَسْمِيتُ الْعَاطِسِ مَعْنَاهُ: هَدَاكَ اللَّهُ إِلَى السَّمْتِ. قَالَ: وَذَلِكَ لِمَا فِي الْعَاطِسِ مِنَ الِانْزِعَاجِ وَالْقَلِقِ

186) سُنَّة صلاة إحدى عشرة ركعة ليلاً
مَنْ أراد أن يتقوَّى على الأعمال الشاقَّة في الحياة، سواء أعمال الدنيا أو الآخرة، فعليه بقيام الليل! فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً} [المزمل: 5-7]، فتحمُّل القول الثقيل يحتاج إلى قيام الليل وتسبيح النهار؛ لهذا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ثابت في قيام الليل، فكان في معظم لياليه يُصَلِّي إحدى عشرة ركعة؛ وذلك كما روى البخاري عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ -تَعْنِي بِاللَّيْلِ- فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ المُؤَذِّنُ لِلصَّلاَةِ".
وهناك روايات أخرى تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي ثلاث عشرة ركعة يوميًّا في قيام الليل؛ فعند البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "كَانَتْ صَلاَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً". يَعْنِي بِاللَّيْلِ، وكذلك عند مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: لأَرْمُقَنَّ صَلاَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةَ، "فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ فَذَلِكَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً".
وقد تكون الركعتان الأخيرتان في هاتين الروايتين -فيما أرى- جزءًا من الوتر؛ فتكون ركعات القيام عشرًا، ويكون الوتر ثلاثًا؛ وبذلك تتَّفق الروايات مع رواية عائشة رضي الله عنها، وهي أدرى بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وعمومًا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعَلِّمنا أن نُصَلِّيَ ركعتين ركعتين من الليل إلى أن يقترب الفجر فنُصَلِّيَ عندئذٍ الوتر؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى".
لذلك كانت أعداد الركعات تختلف من ليلة إلى ليلة؛ فقد روى البخاري عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: "سَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، سِوَى رَكْعَتِي الفَجْرِ".
فلْتكن هذه السُّنَّة عونًا لنا على أعمالنا الصعبة، وليكن أقلُّها سبع ركعات، وأكثرها ثلاث عشرة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

187) سُنَّة الصدقة الجارية
لو يعلم الناس قدر الصدقة عند الله لأنفقوا كل أموالهم في سبيله سبحانه! وفي الوقت الذي جعل الله فيه الحسنة بعشر أمثالها جعل أجر الصدقة سبعمائة ضعف أو يزيد؛ فقد قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وستكون سعادة المسلم بها يوم القيامة لا تُوصف؛ فقد روى ابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عن يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ". أَوْ قَالَ: "حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ".
فإذا عرفتَ قدر اقتراب الشمس من الناس يوم القيامة أدركتَ قيمة أن تكون لك صدقة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -فيما رواه مسلم عن الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ رضي الله عنه-: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ". -قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ! مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ- قَالَ: "فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا". قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ.
وهذا التصوير الرهيب هو الذي دفع الصالحين إلى الحرص على الصدقة؛ فيقول يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: "فَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ -وهو أحد رواة الحديث- لاَ يُخْطِئُهُ يَوْمٌ لاَ يَتَصَدَّقُ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً وَلَوْ بَصَلَةً".
وأروع شيء أن يستمرَّ أجر الصدقة حتى بعد موت الإنسان، وهي ما تُعْرَف بالصدقة الجارية؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".
فلْيبحث كلُّ مؤمن عن فكرةِ صدقةٍ تجعلها مستمرَّة بعد وفاته، كمستشفى، أو مدرسة، أو غرس، أو ماء، أو غير ذلك.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

188) سُنَّة توقير الصحابة
يكفي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرًا أن الله عز وجل أثنى عليهم في كتابه في أكثر من موضع، وهو ثناء مستمرٌّ إلى يوم القيامة؛ وذلك مثل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، فأيُّ شيء أعظم من ذلك؟! ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّهم حبًّا جمًّا، ويحرص على توصيل هذا الشعور إلى عامة المسلمين؛ ومن ذلك ما رواه البخاري عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ". -قَالَ عِمْرَانُ: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.
وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ".
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنُّ على الأُمَّة ما دام بقي فيها أصحابُه، فإذا ذهبوا جاءت الفتن التي وُعِدَت بها الأُمَّة؛ لذلك كان التمسُّك بهَدْي الصحابة حافظًا للأُمَّة من شرٍّ كبير، وأخطر الأمور أن يظهر جيلٌ من المسلمين يتعدَّى على الصحابة؛ فيفقدوا بذلك الأمان الذي يحفظهم من الفتن، وهذا ما حذَّر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ".
وقرأ هذا الأمرَ عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال -كما روى ابن ماجه، وقال الألباني: حسن-: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَلَمُقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً، خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمُرَهُ".
فلْنوقِّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولْنقرأ سيرهم، ونُعَلِّمها أبناءنا، ولْنعلم أن حبَّنا إياهم يُسعد قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

189) سُنَّة الصلاة على الرسول
أمَرَنا اللهُ عز وجل بأداء هذه السُّنَّة الجليلة، وهي سُنَّة الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وأجر هذه السُّنَّة أجر هائل، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا". فهل تستوعب عقولنا أن يُصَلِّيَ اللهُ على أحدِنا عشر مرَّات؟! ولو صَلَّينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك صَلَّى اللهُ علينا عشرة أضعاف صلاتنا! فما أجدرنا أن نملأ أوقاتَ حياتنا بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وهي القضية التي كانت تشغل ذهن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، فدار لذلك بينه ورسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحوار الجميل الذي رواه الترمذي -وقال الألباني: حسن- وقال فيه أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ". قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاَةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاَتِي؟ فَقَالَ: "مَا شِئْتَ". قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ. قَالَ: "مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". قُلْتُ: النِّصْفَ. قَالَ: "مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ. قَالَ: "مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلاَتِي كُلَّهَا. قَالَ: "إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ".
فالمسلم المنشغل بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار لا يدعو لنفسه إلا قليلاً، حيث صار يدعو لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جلِّ أوقاته، هو مسلمٌ كريمٌ على الله؛ لهذا سيَكفي له همَّه، ويَغفر له ذنبه! وأيُّ شيء أعظم من ذلك؟! فلْنحرص على هذه السُّنَّة الجليلة، ولا يَمُرَّنَّ عليك يوم أو ليلة دون أن ترفع قدرك بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

190) سُنَّة المتابعة بين الحج والعمرة
العُمْرَة تمسح الذنوب بين العمرتين، والحجُّ يمسح كلَّ الذنوب قبله! فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةُ". فأيُّ خير أعظم من ذلك! ولِكَوْن المشقَّة المالية والبدنية كبيرة في كليهما فإن فريقًا من الناس يقولون: يكفي المرء أن يُؤَدِّيَ العمرة أو الحجَّ كلَّ عدَّة سنوات، ولْيُنفق المسلمُ مالَه في وجهٍ آخر من وجوه البرِّ، والحقُّ أنني لا أرى هذا الرأي؛ بل أراه مخالفًا للسُّنَّة؛ حيث أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المستطيعَ من أُمَّته بالمتابعة بين الحجِّ والعمرة، ولم يُحَدِّد فارقًا زمنيًّا بينهم؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الجَنَّةُ".
بل أكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث على أن الحجَّ والعمرة مع أنهما يتكلَّفان الكثير من المال فإنهما ينفيان الفقر بالإضافة إلى مغفرة الذنوب؛ لهذا فعلى المسلم القادر ألا يُفَوِّت أبدًا فرصة العمرة المتكرِّرَة، وكذلك الحج، وهذا هو الفهم الذي أدركته أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ فقد روى البخاري عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: "لَكِنَّ أَحْسَنَ الجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "فَلاَ أَدَعُ الحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
فكان لا يفوتها موسم للحجِّ مع مشقَّته الكبيرة؛ فلْيحرص القادر منَّا على هذه السُّنَّة الجميلة، ولْيعقد غيرُ المستطيع النيَّةَ على ذلك إن تيسَّر له الأمر، وسوف يجزيه الله خيرًا على هذه النيَّة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

191) سُنَّة ترك ما لا يعني
مِنْ أكثر الأمور التي تُغْضِب الناسَ التطفُّلُ على أخبارهم وأحوالهم! فإن لكل إنسان أسراره الخاصة التي لا يحبُّ أن يُشاركه فيها أحدٌ من الناس، ولمـَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على تلطيف العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد كان مِن سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يحثَّ المسلمين على ترك ما لا يعنيهم؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».
ولو اتَّبع المسلم هذه السُّنَّة الرائعة لوجد أثر ذلك في علاقاته بالناس، وأكثر من ذلك أنه سيحمي نفسه من زلَّات اللسان، وهي في الواقع خطيرة ومهلكة؛ لأن كثرة الكلام تُؤَدِّي إلى الخطأ والزلل، وهذا كله يدفع بالإنسان إلى الهاوية، وقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عن بِلَالِ بْنِ الحَارِثِ المُزَنِيِّ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ».
وروى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ. قَالَ: «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا». فتَرْكُ العنان للسان مُهلكٌ، وبداية الخير تكون بمنعه عن الحديث في كل ما لا يعنينا، فهذا يُصْلِح دنيانا وآخرتنا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

192) سُنَّة التعرُّض للمطر
هذه سُنَّة قد يستغربها كثير من الناس؛ وهي سُنَّة تعريض الجسد للمطر أول نزوله! فقد روى مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: "لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى".
فالسُّنَّة عند نزول المطر أن يخرج له الناس، ويكشفون جزءًا من جسدهم؛ وذلك دون كشف العورة، ويُعَرِّضون هذا الجزء للمطر بشكل مباشر؛ أي دون حائل الثياب أو المظلات أو غير ذلك، وقد برَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى". فالمطر قد نزل توًّا من السماء، والمطر حديث الخلق والتكوين، وهو علامة الرحمة والخير، وهو البشرى من الله تعالى، وهو الحياة للأرض والإنسان والحيوان، وهو الجندي المخلص لربِّ العالمين؛ حيث ينزل نعمةً ورحمةً في وقتٍ على بعض العباد، وينزل نقمةً وعذابًا في وقت آخر على عباد آخرين، فلا عجب إن رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك معه؛ حيث يُشْعِر المؤمنين أننا والمطر في منظومة واحدة متناغمة تعبد الله عز وجل؛ قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
فلْنحمد الله على نعمة المطر، ولْنُعَرِّض أجسادنا وأجساد أطفالنا لبركة هذا الغيث الكريم، ولنشكر اللهَ على أن جعلنا على سُنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم حريصين.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

193) سُنَّة قراءة سورة الملك قبل النوم
عذاب القبر حقٌّ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين أن يتعوَّذوا من هذا العذاب؛ فقد روى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عُوذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ". وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّة طُرق تحمينا من هذا العذاب، وكان منها قراءة سورة الملك كل ليلة قبل النوم، فقد روى الحاكم -وقال الذهبي: صحيح. وقال الألباني: حسن- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: "يُؤْتَى الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ فَتُؤْتَى رِجْلاَهُ فَتَقُولُ رِجْلاَهُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ؛ كَانَ يَقُومُ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ. ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ صَدْرِهِ -أَوْ قَالَ: بَطْنِهِ- فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ. ثُمَّ يُؤْتَى رَأْسُهُ فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ. قَالَ: فَهِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَهِيَ فِي التَّوْرَاةِ سُورَةُ الْمُلْكِ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطْنَبَ".
والحديث وإن كان موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه فإن له حكم المرفوع؛ لأنه لا سبيل لمعرفة ما في القبر إلا عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأهمية هذه الحماية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُواظب على قراءة سورة الملك قبل نومه؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لاَ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ: الم تَنْزِيلُ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ". أي سورتي السجدة والملك.
وروى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ سُورَةً مِنَ القُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ".
وقراءة السورة يمكن أن تأخذ أقلَّ من ثلاث دقائق، وفيها الوقاية من عذاب القبر، وفيها المغفرة، وفيها الحرف بعشر أمثاله، فلا نحرم أنفسنا من هذا الخير.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

194) سُنَّة الرفق بالحيوان
لم تكن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصَّة بالإنسان فقط؛ بل شملت في إطارها كل روح، وكان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يرحم الحيوان، والطير، بل والحشرات! وما أكثر مواقف حياته صلى الله عليه وسلم التي برزت فيها هذه السُّنَّة الرقيقة؛ وعلى سبيل المثال روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا، فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي. فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ".
فهذه قاعدة جميلة واضحة، وهي أن المسلم يُؤْجَر على كل رفقٍ يُقَدِّمه لحيوان، وعلى الجانب الآخر فإنه يُؤْزَر إن تعرَّض له بأذى؛ فقد روى مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ؛ فَقَالَ: "لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ". وهذا متحقِّقٌ كذلك مع الطيور والحشرات؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا". وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: "مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟" قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: "إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ".
فالرفق بكل روح هو السُّنَّة النبوية، فلْنحرص على ذلك، ولْنعلم أن لنا في ذلك أجرًا عظيمًا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

195) سُنَّة حب الصالحين
من السنن الجميلة التي ينبغي أن نحرص عليها سُنَّة حبِّ الصالحين، وأصلها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحبَّ المسلمين "في الله"، وبدهيٌّ أننا لن نحبَّ أحدًا "في الله" إلا إذا كان صالحًا، ومعلوم أننا يمكن أن نحبَّ أناسًا كثيرين غير ملتزمين بالشريعة، كأنواع الحبِّ الفطري للأبناء والآباء والأصدقاء، لكننا لا نُسَمِّي ذلك "حبًّا في الله"؛ لأن الله لا يحبُّ لنا أن نحبَّ مَنْ يُخالف شرعه، مع أنه -سبحانه- قد يعذرنا في ذلك، فثبت أن الحب في الله يُقْصَد به حبُّ الصالحين، وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة من علامات الإيمان؛ فقد روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ...". وذكر منها: "وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ..".
ويُؤَكِّد على أن المقصود بالحب في الله حبُّ الصالحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن من علامات الإيمان كذلك "البغض في الله"؛ ففي رواية النسائي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ وَطَعْمَهُ...". وذكر منها: "وَأَنْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَأَنْ يَبْغُضَ فِي اللَّهِ..". فلن يُسْمَح لأحدنا أن يُبغض أحدًا في الله إلا لمعصية يفعلها، وكذلك فإننا نحبُّ الناس في الله لأنهم صالحون يفعلون ما يُرضي اللهَ عز وجل.
ويدعم هذه الرؤية أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن المرء يُحْشَر في الآخرة مع مَنْ أحب، فلو كان يحبُّ صالحًا حُشِرَ مع الصالحين، وإن كان يحبُّ فاسدًا حُشِرَ مع الفاسدين؛ وقد روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: "فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ".
وروى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
فلْنحرص على حبِّ الصالحين، ولْنَعُدُّ ذلك عملاً من أعمالنا، ولْنعلم أنه من سنن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

196) سُنَّة الأيمن فالأيمن
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ التيامن -أي البدء بالجانب الأيمن- في كل أموره؛ فقد روى البخاري عَنْ عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ". ومن ذلك أنه كان إذا حضر معه في المجلس عددٌ من الناس وأراد أن يُعطيهم شيئًا فإنه يبدأ بالأيمن فالأيمن؛ وقد مرَّت به بعض المواقف في حياته أعطى فيها الأيمنَ ما في يده مع أن الحضور كانوا يتوقَّعُون خلاف ذلك؛ فقد روى مسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا، فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِي هَذِهِ، قَالَ: فَأَعْطَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ وِجَاهَهُ، وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شُرْبِهِ، قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ. يُرِيهِ إِيَّاهُ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابِيَّ، وَتَرَكَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ". قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: "فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ".
وتكرَّر هذا الموقف مرَّة أخرى بصورة مختلفة؛ فقد روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟" فَقَالَ الغُلاَمُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. قَالَ: فَتَلَّهُ -أي وضعه- رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ.
وما حدثت مثل هذه المواقف إلا لترسيخ قاعدة "الأيمن فالأيمن"؛ وذلك ليس فقط تبرُّكًا باليمين؛ ولكن لكي يُزيل الضغائن بين الناس، فلا يَظُنَّنَّ أحدٌ أن هناك تفضيلاً لإنسان على إنسان، إنما الذي يحكم التوزيع هو قاعدة الأيمن فالأيمن بصرف النظر عن تفاوت قيمة الحضور، وقد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف الثاني الغلامَ حتى يُوَضِّح جواز المخالفة بالبدء بالأيسر لا الأيمن إذا أَذِن الجالس على اليمين وفي هذا سعة؛ لأنه قد يغلب أحيانًا على ظنِّ المعطي أن الجالس على اليسار سيغضب لترجيح الأيمن عليه، فهنا أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعطي أن يستأذن الأيمن؛ فإن قَبِلَ فبها، وإن رَفَضَ استُجيب لرفضه، وثبت في روايات أخرى أن الغلام في الموقف الثاني كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وكان أحد الجالسين على اليسار خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم باستئذان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ألا يُوغر صدر خالد رضي الله عنه، وأن يُعْلِمه بالقاعدة الشرعية، وأنه ليس مقصودًا بالتجاهل؛ إنما هي السُّنَّة التي تُطَبَّق مع كل المسلمين، فما أعظمه من نظام! وما أرقاه من ترتيب!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

197) سُنَّة تخفيف ركعتي الفجر
مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُطيل جدًّا في صلاة القيام فإن سُنَّته في ركعتي الفجر -التي تعقب القيام مباشرة- كانت مخالفة تمامًا؛ إذ كان يُخَفِّف فيهما جدًّا! فقد روى مسلم عَنْ عائشة رضي الله عنها، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَيُخَفِّفُ، حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟"، فتخفيفه كان كبيرًا إلى درجة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسأل نفسها: هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟!
وروى ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: "نِعْمَ السُّورَتَانِ هُمَا، يُقْرَأُ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ".
فنحن إذا كنَّا نتعبَّد اللهَ في قيام الليل بتطويله؛ فإننا نتعبَّده في ركعتي الفجر بتخفيفهما، والدافع لنا لفعل ذلك هو اتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال لنا -كما روى البخاري عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه-: ".. وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي..".
ولعلَّ العلَّة في ذلك أن المسلم يكون خارجًا من صلاة الليل الطويلة، ومُقْبلاً على صلاة الصبح، وهي صلاة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطيل القراءة فيها نسبيًّا؛ فكان الأنسب أن تكون ركعتا الفجر خفيفتين حتى يتمكَّن المسلم من الخشوع في صلاة الصبح، ولا ينصرف ذهنه عن التركيز فيها بسبب شدَّة الإرهاق، وفي النهاية نحن نُقَلِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتَّبع سُنَّته سواء أدركنا العلَّة من ورائها أو لم ندركها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

198) سُنَّة الزواج
سُنَّة الزواج ليست سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم وحده؛ إنما هي سُنَّة الأنبياء جميعًا، واختار الله عز وجل أن تكون بداية البشرية واستمرارها عن طريق هذه السُّنَّة؛ فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، والإعراض عن هذه السُّنَّة، أو عدم إعطائها أولوية في حياة المسلم يُؤَدِّي إلى فساد كبير في المجتمع؛ لذلك حضَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على الإسراع فيه، وعدم التسويف الذي قد يُضَيِّع السنوات تلو الأخرى؛ فقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ؛ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ".
والاستطاعة المطلوبة ينبغي أن تكون بسيطة وغير متكلَّفة، وهذا أمر يشترك فيه الشاب المـُقْدِم على الزواج وكذلك أهل الزوجة؛ فينبغي ألا يكون هناك مغالاة أو مبالغة تعيق الزواج؛ بل ينبغي الحرص على إتمامه ولو بأيسر التجهيزات، فإن كان الجميع مُيَسِّرًا فإن الله عز وجل يُعِين عليه بقدرته ورزقه؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ".
ولا يحقُّ لشابٍّ أن يزهد في أمر هذه السُّنَّة؛ ولو كان بهدف التفرُّغ للعبادة؛ فقد روى البخاري عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: "رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا".
فما بالنا نرى أن كثيرًا من الشباب والأسر يُؤَجِّلون هذه الخطوة إلى ما بعد الدراسات والأسفار والتجارة والأعمال، وهذا كلُّه بهدف الزواج في وضعٍ أكثر راحة أو أحيانًا مُتْرَف! إننا نريد الإسراع الحقيقي في تطبيق سُنَّة الزواج؛ حيث إنها صمامُ أمانٍ للمجتمع والأفراد.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

199) سُنَّة تشميت العاطس
أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يحبُّ للإنسان أن يعطس؛ ولعلَّ ذلك لما فيه من فوائد صحِّيَّة تدفع عنَّا الكثير من الأذى؛ لذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للعطاس سننًا خاصَّة تجعلنا نهتمُّ به، وهي عبارة عن أذكار يقولها العاطس، وكذلك الذي يسمعه يعطس؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ: فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: هَا. ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ".
وأكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشميت العاطس -أي قول: يرحمك الله- من حقوق المسلم على إخوانه؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ".
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ. وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ".
فهذا حوار جميل يدور بين المؤمنين وكان سببه العطاس؛ فالعاطس يحمد الله، والذي يسمعه يدعو له بالرحمة، فيرد العاطس بالدعاء له بالهداية وإصلاح البال؛ ولعلَّنا نلحظ أن بداية الحوار كانت بحمد العاطس لله عز وجل؛ فإن لم يفعل ما جاز لمن سمعه أن يدعو له بالرحمة؛ فقد روى البخاري عن أَنَس رضي الله عنه، يَقُولُ: عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا -أي قال له: يرحمك الله- وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَمَّتَّ هَذَا وَلَمْ تُشَمِّتْنِي. قَالَ: "إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَلَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ".
فلْنحرص على هذه السنن الجميلة، ولْنستشعر حُبَّ اللهِ للعطاس، وما يتبعه من سنن.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

200) سُنَّة حب آل البيت
مِنْ أرقِّ السنن النبوية سُنَّة حبِّ آلِ البيت، وهذا الحب هو الأمر الوحيد الذي طلبه منَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسه! فقد قال تعالى في كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، وقد روى الحاكم -وقال الذهبي: صحيح- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي".
وأكَّد علينا أن هذا الحب عاصمٌ لنا من الزيغ والضلال؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي؛ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا".
وكان من آخر وصاياه لنا أن نتمسَّك بحبِّ أهل بيته صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى مسلم عن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا بَعْدُ؛ أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ؛ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ". فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي". فَقَالَ لَهُ حُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ -وهو أحد التابعين-: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلُّ هَؤُلاَءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وحبُّ آل البيت يكون بمعرفة سيرهم، والتدبُّر في أحوالهم، والدعاء لهم، والدفاع عنهم، والحديث عنهم مع أبنائنا وإخواننا ومجتمعاتنا، ولْيتخيَّل كلُّ واحدٍ منَّا سعادةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤية مَنْ أَحَبَّ آل بيته، فإن هذا سيدفعنا إلى المداومة والاستمرار.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

201) سُنَّة السرور بالحسنة
أخبرنا الله عز وجل أن الحساب يوم القيامة يكون بوزن الحسنات والسيئات، فقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وأخبرنا كذلك أن المفلِح حقًّا هو من زادت حسناته على سيئاته، فقال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8، 9]، وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 89، 90].
لهذا فإنه من الواجب على المؤمن أن يسعد بأعماله الصالحة التي تُؤَدِّي إلى زيادة حسناته، وأن يحزن لأعماله الفاسدة التي تزيد من سيئاته، وهذه هي السُّنَّة النبوية؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ رضي الله عنه بِالجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا فَقَالَ -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم-: ".. مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ".
وروى الحاكم -وقال الذهبي: صحيح- عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَكَرِهَهَا حِينَ يَعْمَلُ، وَعَمِلَ حَسَنَةً فَسُرَّ بِهَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ".
وروى ابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: "إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَاتُكَ، وَسَاءَتْكَ سَيِّئَاتُكَ، فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ".
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَمَا الإِثْمُ؟ قَالَ: "إِذَا حَاكَ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ".
فهذه كلها روايات تُؤَكِّد أن المؤمن ينبغي أن يُسَرَّ بأعماله الصالحة كالصلاة والصدقة وصلة الرحم، وينبغي أن يشعر بالكراهية والحزن إذا وقع في معصية؛ كزلاَّت اللسان، وخطايا السمع والبصر، وغير ذلك من الذنوب، وهذا كلُّه علامة على صدق الإيمان بالله واليوم الآخر؛ فالمؤمن هو الذي سيفرح بالحسنات، ويحزن للسيئات؛ وذلك ليقينه في يوم الحساب، وليقينه بقدرة الله على معرفة الصغيرة والكبيرة وإحصائها؛ لذلك فقد أثبت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإيمانَ لمن كان هذا حاله، ولن يكون هذا إلا لمن كان واعيًا مستيقظًا متدبِّرًا في أحوال يومه؛ أما الغافلون فإنهم لا يلحظون ذلك ولا يكترثون به، فلْيحاسب كلٌّ منا نفسه، ولْيراجع سجلَّ حياته، قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

202) سُنَّة التداوي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يكون قويًّا صحيحًا معافًى؛ وقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ..".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على كل ما يُعطي المسلم هذه القوَّة؛ ومن ذلك أنه كان يأمر المريض بالبحث عن العلاج، وينهى عن التواكل في هذا الأمر؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَتِ الأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ نَتَدَاوَى؟ قَالَ: "نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً -أَوْ قَالَ: دَوَاءً- إِلاَّ دَاءً وَاحِدًا". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: "الهَرَمُ".
وفي رواية ابن حبان عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلاَّ وَقَدْ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، إِلاَّ السَّامَ وَالْهَرَمَ".
فبيَّن أن كل أمراض الدنيا لها علاج باستثناء الشيخوخة والموت؛ ففتح بذلك باب الأمل أمام كل المرضى؛ بل وروى أحمد -بسند صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ".
ففتح المجال أمام الأطباء ليبحثوا عن العلاجات الجديدة للأمراض المختلفة؛ وأكَّد لهم أن العلاج موجود في الدنيا لكن يحتاج إلى علم وبحث؛ فصار بذلك التداوي سُنَّة نبوية، وصار المؤمن مأجورًا عندما يذهب إلى الطبيب للعلاج؛ لأنه يُطَبِّق سُنَّة صريحة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه يبحث بسعيه للتداوي عن القوَّة والصحَّة؛ وهما مطلبان شرعيان حثَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعدَّدت بذلك أنواع الخير في التداوي، فما أبركها من سُنَّة!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

203) سُنَّة الوقف
تُعَدُّ سُنَّة الوقف من أروع الإضافات الحضارية التي أضافها رسول الله صلى الله عليه وسلم للإنسانية، فقَبْل الإسلام لم يكن أحدٌ يعرف شيئًا عن هذا العمل الجليل، والذي يستمرُّ نفعه آمادًا طويلة، وأصله ما رواه البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا".
فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ فِي الفُقَرَاءِ، وَالقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ.
فكانت سُنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر أن تُوقَف هذه الأرض لله عز وجل، فيظلُّ خراجها نافعًا للناس أبدًا، ولم تكن هذه هي الحادثة الوحيدة في السيرة النبوية، بل تكرَّرت كثيرًا، ومنها ما كان من بني النجار حين أوقفوا جزءًا من أرضهم لبناء المسجد النبوي؛ فقد روى البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، وَقَالَ: "يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا".
قَالُوا: لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ.
وفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه الشيء نفسه عندما اشترى بئر رومة ثم أوقفه لصالح كل المسلمين في المدينة، وذلك كما روى البخاري، قال: وَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ، فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ المُسْلِمِينَ". فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه.
وهكذا فإن هذه السُّنَّة لها تطبيقات كثيرة، فلْنجتهد في البحث عن مشروع ندعمه ليكون وقْفًا في سبيل الله، ولا مانع لو اشترك في ذلك عدَّة أفراد، أو قام به واحدٌ بمفرده، وهذه من السنن التي يستمرُّ أجرها بعد وفاة الإنسان، فما أجدرنا أن نحرص عليها!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

204) سُنَّة التوحيد في الصباح والمساء
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يُعْلِن شهادة التوحيد في كل يوم أكثر من مرَّة، وفي أكثر من مناسبة؛ وهذا لأن الغرض الرئيسي من بعثته صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأنبياء من قبله، هو توحيد الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]؛ لذلك سنجد أن كثيرًا من أذكاره وأدعيته صلى الله عليه وسلم كانت مهتمَّة بإبراز مسألة التوحيد وإعلانها، ومن ذلك أذكار الصباح والمساء؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. كَانَ لَهُ عِدْلَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ قَالَهَا إِذَا أَمْسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ".
والواقع أن العطاء الربَّاني لمن قال هذا النصَّ القصير غير مُتَخَيَّل! فسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم هو قول هذه الكلمات مرَّة واحدة في الصباح، وأخرى في المساء، وهذا يحتاج إلى أقلِّ من دقيقة؛ ومع ذلك فأجره عظيم للغاية، ويكفي أنه يعدل عتق رقبة، ولم يكتفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أنما ذكر أنها ليست مجرَّد رقبة عادية، وإنما من ولد إسماعيل عليه السلام، وهذا يدلُّ على زيادة شرفها، وبالتالي زيادة ثمنها؛ ومن ثَمَّ أجرها، وأضاف إلى ذلك أجورًا أخرى كما جاء في الحديث، وكلُّ ذلك ليُشَجِّع المسلمين على ترديد شهادة التوحيد يوميًّا، وقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ". فلعلَّ هذه الشهادة التي نُعلنها صباحًا ومساءً تكون آخر كلماتنا في الدنيا؛ فنُفلح فَلاَحًا لا شقاء بعده!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

205) سُنَّة العزم في الدعاء
جانب كبير من تحقيق عبوديتنا لله عز وجل يظهر في دعائنا له سبحانه؛ فدعاءُ اللهِ يعني أننا نُؤمن بقدرته على تحقيق ما نُريد، ويعني أننا نعلم أنه -سبحانه- لا شريك له؛ لذلك نطلب منه ولا نطلب من غيره؛ لهذا كان لزامًا علينا لتحقيق هذه المعاني أن نستمرَّ في الدعاء ونُكَرِّره؛ حتى إن لم تكن المؤشِّرات المادِّيَّة التي بين أيدينا تُشير إلى احتمال تحقُّق ما نُريد؛ ذلك لأن الله لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو يحبُّ لنا أن نعرف هذه القدرة له، ومن هنا كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يطلب من الله ما يُريد دون تردُّد أو شكٍّ؛ فقد روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي. فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ".

فقول العبد: اللهم إن شئتَ فأعطني. وإن كان ظاهره الأدب مع الله، فإنه يحمل معاني الشكِّ في قدرة الله على تحقيق ما نُريد؛ لذلك نهى عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا أن نعزم -أي نُؤَكِّد- في المسألة؛ بل كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يُكَرِّر دعاءه ثلاث مرات؛ وذلك لما رواه مسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: ".. وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا..". فهذا عزم وتأكيد في الدعاء.

ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستمرَّ في الدعاء حتى إن لم نرَ الإجابة السريعة لدعائنا؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي".

فلا بُدَّ لنا في دعائنا أن نتذكَّر أننا في عملية عبودية حقيقية لله عز وجل، وأن نتذكَّر كذلك أنه على فرض عدم تحقيق ما نُريد من دعوات في الدنيا فإن هذا الدعاء هو جزء من عبادتنا لخالقنا ورازقنا سبحانه، وهو في النهاية مُدَّخَر لنا يوم القيامة، فلْنعزم في المسألة، ولْنُلِحَّ في الدعاء، ولْنعلم أننا مأجورون عليه بصرف النظر عن الإجابة.

ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

206) سُنَّة الدعاء عند نزول المطر
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يكون منتبهًا للأحداث من حوله، فلا يَحدُث تغيير إلا ويكون المسلم واعيًا غير غافل، مدركًا أن الله عز وجل بيده كل شيء، وهو المتصرِّف في كونه، وهو الذي يُحْدِث التغيير أو يمنعه؛ ومن ذلك ما كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم عند رؤية المطر، فالمطر نفسه تغيير في حالة الجوِّ، فضلاً عن أنه يُحْدِث تغييرًا في الأرض عند نزوله، وهذا التغيير قد يكون جميلاً بالخضرة والنماء، وقد يكون قبيحًا بالإهلاك والفناء، والمسلم الواعي مدركٌ لذلك كله؛ لذلك كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أنه يدعو بدعاء خاصٍّ لكل نوع من المطر؛ فإن كان المطر خفيفًا لطيفًا كان له دعاء معيَّن، وإن كان شديدًا عنيفًا كان له دعاء آخر؛ فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى المَطَرَ، قَالَ: "اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا". فهذا دعاؤه في الحالة الأولى.
أما في الحالة الثانية، فقد روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَامَ النَّاسُ، فَصَاحُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ المَطَرُ، وَاحْمَرَّتِ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتِ البَهَائِمُ، فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا. فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا". مَرَّتَيْنِ، وَايْمُ اللَّهِ، مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ، فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ وَأَمْطَرَتْ، وَنَزَلَ عَنِ المِنْبَرِ فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ، لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى الجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، صَاحُوا إِلَيْهِ تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسْهَا عَنَّا. فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا". فَكَشَطَتِ المَدِينَةُ، فَجَعَلَتْ تَمْطُرُ حَوْلَهَا وَلاَ تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةٌ، فَنَظَرْتُ إِلَى المَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الإِكْلِيلِ.
والإكليل هو كل ما أحاط بالشيء، فقد صار المطر -بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم- يحيط بالمدينة، فيُنْبِت الزروع ويُكثر الكلأ، وذلك دون أن يُحدث إهلاكًا بالمدينة أو دمارًا، فهكذا عَلَّمَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننتبه للأمور من حولنا، فيكون لنا شأن مع كل تغيير.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

207) سُنَّة الرفق بالنفس
الإسلام دين الرحمة، ومن أعظم مظاهر رحمته أنه حَرَّمَ على المسلم أن يُعَذِّب أحدًا حتى نفسه، حتى لو كان هذا التعذيب في مجال العبادة؛ فالله عز وجل لا يرضى عن تحميل المسلم لنفسه مشقَّة فوق طاقته؛ قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]؛ لذلك كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يأمر المسلمين أن يترفَّقوا بأنفسهم؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ".
وقد وضح لنا في هذا الموقف الحدود الشرعيَّة لمسألة تعذيب النفس أو الرفق بها؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أبا إسرائيل رضي الله عنه أن يفرض على نفسه ما ليس موجودًا في السُّنَّة؛ كطول القيام دون حاجة، أو الوقوف في الشمس، أو عدم الكلام؛ بينما أمره أن يُتمَّ صومه لأن أمر شرعي موجود في السُّنَّة؛ فهذا هو المعيار، فلا يفرضنَّ أحدٌ على نفسه عملاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى لو كانت نيَّته التقرُّب به إلى الله.
ومثل ذلك ما رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَادَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟" قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ لاَ تُطِيقُهُ -أَوْ لاَ تَسْتَطِيعُهُ- أَفَلاَ قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ فَشَفَاهُ.
ومثله كذلك ما رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟"، قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ". وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ. وكان هذا في الحجِّ كما عرفنا من روايات أخرى، وهكذا وضحت لنا حدود السُّنَّة النبوية في هذا الأمر، فلْنرحم أنفسنا دون أن نُفَرِّط شيئًا في دين الله عز وجل.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

208) سُنَّة صلاة الجماعة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على وحدة المسلمين واجتماعهم؛ ومن ثَمَّ كان يحثُّ المسلمين بقوَّة على كلِّ ما يجمعهم ويُشْعِرهم بدفء الأخوَّة وروعتها؛ ومن ذلك حثُّه صلى الله عليه وسلم على صلاة الجماعة؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ".
فمع أن أركان الصلاة في صلاة الفرد وصلاة الجماعة واحدة فإن الأجر مضاعف بشكل كبير كما رأينا، وهذا لدفع المسلمين إلى الذهاب لبيت الله، ولقاء المسلمين هناك، وروى أبو داود -وقال الألباني: حسن- عَنْ أبي أمامة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ..".
ولم يُرِدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلمٍ أن يتخلَّف عن صلاة الجماعة؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ. فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ، فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى، دَعَاهُ، فَقَالَ: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَأَجِبْ".
فإذا كان لم يُرَخِّص لهذا الأعمى الذي لا يجد قائدًا فبدهيٌّ أنه لن يُرَخِّص لغيره؛ بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أشدُّ من ذلك؛ فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ".
وبعض العلماء جعل النصَّ السابق خاصًّا بصلاة الجمعة، وبعضهم جعله عامًّا على صلاة الجمعة والجماعة؛ لكن من الواضح للجميع الرغبة الشديدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في دفع كل المسلمين إلى صلاة الجماعة؛ فلْنحرص على هذه العبادة العظيمة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

209) سُنَّة حفظ السر
من أعظم الأخلاق وأهمِّها خُلُق الأمانة؛ لذلك كان هذا الخلق ملازمًا لكل الأنبياء، وحكى القرآن صورًا كثيرة من حوار الأنبياء مع أقوامهم، وكانوا دومًا يذكرون ذلك لهم؛ قال تعالى على لسان الأنبياء: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107]، وللأمانة مظاهر كثيرة؛ منها هذه السُّنَّة التي بين أيدينا، وهي سُنَّة حفظ السِّرِّ؛ ففي خطوات حياتنا نطَّلِع على أسرار كثيرة؛ سواء بعلم أصحابها أو بغير علمهم، وكانت سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفظ هذه الأسرار، خاصَّة إذا كان يعلم حرص صاحب السِّرِّ على عدم كشف سرِّه؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ التَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ".

فكشفُ السِّرِّ تضييعٌ للأمانة، وهو إثمٌ كبير، ويزداد الإثم شرًّا إذا كان كاشفُ السِّرِّ قريبًا من صاحبه؛ لأن صاحب السِّرِّ في هذه الحالة يُعطيه كامل الأمان، ولا يتوقَّع منه غدرًا، فتُصبح مصيبة كشف السِّرِّ أعظم؛ وقد روى مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا".

كما يزداد الإثم إذا كان كاشف السِّرِّ متعمِّدًا الإيذاء بنقله؛ فقد روى مسلم عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الأَمِيرِ، فَكُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا مِمَّنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الأَمِيرِ. قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ".

والقتَّات هو مَنْ ينقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم؛ فلْنحرص على حفظ أسرار الناس، ولْنعلم أنها من جملة الأمانات التي أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحفظها.

ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

210) سُنَّة السكوت عن عيوب الآخرين
مَنْ مِنَ الناس لا يُخطئ؟ ومَنْ منهم لا يتعثَّر؟ إن الخطأ مكتوب على جميع بني آدم؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ". ومما يُساعِد على التوبة أن يشعر المذنب أنه بتوبته سيعيش حياة طبيعية وسط الناس دون أن يُعَيِّره أحدٌ بذنبه أو خطيئته؛ لذا كان مِن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتتبَّع أخطاء الناس، وألا يتكلَّم عنها أمام أحد، من ناحيةٍ لأنه -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن الخطأ وارد على كل البشر، ومن ناحيةٍ أخرى كي يُسَهِّل عليه التوبة إن أرادها؛ لهذا حَذَّر بشدَّة من تتبُّع عثرات المسلمين؛ فقد روى ابن حبان -وقال الألباني: حسن صحيح- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمِنْبَرَ، فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، وَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَطْلُبُوا عَثَرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ، وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ".

فهذه هي السُّنَّة النبوية، وهي سُنَّة راقية جدًّا، ولكنها تحتاج إلى جهد جهيد؛ ذلك لأن الناس من طبيعتها حبُّ السعي لكشف أخطاء غيرهم والحديث عنها، ولعلَّ ما يمكن أن يُساعد في تجنُّب هذه العادة السيئة أن يضع المرء نفسه في مكان الآخرين، فعندها سيتمنَّى ألاَّ يتحدَّث أحدٌ عنه بسوء، وهذا ما لفت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النظر إليه في أحد أحاديثه؛ فقد روى ابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ".

والقذاة هي الشيء اليسير، ولا مقارنة بينه وبين جذع الشجرة، فعندما ترى وتُدرك هفوات الناس تَذَكَّر أن لك مصائب كبرى لعلَّها أضخم من هذه الهفوات عشرات المرات؛ فالأَوْلى أن ينشغل المرء بنفسه لا بغيره.

ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

211) سُنَّة العفو
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمجتمع المسلم أن يكون آمنًا هادئًا، ومع ذلك فهو كان يعلم أن البشر سيستمرُّون في الخطأ في حقِّ غيرهم ما دامت على الأرض حياة، وكان يعلم أن هذا سيُؤَدِّي إلى أحقاد كثيرة وضغائن بين الناس، وهذا يتعارض مع أمن المجتمع وهدوئه؛ ومن ثَمَّ كان من سُنَّته أن يعفو عن الناس، وأن يأمر المسلمين بالعفو عمَّن ظلمهم؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ".
والعفو يعني التجاوز عن خطأ أو ظلم وقع بالفعل، وهذه الروح المتسامحة هي التي تضمن سلامة المجتمع، أمَّا إصرار المرء على أخذ حقوقه بالكامل فهذا لن يترك المجتمع آمنًا أبدًا؛ خاصةً أن كل إنسان يرى من وجهة نظره أن الحقَّ دومًا معه وليس مع الخصوم! وقد رسم لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صورًا من المبالغة في العفو حتى يُشَجِّع الجميع على ممارسة هذا الخُلُق النبيل؛ ومن ذلك ما رواه الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَمْ أَعْفُو عَنِ الخَادِمِ؟ فَقَالَ: "كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً".
فالخادم لن يُخْطِئ في اليوم سبعين مرَّة، وبالتالي فهذا يعني العفو الدائم عنه، وهذا سيسهم -إلى جانب أمور أخرى تناولتها السُّنَّة- في إشاعة الهدوء والسكينة في المجتمع، وهو أحد مقاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه السُّنَّة الجميلة، وقد عظَّم اللهُ من أجر العفو عن الناس؛ فقال في كتابه:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]، وهذا يكفي لتحفيزنا على اتِّباع هذه السُّنَّة النبوية الرقيقة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

212) سُنَّة التفاعل مع القرآن
القرآن رسالة من الله إلى عباده؛ وينبغي للمسلم أن يستوعب ذلك عند قراءته لهذه الرسالة؛ قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ لهذا كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفاعل مع ما يقرأ من القرآن، وما أروع أن نُتابع وصف حذيفة رضي الله عنه لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ. فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً؛ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ..". وهذا هو المقصود من سُنَّة التفاعل مع القرآن.
وروى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ إِذَا قَرَأَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، قَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى".
وروى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ رحمه الله، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، قَالَ: "سُبْحَانَكَ". فَبَكَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ "سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
وروى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَسَكَتُوا، فَقَالَ: "لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الجِنِّ لَيْلَةَ الجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] قَالُوا: لاَ بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الحَمْدُ".
فهكذا ينبغي أن يكون تفاعلنا مع القرآن.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

213) سُنَّة التعوُّذ من عذاب القبر
القبر أول منازل الآخرة، وهو إمَّا نعيمٌ وإمَّا عذاب، وكان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ دومًا من عذاب القبر؛ فقد روى البخاري عنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ المَدِينَةِ، فَقَالَتَا لِي: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ. فَكَذَّبْتُهُمَا، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ عَجُوزَيْنِ، وَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: "صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلُّهَا". فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاَةٍ إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
وروى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ".
وروى البخاري عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، كَانَ يَأْمُرُ بِهَؤُلاَءِ الخَمْسِ: وَيُحَدِّثُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ".
ومثل هذه الدعوات كثيرة في السُّنَّة النبوية، فلْنوقن أننا قريبًا سنكون في قبورنا في حاجة للأمن به، فلْنكثر من الاستعاذة من عذابه، عسى الله أن يرحمنا!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

214) سُنَّة الخوف من الغيم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحساسية لرؤية الغيم؛ لأن الله عز وجل أهلك أقوامًا قبل ذلك به، فقد حكى القرآن قصة قوم عاد فقال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24، 25]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحضر هذه الصورة عند رؤية الغيم؛ وذلك مع أن الله سبحانه قد وعده بعدم إهلاك قومه وهو فيهم؛ حيث قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، إلا إنه كان يحبُّ لأُمَّته ألا تطمئنَّ في هذه الدنيا؛ بل تعيش على وَجَلٍ من عقاب الله، وهذا سيدفعها دومًا إلى مراجعة النفس والتوبة؛ وقد حَذَّر اللهُ عباده من شعور الأمن الزائف؛ فقال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99].
لهذا كانت هذه السُّنَّة النبوية؛ فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ، وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: "إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي". وَيَقُولُ، إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: "رَحْمَةٌ".
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية خاصَّة إذا عصفت الريح بالمدينة؛ فقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ، قَالَ: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ". قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ، سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: "لَعَلَّهُ، يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]".
فلتكن هذه هي مشاعرنا عند رؤية الغيم، أو عصف الريح.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

215) سُنَّة الاستعاذة من الكفر والفقر
قد تدفع شدَّةُ الفقر بعضَ الناس إلى فعل أي شيء لتوفير المال، وإنها لفتنة كبيرة ألا تجد ما يكفي لطعامك، أو ملبسك، أو علاجك؛ وذلك لك أو لأحد أفراد أسرتك، وقد يسقط بعض الناس في الفتنة سقوطًا يدفعهم إلى بيع دينهم للخروج من أزمة الفقر، وأمثلة هذا في التاريخ والواقع كثيرة، وهذا ما نفهمه بشكل غير مباشر من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فتنة الدنيا؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".
فبَيْعُ الدِّينِ هنا كان بعَرَضٍ من الدنيا، وهذا في حقِّ الفقراء المحتاجين أكثر؛ لهذا كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من الكفر، ويَقْرِن ذلك بالاستعاذة من الفقر الذي قد يقود إلى الكفر؛ فقد روى النسائي -وقال الألباني: صحيح- عن ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ سَمِعَ وَالِدَهُ، يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلاَةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ". فَجَعَلْتُ أَدْعُو بِهِنَّ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ؛ أَنَّى عُلِّمْتَ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ؟ قُلْتُ: يَا أَبَتِ سَمِعْتُكَ تَدْعُو بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلاَةِ، فَأَخَذْتُهُنَّ عَنْكَ. قَالَ: فَالْزَمْهُنَّ يَا بُنَيَّ، "فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلاَةِ".
وروى أحمد -بإسناد حسن- عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكَرَةَ، أَنَّهُ قَالَ لأَبِيهِ: يَا أَبَهْ؛ إِنِّي أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ: "اللهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. تُعِيدُهَا ثَلاَثًا حِينَ تُصْبِحُ، وَثَلاَثًا حِينَ تُمْسِي"، وَتَقُولُ: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. تُعِيدُهَا حِينَ تُصْبِحُ ثَلاَثًا، وَثَلاَثًا حِينَ تُمْسِي". قَالَ: نَعَمْ يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِنَّ، فَأُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ.
فصارت الاستعاذة من الكفر والفقر متكرِّرة في كل يوم مرَّات عديدة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقولها خمس مرَّات في دبر الصلوات الخمس، ويقولها ثلاث مرَّات في الصباح، ومثلها في المساء؛ مما يُعطينا مجموع إحدى عشرة مرَّة في كل يوم، وهذا رقم كبير يُوَضِّح لنا مدى اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء، فنسأل الله أن يُعيذنا من الكفر والفقر، ومن عذاب القبر.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

216) سُنَّة تكفير اليمين وفعل الأفضل
من الأفضل للمسلم ألا يُكْثِر من الحلف؛ فقد يَحدث أن يُغَيِّر المرء رأيه من وقت لآخر، فيُصبح الحلف بذلك قيدًا له، وقد يدفع الحلفُ الإنسانَ أحيانًا إلى فعل ما لا يُرضيه؛ بل إلى فعل ما لا يُرضي الله عز وجل، ومع ذلك فبعضُ الناس يُكْثِرون من الحلف، وهذا قد يُوَرِّطهم في أزمات كثيرة؛ لهذا جاءت هذه السُّنَّة النبوية الجميلة، والتي تهدف إلى راحة المسلم والمجتمع جميعًا، وهي سُنَّة مخالفة الشيء الذي حَلَفَ المسلمُ اليمينَ عليه؛ وهذا مع تكفير اليمين، وذلك في حال تَبَيَّن أنه يُؤَدِّي إلى فعل ما يضرُّ، أو فعل ما يُخالف الشرع؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ، مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ". ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ فَأُتِيَ بِإِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاَثَةِ ذَوْدٍ، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: لاَ يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا، أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا فَحَمَلَنَا. فَقَالَ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه: فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ".
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ لأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللهُ". والمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُريد للمسلم أن يُصِرَّ على تنفيذ يمينه إذا كان سيُوقع ضررًا بأهله؛ بل عليه أن يفعل الأفضل ويُكَفِّر عن يمينه.
وهذه السُّنَّة الجميلة رحمة من الله لعباده، وإعطاء الفرصة للمسلم كي يبحث دومًا عن الأفضل لنفسه وأهله ومجتمعه.
وكفارة اليمين تكون كما جاء في الآية الكريمة: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
فهذه هي سُنَّته صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

217) سُنَّة قصر الأمل
من أصعب سنن الرسول صلى الله عليه وسلم تطبيقًا سُنَّة قصر الأمل! فالإنسان مجبول على حبِّ الدنيا، والرغبة في طول العمر؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الأَمَلِ".

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم على العكس من ذلك يحبُّ للمسلم أن يزهد في الدنيا، ولا يتوقَّع أن يعيش فيها طويلاً؛ لأن إحساس المرء أنه سيعيش كثيرًا يدفعه إلى التسويف في التوبة، وكذلك في سائر الأعمال الصالحة، ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوُّرَه لحياته على أنها مجرَّد ساعة راحة في رحلة طويلة؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً. فَقَالَ: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا".

لهذا كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يشعر أنه مسافر في هذه الدنيا، فليست هي دار القرار؛ وقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ". وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ".

وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: "هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ -أَوْ: قَدْ أَحَاطَ بِهِ- وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا".

فلْيكن هذا شعورنا في كل لحظة؛ فالموت قريب، والدنيا قصيرة، والنجاة في سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

218) سُنَّة إنفاق المرأة من طعام بيتها
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ لروح العطاء والخير أن تشيع في المجتمع بكلِّ فئاته؛ رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، ومع ذلك فالمعتاد أن العطاء يكون أكثر من الرجال؛ وذلك لكونهم يكتسبون المال بأعمالهم، أمَّا المرأة فمالها قليل نسبيًّا؛ لأن معظمهن لا يعملن بالأجرة؛ فصارت مصادر المال عندهنَّ محدودة إلى حدٍّ ما؛ لذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ يحرم المرأة من هذه الروح المعطاءة؛ فبشَّرها أنها إذا أنفقت من طعام البيت، أو من مال الزوج، فإنها تُؤجر على ذلك؛ ووضع لذلك شروطًا حتى لا يُفْسِد العلاقة الزوجية إذا كان هذا الإنفاق على غير رغبة الزوج.
فكان الشرط الأول هو عدم التأثير على حالة البيت، فلا يكون الإنفاق مؤدِّيًا إلى عوز البيت أو حاجته.
والشرط الثاني هو أخذ السماح بشكلٍ عامٍّ من الزوج؛ وهذا يعني أنه ليس بالضرورة أن تأخذ إذنه عند كل عطاء، ولكن ينبغي أن تعرف أنه يسمح بإعطاء المحتاجين من طعام البيت وماله.
والأحاديث التي وضَّحت هذه المسائل كثيرة؛ منها ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لاَ يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا".
وكذلك روى البخاري واللفظ له ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا، عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ".
فلْتحرص النساء على هذه السُّنَّة فما أكثر المحتاجين! ولْيحرص الرجال على السماح لزوجاتهم بهذا العمل حتى يتشارك الجميع في الأجر.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

219) سُنَّة التداوي بالدعاء
يعتقد المسلم اعتقادًا جازمًا أن الشافي هو الله عز وجل؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وقد قال إبراهيم عليه السلام ذلك في معرض وصفه لربِّ العالمين؛ فهي صفة جليلة عظيمة من صفاته عز وجل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على زرع هذا المعنى في نفوس المؤمنين، فكان من سُنَّته أن يدعو الله بأدعية مختلفة حين المرض يطلب بها الشفاء منه سبحانه، ولم يكن هذا يعني أنه لا يهتمُّ بالطبِّ أو يحرص عليه، وإنما كان يهدف إلى تصحيح عقيدة المسلم؛ فالدواء لن يُحَقِّق الشفاء إلا بإذن الله، والدعاء الذي عَلَّمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وسيلة عمليَّة من وسائل العلاج.
وقد وَرَدَ في السُّنَّة النبوية أدعية كثيرة كلها تُؤَكِّد هذه المعاني العميقة، منها ما رواه مسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ. ثَلاَثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ".
وروى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ، مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا". فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَثَقُلَ، أَخَذْتُ بِيَدِهِ لأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى". قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى.
فهذه أمثلة عظيمة من السُّنَّة النبوية ينبغي أن نحفظها، وأن نتداوى بها، وأن نعتقد أن الشفاء بها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

220) سُنَّة غسل اليدين بعد الأكل
ما أكثر مظاهر النظافة في التشريع الإسلامي! وكلَّما قرأتَ شيئًا عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدتَ مظهرًا من هذه المظاهر؛ منها سُنَّة غسل اليدين بعد الأكل؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ".
والغمر هو السمن أو الدهن، وبقاياه لن تزول من اليد إلاَّ بالغسل الجيد؛ بل في رواية أخرى يذكر أن مجرَّد وجود الرائحة هو أمر مخالف للسُّنَّة؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ".
وهذه الإزالة للرائحة تحتاج إلى اهتمام وعزيمة؛ فلن يكفي فيها المسح بالمنديل، أو صبُّ الماء بسرعة، وكلُّ هذا حرص نبويٌّ كبير على النظافة، وقال المفسِّرون في شرح الحديث أن الهوام يمكن أن تُصيب الإنسان إذا جذبها الوسخ الذي في يده، أو رائحة الطعام، ولكن قد يكون الأمر أوسع من ذلك؛ فبقايا الطعام في اليد قد يكون لها من الأضرار ما يفوق مجرَّد اقتراب الحشرات من الإنسان، وما نعرفه اليوم عن البكتيريا والفطريات -وكلها لا يراه الإنسان بعينه المجرَّدة- يمكن أن يُلحق الأذى به، ولعلَّ هناك من الأمراض التي لم نكتشف لها سببًا بَعْدُ تكون ناتجة عن افتقاد النظافة الشخصيَّة، وعمومًا فهذه السُّنَّة راقية جدًّا، وممَّا يُذْهِل حقيقةً أن نتدبَّر في روعة ذِكْر هذه العادات في البيئة الصحراوية العربية القديمة، التي لم تعرف كثيرًا من مظاهر الحضارة، فتأتي السُّنَّة النبوية على هذه الصورة الجميلة، لِنُدرك أن هذا التشريع من عند إلهٍ قديرٍ، فلْنحرص على هذه السُّنَّة، ولْنُعَلِّم أبناءنا أننا نفعل ذلك اقتداءً برسولنا صلى الله عليه وسلم، وليس لتقليدِ غربٍ أو شرق.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

221) سُنَّة عدم سب الريح
جنود الله لا حصر لهم ولا عدد! وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح: 4]، ومن هذه الجنود الريح! فالله عز وجل يأمرها بما شاء، وهي طائعة في كل الأحوال، لا تأتي بخير أو بِشَرٍّ إلا بإذن الله؛ لذلك لا معنى أن يلعنها مؤمنٌ إذا جاءت على غير مراده، فإن الذي أرسلها هو الله سبحانه، وقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلاً لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لاَ تَلْعَنِ الرِّيحَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ".

وأثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم للريح هذه الجندية لله! فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ". والصبا هي ريح المشرق، ونُصِرَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزاب، والدبور هي ريح المغرب، وهي التي أهلكت عادًا، وهذا سِرُّ قوله صلى الله عليه وسلم أن الريح تأتي بالرحمة والعذاب؛ فقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ، وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا".

وعلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صيغة هذا السؤال والتعوُّذ؛ فقد روى أحمد بإسناد صحيح عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا مَا تَكْرَهُونَ، فَقُولُوا: اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَمِنْ خَيْرِ مَا فِيهَا، وَمِنْ خَيْرِ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَمِنْ شَرِّ مَا فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ".

فلْتكن هذه هي سُنَّتنا عند هبوب الريح، ولْنحفظ هذا الدعاء ونتدبَّر في معناه؛ فلعلَّ الله يجعل في ريحٍ نكرهها نصرًا لطائفة من المؤمنين، ولو بعيدًا عن موطننا.

ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

222) سُنَّة حفظ عشر آيات من الكهف
فتنة الدجَّال من أعظم الفتن التي ستمرُّ بالأرض؛ بل جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساويةً أو أشدَّ من فتنة الإنسان في قبره! فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "... فَأُوحِيَ إِلَيَّ: أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ -لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ...".
وذلك أن الفتنة بالدجَّال تقود إلى الكفر الصريح، وهذا يقود بدوره إلى الخلود الأبدي في جهنم؛ ومن هنا كان على المؤمن أن يستعدَّ لمثل هذه الفتنة الشديدة إذا ما قدَّر اللهُ له أن يرى الدجَّال، ومن وسائل هذا الاستعداد حفظ الآيات العشر الأولى من سورة الكهف؛ فإنها تعصم من فتنة الدجَّال؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ". وفي روايات أخرى عند مسلم قال: "مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ". وعند أبي داود -وقال الألباني: صحيح- "مَنْ حَفِظَ مِنْ خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْكَهْفِ".
ومع ذلك فالأشهر هو حفظ الآيات العشر الأولى وليست الأخيرة، وجاء في بعض الروايات حفظ ثلاث آيات فقط؛ وذلك في رواية الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَرَأَ ثَلاَثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ".
وقد اختلف العلماء في الحكمة من أن هذه الآيات تحديدًا تعصم من الدجال، والله أعلم بمراده، ولكن يُحتمل -في رأيي- أن فواتح الكهف ذكرت أمر إنذار مَنِ ادَّعى البنوَّة لله عز وجل؛ ومِن ثَمَّ ادَّعى الألوهية لغير الله؛ وذلك في قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4]، ونعلم أن الدجَّال سيدَّعي الألوهية؛ ومن هنا جاءت المشابهة.
كما أن الآيات العشر أدركت قصة الفتية الذين اعتزلوا في الكهف، وهذه وسيلة مهمَّة من وسائل تجنُّب فتنة الدجَّال، وهي وسيلة اعتزاله وتجنُّب لقائه؛ فقد روى أبو داود عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ؛ فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ".
أمَّا مَنْ قدَّر اللهُ أن يلقاه فليستعن عليه بقراءة الآيات العشر الأولى من الكهف؛ فقد روى مسلم عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ".. فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ..".
فلنحفظ هذه الآيات المباركة، ونسأل الله العصمة من فتنة الدجال.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

223) سُنَّة الدعاء لصاحب الوليمة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلمين أن يجتمعوا ويتَّحدوا، وكان يحبُّ لاجتماعاتهم أن تخرج عن التكلُّف والرسميَّة؛ وذلك حتى تترسَّخ بينهم روح الأخوَّة والمودَّة؛ ومن هنا كان يحبُّ اجتماع المسلمين على الطعام؛ فهذا يبعث الألفة بين المجتمعين؛ لذلك حضَّنا على إجابة الدعوة، وجعل ذلك حقًّا من حقوق المسلم؛ وذلك كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ".

وتشجيعًا للمسلمين للقيام بمثل هذه الولائم كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لصاحب البيت الذي قام بالدعوة وتجهيز الطعام، وكذلك الدعاء لأهله لأنهم بذلوا الجهد في إطعام الزائرين، وهذا الدعاء يَسُرُّ قلوب أهل البيت، ويدفعهم إلى تكرار الوليمة، كما يعوِّضهم خيرًا عن الجهد والكلفة والوقت الذي بُذِل في هذا العمل، وهناك عدَّة صيغ وردت في هذا المضمار؛ منها ما رواه أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ".

وروى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه، قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا فَأَكَلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُ وَيُلْقِي النَّوَى بِإِصْبَعَيْهِ جَمَعَ السَّبَّابَةَ وَالوُسْطَى -قَالَ شُعْبَةُ: وَهُوَ ظَنِّي فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَلْقَى النَّوَى بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ- ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ لَنَا. فَقَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ".

فلْنحفظ هذه الأدعية، ولندعُ بها بإخلاص لمن جمعنا على طعام.

ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

224) سُنَّة ترك الجدل
هناك بعض الأمور تُورِث الشحناء والبغضاء بين الناس؛ ومن ثَمَّ فإن وجودها قد يقود إلى زلزلة أركان المجتمع، وقد تُفْضِي في النهاية إلى هلكته؛ من هذه الأمور الجدل؛ لذلك حذَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ومن عواقبه، وكان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يمتنع منه، ويأمر المسلمين بذلك؛ وقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: حسن- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ". ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].
فهذا تحذير شديد، فالأمر قد لا يتوقَّف عند شحناء بين متخاصمَيْن؛ بل قد يشيع في المجتمع حتى يُؤَدِّيَ إلى هلكته، وعلى الجانب الآخر بَشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم التاركين للجدل بالجزاء الحسن من الله عز وجل؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: حسن- عَنْ أبي أمامة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ".
والأمور الثلاثة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبطة ببعضها البعض؛ فأصل المشكلة جدالٌ بين اثنين، فإذا زاد الجدل فقد يقود إلى الكذب؛ وذلك لتحقيق الانتصار على الخصم، ومَنْ فعل المراء والكذب ساء خُلُقُه؛ ومن ثَمَّ فالذي انتهى عن الجدل أغلق بعض أبواب الكذب، وهذا من حُسن الخلق، وهذا يساوي عند الله بيوتًا في الجنة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

225) سُنَّة كثرة الاستغفار
تتكاثر الذنوب -ولو كانت صغيرة- على العبد حتى تهلكه! فقد روى أحمد -بإسناد صحيح- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ".
وحيث إن العبد لا يستطيع أن يمتنع من الذنوب تمامًا لضعفه وغلبة نفسه الأمارة بالسوء عليه كان العلاج في الاستغفار والتوبة؛ ولأن الذنوب كثيرة لزم أن يكون الاستغفار كثيرًا أيضًا، وقد جاء في السُّنَّة بعض الأعداد التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمرات الاستغفار في اليوم، كسبعين أو مائة؛ ومع ذلك فقد جاءت السُّنَّة كذلك بفتح المجال للمسلم بالاستغفار الكثير الذي يخرج عن الإحصاء والعدد، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ثوابًا جزيلاً في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فتفريج الكروب والهموم وسعة الرزق، وأما في الآخرة فالبشرى من الله عز وجل؛ فقد روى أبو داود -وقال المنذري وابن حجر: حسن- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ".
وروى ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا".
فلنملأ أوقاتنا في حركاتنا وسكناتنا بالاستغفار، فإنه حقًّا خير الدنيا والآخرة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

226) سُنَّة حفظ القرآن
القرآن هو المعجزة الخالدة التي جعلها الله عز وجل حُجَّة على عباده إلى يوم الدين؛ وقد قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، والمسلم الواعي يستخدم هذا القرآن العظيم في تعريف الناس بربِّ العالمين وشرعه المجيد، وقد سَمَّى اللهُ هذا جهادًا؛ فقال: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]؛ أي جَاهِدْهم بالقرآن الكريم جهادًا كبيرًا؛ ومن هنا فإن الذي يحفظ القرآن يستطيع أن يستخدم الآية المناسبة في الظرف المناسب، وكلام الله ليس ككلام البشر؛ ومن ثَمَّ تكون الحُجَّة بالغة، وهذا هو الذي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تحفيز المسلمين على حفظ القرآن الكريم، فكانت هذه السُّنَّة المهمَّة؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني : حسن صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُقَالُ -يَعْنِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ-: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا".
وروى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ".
ومهمَّة حفظ القرآن مهمَّة صعبة تحتاج إلى متابعة وحرص، وقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرْآنِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ المُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ".
وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بِئْسَ مَا لأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ. بَلْ نُسِّيَ، وَاسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ".
ولكن هذه الصعوبة لها أجرها الهائل يوم القيامة؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَلِّهِ. فَيُلْبَسُ تَاجَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ. فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ. فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ. وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً".
فاللهمَّ يسِّر لنا تطبيق هذه السُّنَّة نحن وأبنائنا ومَنْ نحبُّ.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

227) سُنَّة قراءة المسبِّحات قبل النوم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بكثير من الأعمال التعبُّدية قبل أن ينام، وكأنه يشعر أن فترة النوم هي فترة يتوقَّف فيها العقل عن الذكر والخشوع والعمل لله عز وجل، فيُريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعَوِّض هذه الفترة بكثرة العبادة قبل النوم؛ وقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ المَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ".
فالنائم بنصِّ الحديث ليس عليه تكليف أو عبادة؛ ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى إلى تحصيل أكبر قدر من الحسنات قبل أن ينام لتكون حصيلته في اليوم كله كبيرة، ومن هذا أنه كان يقرأ بالمسبِّحات قبل أن ينام؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ المُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَيَقُولُ: "إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ".
والمسبِّحات -كما قال الطيبي- هي كلُّ سُورة افْتُتحت بسُبحان، وسبَّح، ويُسَبِّح؛ وهذا يعني أنه كان يقرأ قبل نومه سور: الإسراء، والحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن، والأعلى.
والآية الأعظم من ألف آية غير معروفة لنا، ولكي تستوثق من نيل أجرها ينبغي قراءة المسبِّحات كلها، وقد ورد في حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورتي الإسراء والزمر قبل أن ينام؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عن عَائِشَةُ رضي الله عنها، "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ".
وهذه في الواقع أعمال كثيرة، ولكن لو تذكَّرنا أن الحرف من القرآن بعشر حسنات هان علينا الأمر، فضلاً عن الآية التي تزيد في فضلها عن ألف آية؛ أي ما يقرب من سُدس القرآن، فهذا يدفعنا إلى مزيد من بذل الوقت في هذا العمل الجليل، ومَنْ لم يستطع أن يحافظ على ذلك كل ليلة، فلا ينبغي له أن يحرم نفسه من أداء هذه السُّنَّة ولو مرَّة كل أسبوع.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

228) سُنَّة إتباع السيئة بالحسنة
كثيرًا ما يشعر المؤمن بالأسى والحزن والندم بعد فعل سيئة؛ ولكن هذا الندم لا يُعيد الزمان مرَّة أخرى، وقد كُتِبَت هذه السيئة في كتاب العبد، وحيث إن هذا قد يدفع المرء أحيانًا إلى القنوط، لأنه لا يملك أن يُغَيِّر شيئًا في هذا الكتاب الغيبي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح لنا بابًا جميلاً وإيجابيًّا لإصلاح هذا الوضع، وهو فعل حسنة من الحسنات بعد الوقوع في السيئة، فإن هذه الحسنة تُعادل السيئة، وبالتالي كأنها مسحتها من الكتاب؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".
وروى أحمد -بإسناد حسن- عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً، فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى، فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الأَرْضِ".
وروى البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي هَذَا؟ قَالَ: "لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ".
فما أعظمها من سُنَّةٍ تُذْهِب السيئات، وتأتي بالحسنات، وترفع الدرجات، وتُحَوِّل العبدَ من عاصٍ يائس إلى طائع مُقْبِل!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

229) سُنَّة الشفاعة في الخير
كثيرًا ما يحتاج المسلم إلى كلمةٍ من أخٍ له تدعم موقفه حين تكون له حاجة عند إنسان؛ وقد حضَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا السلوك النبيل، ولا يخفى على أحد أن هذا لا يكون إلاَّ في الحقِّ، ولا ينبغي أن يكون وسيلة لواسطة تُعين على باطل، أو تُقِرُّ ظلمًا؛ وقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا". ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ، أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ، أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ".
فالموقف هو درسٌ تربوي متكامل؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القاعدة النظرية المهمَّة؛ وهي قاعدة مساعدة الأخ لأخيه، ثم أتبعها بالتطبيق العملي عندما جاء مسلمٌ يطلب حاجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حضَّ المسلمين على الشفاعة له، ولكي يزيد من حماستهم للشفاعة ذكر لهم أن الشافعين هم في الحقيقة المستفيدون من الشفاعة؛ لأنهم مأجورون على شفاعتهم، أما قضاء الله بالمشفوع له فهو نافذ لا محالة، ولن تُغَيِّر الشفاعةُ من الأمر شيئًا، ولن ينسى المسلمُ المحتاجُ شفاعةَ إخوانه له حتى لو لم تُغَيِّر من الواقع شيئًا، وهذا سيُشيع أجواء المحبَّة والودِّ في المجتمع.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

230) سُنَّة الفأل
يُصبح الإنسان أكثرَ إنتاجية كلما ارتفعت معنوياته؛ فاليأس مُقْعِدٌ، والأمل والتفاؤل مُحَرِّكان لكلِّ عاطفة إيجابية؛ لهذا كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبِّ الفأل الحسن، وكان يأخذ فأله من مجرَّد كلمةٍ طيبةٍ يسمعها؛ فقد روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الفَأْلُ". قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: "الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ".
وطَبَّق هذا كثيرًا في حياته صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لاَ يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلاً سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ".
وروى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَسْمَعَ: يَا رَاشِدُ، يَا نَجِيحُ".
وروى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ كَلِمَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ: "أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ".
فلْنَعِشْ هذه الروح المتفائلة، ولْنأخذ فألنا من كلمات بسيطة نسمعها هنا أو هناك، ولْنَفُزْ بأجر السُّنَّة، ولا يُغَيِّر شيءٌ في النهاية من قَدَرِ الله عز وجل.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

231) سُنَّة دعاء المقابر
كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة المقابر، وهي زيارة تُذَكِّر بالآخرة؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يَشْعُر أنه قريبًا سينتقل إلى حياة جديدة، وليس إلى فناء أو عدم؛ لذلك كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الأموات بالسلام والكلام والدعاء؛ مما يُرَسِّخ عند المؤمن أن هؤلاء الأموات في الحقيقة يعيشون حياة أخرى، وهذه بعض الأمثلة لما كان يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقابر؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَةِ فَقَالَ: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ".
وروى مسلم عَنْ عائشة رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ".
وروى مسلم عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ -فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ-: السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ. -وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ-: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلاَحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ".
وفي رواية مسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها... قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: قُولِي: "السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ".
ولعلَّنا نلحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الأدعية يخاطب الأموات ويدعو لهم بالخير؛ ومن هنا يشعر المسلم أنه يُكَلِّم إخوانًا له سبقوه في رحلة طويلة، وهو لاحقٌ بهم عما قريب، فلْنحفظ هذه الأدعية، ولنشعر بهذه المشاعر الرقيقة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

232) سُنَّة إجابة الدعوة
من العلامات الإيجابية في المجتمع المسلم أن تجد بعض المسلمين يهتمُّون بإعداد الولائم، ودعوة أصدقائهم ومعارفهم إلى الطعام؛ لأن هذا يُقَرِّب بين القلوب، ويُذِيب ما قد ينشأ من خلافات بين الناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر بمدى الجهد الذي يبذله صاحب الوليمة؛ حيث يُنفق المال، ويقضي الوقت في الطبخ والإعداد، ويُجَهِّز المكان، بالإضافة إلى استعداده النفسي لاستقبال عدد من الأصدقاء والاحتفال بهم؛ لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره جدًّا أن يرى بعض المسلمين يُعرضون عن إجابة الدعوة، ويرفضون حضور الولائم؛ لأن هذا يُمَثِّل إحراجًا للداعي، كما أنه يُسَبِّب له خسارة مادِّيَّة؛ حيث قد يضطرُّ إلى التخلُّص من كميات الطعام التي أُعِدَّت بلا طائل؛ لهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إجابة الدعوة حقًّا من حقوق المسلم الداعي؛ فقد روى البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ".
وأكثر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تنبيه المسلمين إلى مسألة إجابة الدعوة؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُكُّوا العَانِيَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَعُودُوا المَرِيضَ".
وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا".
ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم للوليمة حجمًا أو قدرًا؛ إنما نبَّه المسلمين إلى أن يجيبوا الدعوة ولو كانت بسيطة وإلى طعام زهيد؛ فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ".
والذراع هو يد الحيوان، والكراع هو ما استدقَّ من ساق الحيوان، والمرادُ توضيح بساطة الوليمة، فعلى المسلم إن وُجِّهَت له دعوة أن يُلَبِّيَها؛ فإن إجابتها سُنَّة عظيمة من سنن نبيِّنَا صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

233) سُنَّة اللعب مع الزوجة
على الرغم من كثرة الأعمال والهموم والمشاغل التي كانت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان بالغ الاهتمام ببيته وحياته الزوجية، ولم يكن هذا الاهتمام يقف عند حدِّ الحاجات الأساسية للبيت؛ مثل: توفير الطعام والشراب والعلاج، وغير ذلك من الأمور، إنما كان يتعدَّى ذلك إلى الاهتمام الكبير بالراحة النفسية والسعادة لزوجاته صلى الله عليه وسلم، وكانت إحدى وسائله صلى الله عليه وسلم في تحقيق هذه الراحة اللعب مع الزوجة! وقد ورد أكثر من موقف في حياته صلى الله عليه وسلم يدُلُّنا على هذا الأسلوب الرقيق في تلطيف الحياة الزوجية؛ فقد روى النسائي -وقال الألباني: صحيح- عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ وَهِيَ جَارِيَةٌ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: "تَقَدَّمُوا". ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَيْ أُسَابِقْكِ". فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلِي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: "تَقَدَّمُوا". ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَيْ أُسَابِقْكِ". وَنَسِيتُ الَّذِي كَانَ وَقَدْ حَمَلْتُ اللَّحْمَ، فَقُلْتُ: كَيْفَ أُسَابِقُكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ فَقَالَ: "لَتَفْعَلِنَّ". فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: "هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ".
وفي رواية صحيحة لأحمد: ".. فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: "هَذِهِ بِتِلْكَ".
وروى النسائي -وقال الألباني: حسن- عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَزِيرَةٍ طَبَخْتُهَا لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَهَا فَقُلْتُ لَهَا: كُلِي. فَأَبَتْ، فَقُلْتُ: لَتَأْكُلِنَّ أَوْ لأَلْطَخَنَّ وَجْهَكِ. فَأَبَتْ، فَوَضَعْتُ يَدِي فِي الْخَزِيرَةِ فَطَلَيْتُ بِهَا وَجْهَهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعَ فَخِذَهُ لَهَا وَقَالَ لِسَوْدَةَ: "الْطِخِي وَجْهَهَا". فَلَطَّخَتْ وَجْهِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا، فَمَرَّ عُمَرُ فَنَادَى: يَا عَبْدَ اللَّهِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ. فَظَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيَدْخُلُ، فَقَالَ: "قُومَا فَاغْسِلاَ وُجُوهَكُمَا". قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَا زِلْتُ أَهَابُ عُمَرَ لِهَيْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ".
وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: "كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي".
والشاهد من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على وجود هذا الجوِّ المرح في أسرته، وهذا من دعائم نجاح الحياة الأسرية.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

234) سُنَّة القناعة
من أكثر الأمور إسعادًا للإنسان في الدنيا والآخرة أن يرضى بما قسم الله له، والغنيُّ حقًّا هو غنيُّ النفس؛ فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ". وكثرة العرَض تعني كثرة المال والأملاك، ولقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّةً جميلةً تُرَبِّي نفوسنا على القناعة والرضا؛ وهي سُنَّة النظر إلى مَنْ هم أقل منَّا في النعم، وعدم النظر إلى مَنْ هم أعلى منَّا فيها؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ -قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ- عَلَيْكُمْ".
فهي سياسة نبوية رائعة؛ فالله عز وجل أعطى كلَّ عبدٍ من عباده بعض النعم وحرمه أخرى، والإنسان الذي ينظر إلى مَنْ فوقه يعيش تعيسًا دومًا، ويشعر بالفقر والحرمان؛ حتى لو كان يملك الكثير؛ بينما الذي ينظر إلى مَنْ هو دونه يشعر بالغنى والرضا؛ ولو كان فقيرًا معدمًا، وليس هذا في المال فقط؛ وإنما في الجسم والصحة، وكذلك في الحسب والنسب؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ".
وروى ابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ".
فلْتكن هذه سُنَّة ملازمة لنا تُعَلِّمنا القناعة والرضا بما في أيدينا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

235) سُنَّة الستر
ليس من أحدٍ إلاَّ وله خطايا لا يحب لإنسانٍ أن يَطَّلِع عليها، وكَشْفُ هذه الخطايا يُضْعِف الإنسان، ويكسر نَفْسَه، وقد يتوارى عن أنظار الناس فيفقد المجتمع عنصرًا من عناصره؛ ومن باب آخر فقد يَفقد الإنسانُ حياءه عندما تُكْشَف أسراره، ويَعتبر أن عملاً مشينًا مثل عدَّة أعمال، فيتجرَّأ على المعصية، ويُكْثِر من الخطايا؛ لهذا كله فإن الله يحبُّ الستر لعباده المؤمنين؛ وذلك حتى لا تشيع الفاحشة في المجتمع، ولا ينكسر المؤمن، وتظلَّ العلاقات طبيعية بين المسلمين؛ وقد روى أبو داود عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ..".
ولذلك كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستر على المسلمين، ويحضُّ المسلمين على فضيلة الستر؛ فقد روى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ".. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ". ويشمل هذا الستر في كل شيءٍ، حتى في الذنوب العظام!
وقد روى أحمد -بسند صحيح- عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ: أَنَّ هَزَّالاً كَانَ اسْتَأْجَرَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا: فَاطِمَةُ. قَدْ أُمْلِكَتْ، وَكَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُمْ، وَإِنَّ مَاعِزًا وَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَ هَزَّالاً فَخَدَعَهُ، فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ، عَسَى أَنْ يَنْزِلَ فِيكَ قُرْآنٌ. فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ، فَلَمَّا عَضَّتْهُ مَسُّ الْحِجَارَةِ، انْطَلَقَ يَسْعَى، فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِلَحْيِ جَزُورٍ، أَوْ سَاقِ بَعِيرٍ، فَضَرَبَهُ بِهِ، فَصَرَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلَكَ يَا هَزَّالُ، لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ، كَانَ خَيْرًا لَكَ".
وهذه ليست دعوة لفتح المجال للمعاصي؛ فغالب الأمر أن ماعزًا لم يكن ليعود لفعل الفاحشة بعد أن أطلع هزَّالاً على سرِّها، وكان الأولى لهزَّال -كما بَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يستر ماعزًا، ولعلَّ هذا يفتح له أبوابًا كثيرة للتوبة والعمل الصالح، ولم يكن هناك بُدٌّ أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجم ماعز؛ لأن الأمر رُفِعَ إليه كحاكم، ولو ستره المسلمون قبل أن يصل أمره إلى الحاكم لعُصِم من القتل.
وقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ".
فلْنستر إخواننا من المسلمين، ولْنعلم أن ما وقع منهم من خطايا يمكن أن نقع فيه غدًا، وكما نحبُّ لأنفسنا السترَ ينبغي أن نحبَّه لغيرنا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

236) سُنَّة صلاة العشاء والفجر في جماعة
لا شكَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحثُّ المسلمين على صلاة الجماعة في المسجد في كل الأوقات؛ ومع ذلك فقد كان لديه اهتمام خاصٌّ بصلاتي العشاء والصبح، وقد يكون ذلك لصعوبتهما على المسلمين؛ لكونهما يأتيان في وقت راحة للإنسان، بعد عناء يوم طويل، وأيضًا لأن المسلم يكون قد انتهى من أعماله ومشاغله؛ لذلك فهو يخرج من بيته خصوصًا للصلاة، وليست كصلوات الظهر والعصر والمغرب؛ حيث يكون المسلم في عمله، ويكون وجوده خارج بيته دافعًا له إلى الصلاة مع الناس على أية حال؛ ولعلَّ هذا الذي يجعل صلاة العشاء والصبح في جماعة ثقيلة على المنافقين؛ حيث يصعب عليهم التوجُّه بشكل خاصٍّ ومقصود إلى هاتين الصلاتين، وهذا ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تصريحًا؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَثْقَلَ صَلاَةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا..".
وأجر هاتين الصلاتين أجر هائل؛ فقد روى مسلم عن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ".
وروى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ".
فلْيجتهد كلٌّ منَّا على الحفاظ على أداء الصلوات في المساجد بشكل عام، وبالأخصِّ صلاتي العشاء والصبح.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

237) سُنَّة الصمت
أكثر ما يدفع الإنسانَ إلى جهنم لسانُه! إلى الدرجة التي جعلت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْصُر الأسباب الدافعة إلى دخول النار عليه؛ فقد روى الترمذي -وقال: حسن صحيح- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ".
وآفات اللسان كثيرة، ومنها الغيبة، والنميمة، واللعان، والفحش، والكذب، والمراء، والكلام فيما لا يعني، والافتخار، والخداع، والغش، والسخرية، والمزاح بغير الحقيقة، وغير ذلك مما لا يُحْصَى من الذنوب، وتجنُّب الوقوع في كل هذا صعب للغاية؛ ومن ثَمَّ فلا نجاة للعبد إلاَّ بكثرة الصمت، وهي سُنَّة نبوية حافظة وواقية من جهنم، وعلامة على صدق الإيمان؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ..".
ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن الخطأ، ومع أن وظيفته النبوية تتطلَّب الكلام للإبلاغ والتبيين، فإنه كان قليل الكلام، كثير الصمت، وقد روى أحمد -بسند حسن- عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَكَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ، قَلِيلَ الضَّحِكِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ، وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَيَضْحَكُونَ، وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ".
وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ "يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ العَادُّ لأَحْصَاهُ". أي لقَدِرَ السامعُ أن يُحْصِيَ كلماته لقِلَّتِهَا، فلْتكن هذه سُنَّتنا، وهي سُنَّة صعبة لأن الكلام شهوة، ولكن فيها النجاة إن شاء الله.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

238) سُنَّة عدم ضرب الخادم
من الأخلاق القبيحة المنتشرة في كثير من الأوساط سوء معاملة الخدم والعمال، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى الضرب والتعذيب، وإن هذا لأمر منكر جدًّا في الإسلام، وكان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن التعرُّض بأي إيذاء للخدم والأرقاء والضعفاء بشكل عامٍّ؛ وقد روى مسلم عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ، قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما وَقَدْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا، قَالَ: فَأَخَذَ مِنَ الأَرْضِ عُودًا أَوْ شَيْئًا، فَقَالَ: مَا فِيهِ مِنَ الأَجْرِ مَا يَسْوَى هَذَا؛ إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ".
ففي هذا الموقف نجد أن ابن عمر رضي الله عنهما لا يحتسب في عتق هذا العبد أيَّ أجرٍ، وذلك لأنه لطمه، فكان لزامًا عليه أن يعتقه تكفيرًا عن الذنب الكبير الذي وقع فيه، ولم يكن هذا العتق بذلك تفضُّلاً ولا مِنَّة؛ إنما كان إنقاذًا للنفس من عقاب الله عز وجل، وقد تكرَّر الموقف نفسه مع أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: "اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ". فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ. فَقَالَ: "أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ"، أَوْ "لَمَسَّتْكَ النَّارُ".
وروى مسلم عَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: عَجِلَ شَيْخٌ فَلَطَمَ خَادِمًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه: عَجَزَ عَلَيْكَ إِلاَّ حُرُّ وَجْهِهَا، "لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِي مُقَرِّنٍ مَا لَنَا خَادِمٌ إِلاَّ وَاحِدَةٌ، لَطَمَهَا أَصْغَرُنَا، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُعْتِقَهَا".
فلْيرحم كلٌّ منَّا خادمه، ولْيعلم أنه كما ابتُلِي الخادمُ بخدمة الآخرين ابتُلِي القادرون بالإحسان إليه.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

239) سُنَّة عدم الإلحاف في المسألة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يكون عزيزًا مترفِّعًا، لا يسأل الناس شيئًا، ولو حدث مرَّة وسألهم فإنه لا يُكَرِّر عليهم المسألة؛ لئلاَّ يكون في ذلك إراقة لماء وجهه، أو إهدار لكرامته؛ لذلك كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بعدم الإلحاف في المسألة؛ أي عدم التذلُّل والتملُّق وكثرة الطلب في أي أمر؛ فقد روى مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللهِ! لاَ يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ".
وهو الأمر الذي ذكره الله عز وجل في كتابه عندما مدح الفقراء الذين لا يُكَرِّرون المسألة على الناس فقال: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
وروى ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ".
ومَنَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حكيمَ بنَ حزام رضي الله عنه من تكرار السؤال موضِّحًا له أن هذا يمحق البركة؛ فقد روى البخاري عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: "يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى".
فلْنتعفف عن سؤال الناس، ولو حدث واضطررنا إلى ذلك فلْنحرص على عدم تكرار المسألة، وستجري كلُّ الأمور بقَدَرِ اللهِ مهما كان.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

240) سُنَّة إسقاط جزء من الدَّيْن
من أعظم الهموم التي تُشغل الإنسان همُّ الدَّيْن، وهو ليس همًّا دنيويًّا فقط إنما أخروي كذلك؛ وقد روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ قُلْتَ؟" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْنَ؛ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لِي ذَلِكَ".
فهذه الدرجة السامقة من الشهادة لا تكفي للتكفير عن دَيْنٍ غير مُسَدَّدٍ؛ لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ لكل مَدِين أن يقضي دَيْنه قبل موته، ولمـَّا كان هذا صعبًا في بعض الأحيان لفقر المدين جاءت هذه السُّنَّة الرحيمة لترفع هذا الحرج؛ وهي سُنَّة إسقاط جزء من الدَّيْن لتمكين المدين من السداد، وهذا ولا شك برضا الدائن؛ فقد روى البخاري عَنْ كَعْبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ رضي الله عنه دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: "يَا كَعْبُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا". وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ: أَيِ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "قُمْ فَاقْضِهِ".
وبعض الناس قد يُصِيبُه الضيقُ لهذا الحلِّ؛ لأنه أضاع شيئًا من حقِّ الدائن، ولكن الواقع أن المدين في هذه الحالة كان عاجزًا عن السداد تمامًا؛ ومن ثَمَّ كانت الفائدة لن تتحقَّق لكلاَّ الطرفين؛ الدائن والمدين، وأيُّ عقوبة يُوقعها الحاكم على المدين لن يستفيد الدائن منها؛ لهذا جاءت هذه السُّنَّة العملية لتُحَقِّق شيئًا من الرضا للطرفين، وهو ما يفعله كثير من البنوك اليوم مع المتعسِّرين في السداد، وقد سبق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الجميع بتقنين هذه السُّنَّة الجميلة؛ بل كان يغضب عندما يرى متعنِّتًا لا يُريد أن يتسامح في جزء من دَيْنه؛ فقد روى البخاري عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟"، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ.
أي قَبِل الصحابي رضي الله عنه شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقرَّر أن يضع شيئًا من الدَّيْن كما يحبُّ المدين، فلْنجعل هذه السُّنَّة الرحيمة منهجًا لنا في تعاملاتنا مع المتعسِّرين، ولْيحرص كلُّ مدين على السداد قبل موته قدر ما يستطيع.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

241) سُنَّة حسن الظن بالله
لأن ذنوب العبد كثيرة فإنه أحيانًا يظنُّ أنه هالكٌ لا محالة، وهذا اليأس من المغفرة يدفعه إلى بُعْدٍ عن التوبة، أو يقوده إلى قعود عن العمل لعدم جدواه فيما يظنُّ؛ لذلك كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حُسْنُ الظنِّ بالله؛ مما يُشَجِّع المسلم دومًا على التوبة والعمل الصالح؛ فقد روى مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلاَثٍ، يَقُولُ: "لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ".
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
فالذي يتوقَّع من الله الرحمةَ يرحمه؛ لهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على الاطمئنان على هذا الفهم عند بعضهم البعض؛ خاصَّة في لحظات المرض الذي قد يُفْضِي إلى الموت، فقد روى أحمد -بإسناد صحيح- عن حَيَّانِ أَبِي النَّضْرِ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ رضي الله عنه عَلَى أَبِي الأَسْوَدِ الْجُرَشِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو الأَسْوَدِ يَمِينَ وَاثِلَةَ فَمَسَحَ بِهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَوَجْهِهِ لِبَيْعَتِهِ بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ وَاثِلَةُ رضي الله عنه: وَاحِدَةٌ، أَسْأَلُكَ عَنْهَا؟ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: كَيْفَ ظَنُّكَ بِرَبِّكَ؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ: وَأَشَارَ بِرَأْسِهِ؛ أَيْ حَسَنٌ. قَالَ وَاثِلَةُ: أَبْشِرْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ".
وهذه السُّنَّة لا يُقْصَد منها أن يستمرئ الإنسان ارتكاب المعاصي والخطايا ثم يتعلَّل بأنه يُحسن الظنَّ بالله؛ فإن إحسان الظنِّ لا بُدَّ أن يكون مقرونًا بصدق التوبة، وحُسن العمل فيما تبقَّى من العمر، فهذا الذي يُؤَكِّد صدق الإيمان، وهذا الذي يستجلب رحمات الله.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

242) سُنَّة التعزية
المؤمنون أُمَّةٌ واحدة؛ لذا ينبغي لكل مسلم أن يفرح لفرح إخوانه وأن يحزن لمصابهم؛ وقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا". وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ؛ لذا فقد كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بواجب التعزية للمسلم إذا مات قريبٌ له؛ فقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: حسن- عن مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ، إِلاَّ كَسَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وروى الترمذي -وقال ابن حجر: حسن- عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ".
وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات جميلة يقولها لأهل الميت يُصَبِّرهم بها؛ فقد روى البخاري عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ؛ فَأْتِنَا. فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ: "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ". فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ -قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ- فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: "هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ".
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتفي بالكلمات بل كان يُقدِّم المساعدة؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ رضي الله عنه، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اصْنَعُوا لأَهْلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ".
فلْتكن هذه هي سُننا في تعزية إخواننا وأخواتنا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

243) سُنَّة دعاء الاستيقاظ من النوم
يُعتبر النوم موتًا مؤقَّتًا! وهو يُشبه الموت في أمور كثيرة، وأراد الله عز وجل للمسلم أن يُدرك هذه الحقيقة؛ وذلك حتى يستعدَّ عند موته لمغادرة الدنيا، فيُحاسب نفسه، ويتوب عن ذنوبه، ويعمل بعض الصالحات؛ لذا قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]، فواقع الأمر أن الله "يتوفَّى" أرواح كل البشر عند نومهم، فيُمسك بعضها -أي يموتوا- ويُرسل الأخرى -أي يعيشوا- وذلك عند نوم أي إنسان، وهذا شعور لو أحسَّ به العبد عند نومه فلا شك أنه سيحاول أن يكون في مظهرٍ طيبٍ في لقائه الأول في عالم الآخرة، وهذا لا يكون إلا بتوبة وعمل صالح؛ لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل نومه بتذكير نفسه بأنه قد يكون مُقبلاً على الموت، ويستقبل يومه عند استيقاظه بحمد الله أن أعطاه حياة جديدة في هذا اليوم؛ فقد روى البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: "بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا".
وَإِذَا قَامَ قَالَ: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ".
ووَجْهُ الحمدِ هنا أن هناك فرصة جديدة لزيادة الحسنات بالعمل الصالح، وإنقاص السيئات بالتوبة، كما أن الدعاء النبوي يُذَكِّر المؤمن بيوم العودة النهائية إلى الله -أي يوم القيامة- وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِلَيْهِ النُّشُورُ". فهذا سيدفع المؤمن إلى أن يقضي يومه الجديد في عمل ينفع في الآخرة. إنها سُنَّة جميلة تُصْلِح الدنيا والآخرة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

244) سُنَّة الشرب جالسًا
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ لأُمَّته أن يكون لها سمتها الخاص؛ لذا كان له هَدْيٌ في أمور كثيرة قد يظنُّها الناس من العاديات التي يفعل فيها كل إنسان ما يشاء؛ مثل: أمور الطعام، والشراب، واللباس، والكلام، وغير ذلك من أمور، وهي ما يُسَمِّيها الغربُ "قواعد الإتيكيت"، وللأسف قد يتقبَّل بعض المسلمين تنفيذ هذه القواعد الغربية ويتكاسلون في تنفيذ قواعد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم! ومن هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يشرب جالسًا؛ بل نهى عن الشرب قائمًا؛ فقد روى مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا".
وروى مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، "أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا"، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْنَا: فَالأَكْلُ؟ فَقَالَ -أي أنس رضي الله عنه-: "ذَاكَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ".
بل أكثر من ذلك روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ".
وروى أحمد والبيهقي وابن حبان -وقال الألباني والأرناءوط: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ مَا فِي بَطْنِهِ لاَسْتَقَاءَ".
ومع كل ذلك ورد في البخاري أنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه وقف عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ "فَشَرِبَ قَائِمًا"، فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِنِّي "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ".
وللعلماء في تفصيل هذا الاختلاف أقوال كثيرة، ورَأْيُ الجمهور أن السُّنَّة أن يشرب المسلم جالسًا، وأنه يجوز له أن يشرب قائمًا؛ ولكن يُكْرَه له ذلك، كما يُستحَبُّ لمن شرب قائمًا أن يستقيء، وعلَّل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى بأن الشيطان يشرب مع المسلم إذا شرب قائمًا؛ فقد روى أحمد وابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَشْرَبُ قَائِمًا فَقَالَ لَهُ: "قِه". قَالَ: لِمَهْ؟ قَالَ: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الْهِرُّ؟". قَالَ: لاَ. قَالَ: "فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، الشَّيْطَانُ".
فلْيحرص كلٌّ منا على الشرب جالسًا ما استطاع؛ فإن ذلك من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

245) سُنَّة اتخاذ مسجد في المنزل
قد يستغرب بعض الناس وجود مثل هذه السُّنَّة، وهي سُنَّة اتخاذُ مسجدٍ في المنزل؛ خاصة مع صغر مساحة معظم البيوت في زماننا، ولكنها سُنَّة نبوية جميلة تُحَقِّق فوائد مهمَّة، وليس بالضرورة أن يكون المسجد الذي يُتَّخَذ في البيت منفصلاً عن البيت، أو له حجرة خاصة؛ إنما المقصود تخصيص مكان في البيت يكون مَحِلاًّ للصلاة، وإعطاء هذا المكان شكل المسجد ببعض الترتيب البسيط، وجاءت هذه السُّنَّة في أحاديث مختلفة؛ فقد روى الترمذي وأبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ".
وروى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِهِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْمَسَاجِدِ أَنْ نَصْنَعَهَا فِي دِيَارِنَا، وَنُصْلِحَ صَنْعَتَهَا وَنُطَهِّرَهَا".
ويرى بعض العلماء أن المقصود بالدار هنا هو محلُّ القبيلة أو الحيِّ، وليس المقصود به المنزل الخاص بكل إنسان؛ ولكن يرى آخرون أن المقصود هو منزل الفرد، وفيه يمكن للمسلم أن يُصَلِّيَ النوافل، وقيام الليل، وتُصَلِّي فيه المرأة، وكذلك الرجل إذا تعذَّر ذهابه للمسجد الجامع، ويُؤَيِّد أن المقصود بالدار هو المنزل الخاص ما رواه البخاري عن عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ، فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا. فَقَالَ: "أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟"، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ.
فهذا المسجد الذي في حديث عتبان رضي الله عنه هو مجرَّد زاوية من زوايا البيت، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ".. ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ..".
وكان هذا بفترة مكَّة قبل الهجرة، والواقع أن وجود مثل هذا المسجد في البيت سيُعطي الراحة النفسية للمُصَلِّي، كما سيكون مكانًا لتعليم الأطفال الصلاة، أو الاجتماع على قراءة القرآن، كما أنه سيُبْرِز اهتمام الأسرة بالصلاة، وقد يراه زائر لا يُصَلِّي فتعظم في قلبه الصلاة، وهذا كله بالإضافة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بهذه السُّنَّة وحسَّنها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

246) سُنَّة ضَمِّ الصبيان أول الليل
يحرص الإسلام على رعاية الأطفال وحفظهم من التعرُّض لأي ضرر، وقد يهتمُّ الناس بحفظ أطفالهم مما يرونه من أذى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزيد على ذلك حفظهم مما "لا نراه" من مخاطر! وأعني بذلك الجنَّ والشياطين، ووسائل الحفظ منهم كثيرة؛ ومن ذلك سُنَّة ضمِّ الصبيان في البيت عند أول الليل؛ أي عند ساعة المغرب؛ فقد روى البخاري عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ، أَوْ أَمْسَيْتُمْ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا".
وفي رواية أخرى للبخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ".. وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ العِشَاءِ، فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً..".
ومعنى الأحاديث أن الشياطين تنتشر عند أول الليل، وكأنها كانت مُقَيَّدة الحركة في النهار، فيكون لها نشاط كبير عند غروب الشمس، وهي خطِرة في ذلك الوقت، ويمكن أن تتسلَّط على الأطفال، إما لكونهم لا يذكرون الله عز وجل، أو لتعلُّق النجاسات بهم؛ ومن هنا كان من وسائل حماية هؤلاء الأطفال أن نضمَّهم في البيوت عند أول الليل؛ وذلك مع غلق الأبواب، لأن الشياطين -بنصِّ الحديث- لا تفتح بابًا مغلقًا.
والملاحَظ أن هذا محدود بوقت أول الليل فقط؛ أي يمكن إرسال الأطفال مرَّة أخرى -إذا غلب على ظننا الأمن- بعد وقت العشاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ".
وروى مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ".
وفحمة العشاء هي الظلمة في الوقت ما بين المغرب والعشاء، والحديث يُنَبِّه على حفظ الفواشي كذلك، والفواشي هي سائر البهائم، وفي الباب أحاديث أخرى لا يتَّسع المقام للتفصيل فيها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

247) سُنَّة التكبير والتسبيح عند الحركة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على تَحَيُّن الفرص التي تُنَبِّه المسلم إلى ذِكْر الله عز وجل؛ ومن ذلك أنه كان يأمر المسلمين في سفرهم أن يُلاحظوا حركة الطريق وهيئته، ولا يكونوا من الغافلين الذين لا ينتبهون إلى تَغَيُّر الأمور، فإذا صَعِد المسلمون جبلًا أو هضبةً كَبَّروا، وإذا هبطوا واديًا أو مُنْحَدرًا سَبَّحوا؛ وذلك لما رواه البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا".
وهكذا يظلُّ المسلم مُلْتَفِتًا طوال الطريق إلى شكل الطريق، ويربط ذلك بذِكْرِ الله عز وجل، فتكون حصيلة الرحلة كَمًّا هائلًا من الحسنات، وحضورَ قلبٍ يدعو إلى التفكُّر في آلاء الله وخَلْقِه، وحفظًا من الشياطين، وغير ذلك من فوائد الذِّكْر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يؤدِّي المسلمون هذه السُّنَّة في هدوء وسكينة، ولا يُشْغِل المسلم أخاه بصوته أو جلبته؛ لذلك كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤدِّي هذا الذِّكْر بصوت منخفض حتى لو كان المسلمون يسيرون في صحراء واسعة؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لاَ نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلاَ نَعْلُو شَرَفًا، وَلاَ نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا".
فلنحرص على هذه السُّنَّة الجميلة فإن فيها من الخيرِ الكثيرَ.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

248) سُنَّة كثرة السجود
كل المسلمين يُمَنُّون أنفسهم بمرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولكن ليس الإيمان بالتمنِّي؛ إنما هناك وسائل محدَّدة عيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعطي صاحبها الفرصة الأكبر في الفوز العظيم برفقة الرسول صلى الله عليه وسلم، من هذه الوسائل كثرة السجود؛ فقد روى مسلم عن رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: "سَلْ". فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ". قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ".
وروى مسلم عن مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ، قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ. فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلاَّ رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً". قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه فَسَأَلْتُهُ؛ فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ رضي الله عنه.
والسجود المقصود هو سجود الصلاة، وكثرة السجود تعني كثرة الصلاة؛ وذلك بأداء الفروض والإكثار من النوافل، كقيام الليل، وصلاة الضحى، والسنن الراتبة، كما يشمل ذلك -أيضًا- السجود خارج الصلاة، كسجود التلاوة، وسجود الشكر، والسجود هو قمَّة الخضوع لله ربِّ العالمين، وهو الذي امتنع منه إبليس فكُتِبَت عليه اللعنة إلى يوم الدين، وهو الذي أكثرَ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى رفع الله قدره في العالمين؛ فقد قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 217-219].
فلنحرص على هذه السُّنَّة العظيمة، ولْنتصوَّر الدرجات الكثيرة التي يرفعنا الله إليها بسجودنا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

249) سُنَّة أكل الزبد والتمر
كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيطة، فلم يكن يتكلَّف طعامًا ولا شرابًا؛ إنما كان يأكل من المتاح، ويحبُّه ويُثني عليه، وكان الصحابة يعرفون بعض الأكلات التي يحبُّها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانوا يحرصون على تقديمها له؛ ومن ذلك معرفتهم لحبِّه صلى الله عليه وسلم لأكل الزبد مع التمر؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنِ ابْنَيْ بُسْرٍ السُّلَمِيَّيْنِ رضي الله عنهما قَالاَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "فَقَدَّمْنَا زُبْدًا وَتَمْرًا وَكَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ".
وفي رواية ابن ماجه عَنهما قَالاَ: "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعْنَا تَحْتَهُ قَطِيفَةً لَنَا، صَبَبْنَاهَا لَهُ صَبًّا، فَجَلَسَ عَلَيْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ الْوَحْيَ فِي بَيْتِنَا، وَقَدَّمْنَا لَهُ زُبْدًا وَتَمْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ صلى الله عليه وسلم".
وهذا الطعام -بفضل الله- ما زال متعارفًا عليه في كثير من البلاد، وهو طعام شهي يحبُّه كثير من الناس، ولكن يُضاف إلى طعمه اللذيذ ما عرفناه من حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم له؛ مما يرفع قدره عندنا، ويجعلنا نصنعه لنا ولأولادنا، ومع أنه ليس هناك أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل هذا النوع من الطعام فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يفعل إلا الشيء النافع للأُمَّة، ولم يكن يحبُّ إلا الطيب؛ وقد قال تعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، فلا شكَّ أن هناك الفوائد الجمَّة فيما كان يختاره صلى الله عليه وسلم ويُفَضِّله.
وقد كان من عادة الصحابة رضي الله عنهم أن يأكلوا مثل أكله صلى الله عليه وسلم؛ مع أنه لم يأمرهم بذلك؛ ومثال ذلك ما قاله جابر رضي الله عنه في حبِّه للخلِّ بعد معرفته لحبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم له؛ فقد روى مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ فِلَقًا مِنْ خُبْزٍ، فَقَالَ: "مَا مِنْ أُدُمٍ؟" فَقَالُوا: لاَ إِلاَّ شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ. قَالَ: "فَإِنَّ الْخَلَّ نِعْمَ الأُدُمُ". قَالَ جَابِرٌ: "فَمَا زِلْتُ أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم". وقَالَ طَلْحَةُ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ جَابِرٍ.
ولهذا كان الصحابة يتناقلون معرفة الأطعمة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّها، ومثل ذلك أيضًا ما رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ".
فلنحرص على إبراز حُبِّنَا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتقليده فيما يحبُّ من أطعمة، وفيها الخير وتمام الصحة إن شاء الله.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

250) سُنَّة قراءة الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة
كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ في صلاة الجمعة بسورتي الأعلى والغاشية؛ فقد روى مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ". قَالَ: "وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاَتَيْنِ".
أمَّا لماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتين السورتين تحديدًا فالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم، وقد حَثَّنا الرسول صلى الله عليه وسلم على اتباعه في هيئة الصلاة؛ ففي رواية البخاري عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ".. وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي..".
وكان أحيانًا أخرى يقرأ في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقين؛ فقد روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ".
وروى مسلم عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا أبو هريرة رضي الله عنه الْجُمُعَةَ، فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ، قَالَ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حِينَ انْصَرَفَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ".
فهذا هو الأصل في السُّنَّة، ولا يمنع أن يقوم الإمام في بعض المرَّات بالمخالفة، وقراءة سور أخرى في صلاة الجمعة؛ وذلك حتى لا يظنَّ الناسُ أن الأمر فريضة، ولكن ينبغي أن يكون الأغلب هو قراءة هذه السور اتِّباعًا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

251) سُنَّة التعطر
الإسلام دين الجَمَال، وقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ".. إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ..". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ كل ما يجعل المرء جميلاً أمام الناس، فيُعطِي المسلم بذلك صورة طيبة عن دينه، ولا يأنف الناس من مجالسته أو مشاركته في كل أموره؛ لذا كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يحرص على التعطُّر في معظم أوقاته، وكان يُظْهِر أمام المسلمين أنه يحبُّ التعطُّر ويرغب فيه؛ فقد روى النسائي عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ". فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المتع الحلال في حياته لقاء زوجاته، ووضع الطيب، وهي متعٌ نبيلة لأن نفعها يتعدَّى إلى الآخرين؛ فحبُّه للنساء يدفعه إلى إكرام زوجاته، وحبُّه للطيب يجعل رائحته تُسْعِد مَنْ يجالسه.
وكان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يُكْثِر من وضع الطيب، ولا يكتفي منه بالقليل؛ فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ".
ولم تكن في حياته صلى الله عليه وسلم فترات لا يضع فيها الطيب اللهمَّ إذا كان مُحْرِمًا؛ فالطيب ممنوع أثناء الإحرام، ومع ذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع الطيب قبل الإحرام؛ بل يُكْثِر منه حتى يبقى أثره أثناء الإحرام؛ فقد روى مسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ".
فلنحرص على هذه السُّنَّة اللطيفة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

252) سُنَّة إسباغ الوضوء
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ الإتقان في كل شيء، وقد روى أبو يعلى -وقال الألباني: حسن- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ". وأعظم الإتقان ما كان في العبادة، ومنه إسباغ الوضوء، يعني إتمامه وحُسن أدائه؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَسْبِغِ الوُضُوءَ..".
وشرح لنا أبو هريرة رضي الله عنه إسباغ الوضوء كما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِسْباغِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ".
وليس الأمر في تكثير الحسنات فحسب؛ بل هناك تحذير شديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أهمل في إيصال الماء إلى أماكنه في الوضوء؛ فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا -وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ- وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.
ففي هذا الموقف خشي الصحابة من خروج وقت الصلاة، وهذا معنى: "أرهقتنا الصلاة"، فأسرع بعضهم في الوضوء دون أن يُسْبِغ، فنَبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهمية الإسباغ حتى في هذا الموقف، فينبغي للمسلم ألاَّ يتعلَّل بأن هناك ظروفًا تمنعه أحيانًا من إسباغ الوضوء؛ كدخول الوقت، أو إدراك الجماعة، أو برودة الماء، أو كثرة الثياب، أو عدم توافر مكان مريح للوضوء؛ فإن إسباغ الوضوء في هذه المكاره من أعظم القربات؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ".
فلنحرص على هذه السُّنَّة النبوية العظيمة، ولنضع في أذهاننا صورتنا أمام الله يوم القيامة وقد ظهر علينا أثر الوضوء.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

253) سُنَّة التغني بالقرآن
القرآن كلام الله، وله أثر عظيم في النفس، ولا شكَّ أن تحسين الصوت عند قراءته، والحرص على إخراج الحروف من مخارجها الصحيحة، واختيار الطريقة الجميلة للترتيل، والخشوع عند التلاوة، كلَّ ذلك يزيد من أثر القرآن في القلب؛ سواء للقارئ أو للسامعين له، وقد روى البخاري ومسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ".
ولا ينبغي لمسلم أن يعتذر بأنه لا يُحْسِن ذلك؛ فإن هناك تحذيرًا شديدًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لم يَسْعَ إلى تحسين صوته عند قراءة القرآن؛ فقد روى أحمد -بسند صحيح- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ".
وروى أبو داود -وقال الألباني: حسن صحيح- عن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، يَقُولُ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: مَرَّ بِنَا أَبُو لُبَابَةَ فَاتَّبَعْنَاهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجُلٌ رَثُّ الْبَيْتِ، رَثُّ الْهَيْئَةِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ". قَالَ: فَقُلْتُ لاِبْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرَأَيْتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ؟ قَالَ: "يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ".
فالأمر يحتاج إلى تدريب على يد قارئ مُتْقِن، وإلى كثرة السماع من الشيوخ المهرة في قراءة القرآن، وإلى صرف الوقت للاهتمام بهذه السُّنَّة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

254) سُنَّة الدعاء بعد صلاة الصبح
كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبدأ يومه بصلاة الصبح، ثم يشرع في أعمال اليوم المختلفة دون أن ينام أو يستريح، وأعمال اليوم تتنوع بين عبادات، وأعمال مهنية لطلب الرزق، وسعي للعلم وتعليمه، وغير ذلك من الأعمال؛ لذا كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله التيسير في هذه الأمور، والبركة فيها، ومن هنا جاءت سُنَّة الدعاء بعد صلاة الصبح؛ فقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً".
فهذه الثلاثة تشمل الأعمال كلها؛ فاليوم الذي ليس فيه علمٌ نافع يومٌ خاسر! وقد روى الترمذي وابن ماجه -وقال الألباني: حسن- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ، وَمَا وَالاَهُ، أَوْ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا".
واليوم الذي خَبُثَ رزقُه يومٌ خاسرٌ كذلك، وليس فيه دعاء مُتقبَّل، وقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَلاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ"، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، قَالَ: "وَذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ. وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!".
وكذلك اليوم الذي ليس فيه عملٌ مُتَقبَّل يومٌ خاسرٌ، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، فإذا رزقك اللهُ عملاً وتقبَّله فهذا دليل التقوى، فسؤال اللهِ هذه الأمور الثلاثة يحمل خيري الدنيا والآخرة، وهو دعاء قصير لا يأخذ أكثر من دقيقة واحدة يوميًّا، فلا نحرم أنفسنا من خيره.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

255) سُنَّة ختام المجلس
وضَّح لنا ربنا سبحانه وتعالى أن المهمَّة الأولى للإنسان في هذه الأرض هي العبادة؛ فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ لذلك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُريد أن يَدَعَ موقفًا من مواقف الدنيا يمرُّ عليه دون عبادةٍ وذِكْرٍ لله عز وجل، ويشمل هذا مجالسَه وحركاته وسكناته؛ فقد روى ابن حبان وأبو داود والنسائي -وقال الألباني: صحيح، واللفظ لابن حبان- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، وَمَا مَشَى أَحَدٌ مَمْشًى لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً، وَمَا أَوَى أَحَدٌ إِلَى فِرَاشِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً". وَالتِّرَة أي الحسرة والنقصان.
وروى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً".
لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يختم مجلسه بدعاء يَذْكُر فيه اللهَ عز وجل، ويُذَكِّر الحضورَ به سبحانه، فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: "اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا , وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا, وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا, وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا".
وهذا غير دعاء كفارة المجلس، والذي روى نصَّه أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، وفيه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: بِأَخَرَةٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ".
ويمكن الجمع بين الدعاءين في نهاية المجلس فنكون قد طَبَّقنا السُّنَّتين، وهو خيرٌ كثير.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

256) سُنَّة إطعام الخادم
ليس في دين الإسلام طبقية وتسلُّط؛ ولكن أُخُوَّة ومحبَّة؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وهذا ينطبق على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين السيِّد والخادم، وبين الغني والفقير؛ وإنما جعل اللهُ عز وجل الناسَ متفاوتين في القدرات والمواهب والأملاك ليختبرهم جميعًا؛ فقد قال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]؛ لهذا كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم معاملة الخادم كالأخ؛ فقد روى البخاري عن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال عن الخدم: ".. إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ".
فكان من السُّنَّة أن نُطْعِم الخادم من طعامنا، ويزداد أمر إطعامه تأكيدًا إن كان الخادم قد تولَّى إعداد الطعام؛ لأنه في الغالب قد اشتهى طعمه ورائحته، فيكون من الغبن له أن نحرمه منه، وقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَنَعَ لأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ، وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ، فَلْيَأْكُلْ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلاً، فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ".
ومشفوهًا أي كثرت عليه الشفاه فصار قليلاً، فحتى في هذه الحالة ينبغي أن نُعطي الخادم ولو أُكلة -بضم الهمزة- أو أُكلتين؛ أي لقمة أو لقمتين، فهي إن لم تكن مُشْبِعة فهي تعبير عن المشاركة، وهي مشاعر جميلة ينبغي أن تسود في المجتمع المسلم، وفيها من الأجر الكثير؛ حيث إنها من سُنن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

257) سُنَّة نافلة الجمعة
لم يكن من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصَلِّيَ نافلةً قبل صلاة الجمعة؛ إنما كان يُصَلِّي فقط ركعتي تحية المسجد، ثم يجلس في انتظار الصلاة، فإذا حان الوقت صعد المنبر، وأُذِّن للصلاة، ثم خَطب الخطبة، وصلَّى بعدها بالناس، ثم شرع بعد ذلك في صلاة نافلة الجمعة؛ وهي إمَّا أربع ركعات، أو ركعتان فقط؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا".
وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ".
وجمع سُهيل بن أبي صالح -وهو من رواة الحديث- الاختلاف في الحديثين في تفسيره؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّيْتُمْ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَصَلُّوا أَرْبَعًا". زَادَ عَمْرٌو فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: قَالَ سُهَيْلٌ: "فَإِنْ عَجِلَ بِكَ شَيْءٌ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيْنِ إِذَا رَجَعْتَ".
فكأن أقلَّ السُّنَّة أن تُصَلِّيَ ركعتين، وأتمها أن تُصَلِّيَ أربعًا، وفي كلٍّ خير، فلنحرص على هذا الترتيب، بألا نُصَلِّيَ نوافل قبل صلاة الجمعة، ونكتفي بركعتي تحية المسجد، ثم نُصَلِّي ركعتين أو أربعًا بعد صلاة الجمعة، وهذا هو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

258) سُنَّة مجالسة الصالحين
من السهل جدًّا أن تنتقل أخلاق الصاحب إلى صاحبه؛ فالمعايشة والمجالسة وطول الحوار تؤدي إلى تَطَبُّع الإنسان بأخلاق وطبائع مَنْ يُصاحبه، وقد يحدث هذا بشكل متدرِّج فلا يلحظ المرء التغيير على نفسه؛ ومن ثَمَّ لا بُدَّ أن يكون الإنسان حَذِرًا في اختيار جلسائه؛ لذا كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْرُ المسلمين بانتقاء مَنْ يُصاحبون أو يُجالسون؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ".
وقد نَبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى أن التغيير في حياة الإنسان نتيجة المصاحبة سيصل إلى تغيير في الدين، وهو أمر خطير كما هو معلوم، حتى المجالسة السريعة البسيطة قد تُحْدِث أثرًا؛ فقد روى البخاري عن أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً".
لهذا كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسة الصالحين، ومصاحبة المؤمنين؛ بل الحرص على بروز التقوى فيمَنْ تدعوهم إلى دخول بيتك والأكل من طعامك؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا, وَلاَ يَأكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ".
فهذه سُنن تحفظ لنا ديننا، وتُعيننا على الطاعة، فليحرص كلٌّ منا على انتقاء جلسائه، ونسأل الله الهداية لنا أجمعين.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

259) سُنَّة قراءة العصر عند الافتراق
إحدى أكبر مهامِّ المؤمن في الدنيا أن يُذَكِّر إخوانه بالله عز وجل، وأن يُذَكِّرهم كذلك بقيمة الطاعة، وأهمية العبادة، وقد لَخَّص موسى عليه السلام ما يُريده من أخيه فقال -كما جاء في القرآن الكريم-: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 29-34]، فواجب الأخ أن يُعين إخوانه على ذِكْرِ الله عز وجل؛ لهذا كانت هذه السُّنَّة النبوية الجميلة، وهي سُنَّة قراءة سورة العصر عند افتراق الصديقين؛ فقد روى الطبراني -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ رضي الله عنه، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: كَانَ الرَّجُلاَنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ".
والصحابة لا يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم، ولكن من المؤكَّد أنهم علموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسورة العصر سورة قصيرة، ولكنها شافية كافية؛ فقد أوضحت خسارة البشر جميعًا إلا مَنْ قام بأربعة أعمال: الإيمان بالله، والعمل الصالح، ودعوة الناس إلى الخير والحقِّ، والصبر على الابتلاء في كل ما سبق.
فكان أمرًا عظيمًا أن يُذَكِّر المؤمن أخاه بكل ذلك عند الافتراق، وبذلك تحمل الأُخُوَّة معانيَ جميلة من التثبيت على الدين، والتكثير من الحسنات، والتذكير بمهمَّة الإنسان الأولى في الأرض؛ وهي مهمَّة عبادة الله عز وجل، وكلُّ هذا يُؤْخَذ من سورة العصر؛ لهذا قال الشافعي رحمه الله: "لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ".
فلنحرص في نهاية مجالسنا على قراءة هذه السورة العظيمة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

260) سُنَّة تنظيف المسجد
بيوت الله في الأرض المساجد؛ فقد قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، لهذا كان من تعظيم الله وتوقيره أن نحافظ على نظافة بيته وأناقته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَفِّز المسلمين دومًا على تنظيف المساجد وتعطيرها والاهتمام بها؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ".
ومن باب أولى فإن على المسلم ألا يكون سببًا في تلويث المسجد بأي طريقة؛ وقد روى البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "البُزَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا".
وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، رَأَى فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، فَتَغَيَّظَ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ، فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاَةِ".
لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ ويُقَدِّر مَنْ يسعى لتنظيف المسجد، وقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلاً أَسْوَدَ أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ: "أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ، دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ -أَوْ قَالَ قَبْرِهَا- فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا".
فلْيَسْعَ كلٌّ منَّا إلى تنظيف المساجد التي يرتادها، أو على الأقل لا يكون سببًا في اتِّساخها بشيء.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

261) سُنَّة تجنب سؤال الناس
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يكون عزيزًا، ويكره له الذلَّة والمسكنة والضعف؛ وقد روى البخاري عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ".
واليد العليا هي اليد التي تعطي، واليد السفلى هي التي تُمَدُّ للناس كي تسألهم؛ ومن ثَمَّ فسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم هي تجنُّب سؤال الناس؛ فقد روى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".
وروى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ".
وطريق تجنُّب سؤال الناس هو العمل والاكتساب، مهما كان العمل بسيطًا، وقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يتَّصِف المسلم بهذه الصفة العزيزة من أول لحظات إسلامه، ولا يشترط لذلك إيمانًا قديمًا؛ إنما كان يرى أن المسلم يستطيع أن يُرَبِّيَ نفسه على العزَّة من أول يوم؛ لذا فقد كان يُبايع المسلمين الجدد على ألا يسألوا الناس شيئًا! فقد روى مسلم أن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الأَشْجَعِيَّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: "أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟" وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ قَالَ: "أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟" فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ قَالَ: "أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟" قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلاَمَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا -وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً- وَلاَ تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا". فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.
فلتكن هذه هي عادتنا، ولنحرص على عدم سؤال الناس، ولنتحمَّل ما قد نعانيه من بعض الضيق، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

262) سُنَّة الصلاة على آل البيت
من أعظم القربات إلى الله الصلاةُ على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهي دليل على حبِّ المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغبته في إيصال الخير إليه، ورفع درجاته، وقد يظنُّ ظانٌّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى هذه الصلاة؛ لأن الله عز وجل قد أعزَّ قدره بما يكفي، ولكن الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسَه هو الذي طلب منَّا أن نسأل اللهَ له رفعَ الدرجات؛ فقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يصل هذا الخير إلى أهله كذلك؛ فقد قال تعالى على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]؛ لهذا عَلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نكتفي بالصلاة عليه وحده، إنما نضمُّ آله معه، فكانت هذه سُنَّة نبوية يحبُّها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي. فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
وروى البخاري عن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
فمع أننا إذا قلنا: "اللهم صلِّ على محمد صلى الله عليه وسلم". تتحقق الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه من السُّنَّة أن نهتمَّ بالصلاة على آله بيته صلى الله عليه وسلم كذلك، من أجل أن ذلك يُسْعِده، فلنحرص على هذه الصيغة، ولو عدَّة مرَّات كل يوم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

263) سُنَّة الزواج من المرأة الصالحة
يحضُّ الإسلامُ الشبابَ على الزواج؛ فقد روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ؛ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ".
ومع ذلك فلم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم اختيار الزوجة أمرًا مُطْلَقًا هكذا بلا قيود؛ إنما وضع شروطًا وحدودًا تضمن لهذا الزواج فرصَ النجاح، وأعظم هذه الشروط وأهمُّها شرطُ الدِّين أو الصلاح، فرغبة الشابِّ في سرعة الزواج قد تُلْهِيه عن هذا العامل المهمِّ؛ بل أحيانًا يسعى الشابُّ للزواج من امرأةٍ تتفوَّق في مجالات كثيرة إلا مجال الصلاح وطاعة الله، وهذا يُنْذِر -وللأسف- بفشل قريب في هذا الزواج؛ لذلك جاءت السُّنَّة النبوية في هذا المجال واضحة وصريحة، فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ".
فبَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم للشباب أنه يُدْرِك الدوافع الكثيرة التي يمكن من أجلها أن يختار الشابُّ زوجتَه؛ ولكنه نصح بأن يجعل الشابُّ دين الزوجة الأولوية الأولى في اختيارها، وزيادةً في إيضاح الرؤية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكَّد للشباب أن هذا ليس فقط من أجل سعادة الآخرة -وهذه بالطبع أعظم- ولكنه كذلك من أجل سعادة الدنيا؛ فقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ".
وروى ابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ".
فليحرص الباحثون عن الزواج على هذه السُّنَّة النبوية الجليلة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

264) سُنَّة صلاة نافلة الجمعة بالبيت
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يُصَلِّيَ شيئًا من النوافل في بيته؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا".
ومع أن هذا أمرٌ عامُّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَخُصُّ بعض النوافل بالصلاة في البيت؛ ومن ذلك سُنَّة صلاة نافلة الجمعة، ونافلة الجمعة هي ركعتان أو أربع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيها في البيت بعد رجوعه من صلاة الجمعة؛ فقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ".
وروى مسلم عن عُمَرَ بْنِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ، أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ رضي الله عنه -ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ- يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلاَةِ، فَقَالَ: نَعَمْ، صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي، فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: "لاَ تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ؛ إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلاَ تَصِلْهَا بِصَلاَةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ، أَنْ لاَ تُوصَلَ صَلاَةٌ بِصَلاَةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ".
فيُمْكِن بذلك أن نُصَلِّيَ نافلة الجمعة في المسجد بعد الكلام مع بعض المسلمين، أو التحوُّل من مكان صلاة الفريضة إلى مكان آخر في المسجد كما قال بعض العلماء، ولكن الأَوْلى أن نفعل كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من صلاة نافلة الجمعة في البيت، وهذا في حدِّ ذاته سُنَّة نبوية لنا فيها الأجر إن شاء الله.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

265) سُنَّة الدعاء للمريض
الشافي هو الله عز وجل؛ فقد قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وعلى الرغم من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يتداووا من المرض؛ فإنه أكَّد أن أهمَّ وسائل العلاج هي طلبه من الله تعالى؛ لهذا كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم عند زيارة المريض أن يدعو له بالشفاء؛ ولهذا الدعاء صيغ كثيرة؛ فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ اليُمْنَى وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ البَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا".
وروى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ العَظِيمَ رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ. إِلاَّ عُوفِيَ".
وروى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنِ ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى جَنَازَةٍ".
ويمكن إذا لم تحفظ هذه الأدعية أن تكتفي بقول: "اللهمَّ اشفِ فلانًا". وتذكر اسم المريض؛ فقد روى مسلم عن سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال عندما زاره وهو مريض: "اللهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللهُمَّ اشْفِ سَعْدًا". ثَلاَثَ مِرَارٍ.
وهذه الأدعية لا تكون فقط سببًا في الشفاء؛ ولكنها -أيضًا- تُسْعِد المريض وتُطَمْئِنُه، فلنحرص على هذه السُّنَّة العظيمة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

266) سُنَّة عدم قول أنا
تشتمل السُّنَّة النبوية على آداب عظيمة تُنَظِّم حياة الناس، والالتزام بهذه السُنن يحفظ المسلمين من شرور كثيرة، ومشاكل جمَّة؛ ومن هذه الآداب أدب الاستئذان عند الدخول إلى بيوت الناس، ولا بُدَّ أن يكون الاستئذان واضحًا وصريحًا بحيث يُعطي صاحب البيت فرصة القبول أو الرفض للزيارة؛ لذلك فإذا طَرَقَ أحدُنا الباب فقال صاحب البيت: مَنِ الطَّارِقُ؟ فلا ينبغي لأحدنا أن يردَّ بقوله: أنا! لأن ذلك الردَّ لم يكشف -في الأغلب- عن شخصية الطارق؛ وبالتالي قد يضطرُّ صاحب البيت إلى أن يفتح الباب وهو لا يدري كنه الزائر، أو يُرهق نفسه بالتخمين والظنِّ؛ لذلك كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعَرِّف الطارق بنفسه عند الاستئذان؛ فقد روى البخاري عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ: "مَنْ ذَا؟" فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: "أَنَا أَنَا". كَأَنَّهُ كَرِهَهَا.
فالأَوْلَى هنا أن يقول جابر رضي الله عنه: أنا جابر. ولذلك كَرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَ جابرٍ رضي الله عنه: "أنا" مُجَرَّدَةً هكذا، وقد وردت في السُّنَّة النبوية مواقف أخرى عَرَّف الطارق فيها نفسه فَقَبِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مما يؤكِّد أن هذا هو السُّنَّة، فقد روى الحاكم -وقال الذهبي: صحيح- عن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ يَقْرَأُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟" فَقُلْتُ: أَنَا بُرَيْدَةُ، جُعِلْتُ لَكَ الْفِدَاءَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: "لَقَدْ أُعْطِيَ هَذَا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ".
وروى البخاري عن أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنها، قَالَت: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟" فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ.
فهذا التعريف بهذا الوضوح هو السُّنَّة، ولو كان الاسم ليس كاشفًا عن كنه الطارق فإنه ينبغي له أن يُعَرِّف نفسه بالصفة، فيقول اسمه كاملاً، أو يُضِيف وظيفته؛ بحيث تُصبح الصورة واضحة لصاحب البيت فيفتح عندها الباب أو يرفض الزيارة كما يشاء، وهذا هو الذي يحفظ للبيوت حرمتها وأمنها، فما أعظمها من سُنَّة!
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

267) سُنَّة التيسير
من أروع صفات الشريعة الإسلامية حرصها على تيسير حياةِ كلِّ مَنْ يتخذها منهجًا وطريقة؛ لأن التيسير إرادة ربانية؛ فقد قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ولقد نَفَى اللهُ في هذه الآية إرادة العسر، ولو اكتفى بتبيين إرادته لليسر دون نفي العسر لظنَّ ظانٌّ أن الله يُريد اليسر أحيانًا ويُريد العسر في أحيان أخرى؛ لهذا كانت السُّنَّة النبوية تحمل التيسير في كل أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا».
وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا».
وروى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ».
وجدير بالذِّكْر أن التيسير لا يعني التفريط في الشريعة؛ بل يعني اختيار الأيسر والأسهل من الأمور المباحة والمشروعة؛ فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ ل، أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ r بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ..».
فهذا يفتح لنا المجال لقبول الآراء الفقيهة المعتبَرة من كافَّة الفقهاء تيسيرًا على الناس، ويفتح لنا المجال كذلك لاستخدام الرخص التي شرعها الدِّين دون حرج، كما يُوَجِّهنا كذلك إلى السعي إلى التيسير على المعسرين في شتَّى المجالات؛ سواء في أمور الدِّين أو الدنيا؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «.. وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..».
فهذه هي السُّنَّة النبوية، وهذه هي روح الشريعة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

268) سُنَّة السؤال في الدين
جاءت الشريعة الإسلامية بقواعد وأصول، وفيها الكثير من الأحكام والتشريعات، وهي كلها من عند الله عز وجل، وقد أراد الله منا أن نعبده بهذه القواعد والأحكام، ولا يجوز لنا أن نفترض طريقةً أخرى لإرضائه سبحانه وتعالى؛ إنما وجب علينا الالتزام الكامل بما شَرَعَه اللهُ، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، ولما كان من المستحيل أن يعرف إنسانٌ مرادَ الله في قضية من القضايا إلا عن طريق العلم الصحيح بما قاله اللهُ تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، لزم أن يلتزم المسلم بسؤال أهل العلم؛ وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، وقد جعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السؤال في الدِّين سُنَّة نبوية أصيلة، وحذَّر بشدَّة أن يُفْتِي المرء برأيه في مسألة من مسائل الدِّين؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: حسن- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ».
ففي هذا الموقف لم يشفع للصحابة حُسْنُ نِيَّتهم في الإجابة على السائل، إنما حَمَّلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسئولية كاملةً إلى الدرجة التي اعتبرهم فيها قتلةً للرجل السائل!
فليلتزم كلٌّ منا بهذه السُّنَّة المهمَّة جدًّا، وليبحث عن أحكام الشريعة عند أهلها من العلماء، ولْيتجنَّب تمامًا الإفتاء بالرأي، فإننا نريد أن نعبد اللهَ كما يُريد سبحانه، لا كما نريد نحن.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

269) سُنَّة السلام في نهاية المجلس
الإسلام دين السلام، وإلقاء السلام على المسلمين يُشيع روحًا من المودَّة والحبِّ، وقد صرَّح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك في رواية مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ». ولذلك كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام على المسلمين في كل مناسبة ممكنة، ومن ذلك أنه لم يكن يكتفِ بإلقاء السلام عند اللقاء مع المسلمين إنما كان يفعل ذلك -أيضًا- عند توديعهم؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ».
فصار السلام في نهاية المجلس سُنَّةً نبوية كما هو كذلك في أوله، وليس بالضرورة أن يكون المجلس طويلًا أو في بيت أو مُلْتقى؛ إنما يفعل ذلك المسلم ولو افترق عن صديق له في الطريق؛ فقد روى الطبراني -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ رضي الله عنه، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ».
فالسلام هنا سُنَّة نبوية؛ لأن الصحابة لا يفعلون ذلك إلا اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنحرص على هذه السُّنَّة الجميلة، وهي كفيلة بنشر الحبِّ بيننا كما بَشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

270) سُنَّة الاستغفار بالأسحار
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المؤمنَ الذي يستغفر كثيرًا بالخير الكبير؛ فقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا».
ومع أن الاستغفار مندوبٌ في كل أوقات اليوم والليلة؛ فإن الله عز وجل مدح مَنْ يفعل ذلك في آخر جزء من الليل، وهو وقت السَّحَر؛ فقد قال تعالى في صفة أهل الجنة: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18]، وهذا وقت شريفٌ للغاية، ويكفي أن الله ينزل فيه إلى السماء الدنيا؛ فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». ولهذا كان من سُنَّته صلى الله عليه وسلم أن يذكر اللهَ كثيرًا في هذا الوقت، فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عن عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ».
فلنحرص على العبادة في هذه الأوقات العظيمة، ولنكن من أولئك الذين يستجيبون لله حين يُنادينا قائلًا: «مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ».
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

271) سُنَّة التزين لصلاة الجمعة
يوم الجمعة عيدٌ من أعظم أعياد المسلمين؛ وقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: حسن- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ». وقد قال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، ومن الزينة اللباس الجيد والجميل، وكان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس ملابس خاصة بصلاة الجمعة لا يلبسها المسلم في عمله، حتى تكون نظيفة وأنيقة؛ فقد روى ابن ماجه وابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَائِشَةَ ل قَالَتْ: «خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَرَأَى عَلَيْهِمْ ثِيَابَ النِّمَارِ, فَقَالَ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ -إِنْ وَجَدَ سَعَةً- أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ؟». وثياب النمار هي ثياب مخططة من الصوف، ويبدو أنها كانت رديئة أو غير نظيفة.
وفي رواية أخرى لابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ».
فوضح لنا من خلال هذا التوجيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحبُّ للمسلم أن يُخَصِّص -أو يشتري- ثيابًا ليوم الجمعة، وذلك في حال تيسُّر الأمر عليه، والواقع أن هذه الثياب الخاصة ستُحَقِّق عدَّة منافع؛ منها شعور المسلم بالتوقير والتقدير ليوم الجمعة؛ وهذا سيزيد من خشوعه في هذه الصلاة المهمَّة، ومنها أن المسلم لن يؤذي المصلِّين معه برائحة أو قذر قد يكون متعلِّقًا بثوبه المعتاد، ومنها أن الجميع لو لبس هذه الملابس الجميلة ليوم الجمعة فذلك سيعطي شكلًا طيبًا لجماعة المسلمين؛ مما سيكون له أفضل الأثر في الدعوة للإسلام، فلتكن هذه هي عادتنا وعادة أبنائنا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

272) سُنَّة الإعراض عن الجاهلين
على الرغم من حرص المسلم على الحفاظ على أخلاقه حين يتعامل مع الناس؛ فإنه يقابل بعض مَنْ لا يكترثون بمسألة الأخلاق في التعامل! وهذا ولا شك يُفْرِز مواقف صعبة قد يحتار فيها المسلم؛ لأنه لا يستطيع أن يجاري هؤلاء في انفلاتهم، وهنا يأتي دور هذه السُّنَّة النبوية العظيمة، وهي سُنَّة الإعراض عن الجاهلين، والمقصود "بالجهل" هنا السفه، والجاهلون هم السفهاء الذين لا يُحَكِّمون العقل في جدالهم أو نقاشهم؛ ومِنْ ثَمَّ فلا سبيل إلى إنهاء الجدال بشكل متحضِّر، فتُصبح أفضل الطرق لحفظ الأخلاق هو الإعراض عنهم، وعدم الدخول في مهاترات لا ينبني عليها نتائج طيبة، وهذا أمر رباني؛ فقد قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ولا يعني هذا مقاطعة الجاهلين، ولكن فقط الإعراض عن المناقشة التي جهلوا فيها على المسلم، وأقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على هذا السلوك مع مَنْ تجاوز حدود الأخلاق المعروفة؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ». ومع إن هذا السلوك قد لا يشفي غليل المرء حين يتعدَّى عليه أحدٌ؛ فإن هذا في النهاية أفضل في التعامل مع هذه النوعية من الناس، وفضلًا عن ذلك فإن الله عز وجل يُعَوِّض المسلم -كما في الحديث- قوةً وتأييدًا منه سبحانه، ولو طَبَّقَ المسلمون هذه السُّنَّة فإنهم سيُوَفِّرون على أنفسهم صراعات كثيرة، وخسائر جمَّة، هم في غِنىً عنها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

273) سُنَّة الزواج من الرجل الصالح
يُعتبر الزواج من أكبر الأمور التي تُسْهِم في رسم مستقبل الإنسان؛ فهذه المشاركة المبكِّرة في طريق الحياة تطبع في الغالب كلَّ طرفٍ بطابع الآخر؛ ومن ثَمَّ وجب على المُقْدِم على الزواج أن يُحسن الاختيار لكي لا يندم طويلًا؛ خاصة أن نتاج هذا الزواج -وهم الأطفال- سيتشكَّلون بشكل أبويهم؛ مما يؤكِّد أهمية الاختيار عند الطرفين، وقد كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل عناصر الدِّين والأخلاق هي أهم العناصر التي على ضوئها يختار المرء شريكه في الحياة، ولكون الرجل هو الذي يبحث عادة عن المرأة تكون عنده الفرصة أكبر للاختيار؛ لهذا يتذكَّر الناسُ سُنَّةَ اختيار المرأة ذات الدِّين، وقد يَنْسَون سُنَّةَ قبول الرجل الصالح كزوج، خاصة مع صعوبة ظروف الحياة، وكثرة المشاكل الاقتصادية؛ مما يجعل أهل المرأة يتساهلون -أحيانًا- في معايير اختيار الزوج، فيرفضون صاحب الدِّين لفقره، ويَقْبَلون سيئ الخُلُق لغِناه، متناسين السُّنَّة النبوية المهمَّة في هذا المجال؛ فقد روى الترمذي-وقال الألباني: حسن- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ».
وأكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ في مثال توضيحي رائع؛ فقد روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا». فعامل الدِّين والخُلُق هو العامل الأساس، وهذا هو القول الفصل، وهذا هو الذي يحفظ البيوت والأطفال، وهذه هي سُنَّة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

274) سُنَّة التقليل من الموعظة
يظنُّ بعض الناس أن كثرة تكرار الأوامر يضمن التنفيذ! وذلك اعتقادًا منهم أن السامع سيضطرُّ في النهاية إلى أن يُنَفِّذ الأمر؛ لكي يتخلَّص من كثرة التوجيه، والواقع أن هذا ليس صحيحًا، بل من حُسْن التعليم أن يختصر المـُعَلِّم تنبيهاته في أقلِّ كلمات، ويحرص على عدم تكرار الأمر كثيرًا؛ وذلك حتى لا يُصيب المتعلِّم بالملل، أو يخلق عنده شعورًا بالتحدِّي أو الرفض؛ فالناس عادة لا تحبُّ مَنْ يُكْثِر من توجيهها وإرشادها، ولقد كان التقليل من الموعظة سُنَّة نبوية مضطردة لم يتخلَّ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».
ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يُباعد بين الدروس التي يعطيها للصحابة، وكان يُقَلِّل في زمنها، حتى لا يُصيبهم بالملل، فإذا كان هذا يحدث من الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، الذي آتاه الله جوامع الكلم، والحكمةَ البالغة، الذي عرف أخبار الأولين والآخرين، الذي يُوحَى إليه من ربِّ العالمين، فكيف الحال معنا، ونحن لم نؤتَ بلاغته صلى الله عليه وسلم، ولم نملك حُضوره وقوة تأثيره؟!
ولقد فهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم هذه السُّنَّة الجميلة فطبَّقوها في مواعظهم، ولم يستجيبوا للطلب المتكرِّر من الناس بأن يزيدوا من وتيرة الدروس؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
فهذه هي السُّنَّة المباركة، ولا أعني بهذه السُّنَّة الشيوخ والأئمة فقط؛ إنما يشمل ذلك نُصْحَ الأب لأولاده، والمدرِّس لتلامذته، والزوج لزوجته، والصديق لصديقه، فهي سُنَّة عامة تطرد الملل والضيق عن حياة المسلمين.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

275) سُنَّة عدم الاعتداء في الدعاء
يتكلَّف كثيرٌ من المسلمين -سواء من أئمة المساجد أو عموم الناس- في دعائهم، فيتعمَّدون البحث عن غريب الكلمات، أو عن السجع المبالغ فيه، أو عن التفاصيل الزائدة عن الحاجة؛ مما يصرف ذهن السامع للدعاء عن المراد، وهذا سلوك مخالف للسُّنَّة؛ حيث جاءت الأدعية النبوية مباشِرة وسلسة دون مبالغات أو تكلُّف، وقد روى أبو داود -وقال الألباني: حسن صحيح- عَنِ ابْنٍ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَنِي أَبِي، وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا، وَبَهْجَتَهَا، وَكَذَا، وَكَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَسَلَاسِلِهَا، وَأَغْلَالِهَا، وَكَذَا، وَكَذَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ؛ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ».
لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بالكلمات السهلة، والمعلومات البسيطة، التي يستطيع معظم المسلمين حفظها، وقد روى أبو داود عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ». وأفضل الدعاء أن تدعو بما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أدرى الناس بما يحبه الله عز وجل من مناجاة، وقد روى مسلم أن قَتَادَةُ سَأَلَ أَنَسًا رضي الله عنه أَيُّ دَعْوَةٍ كَانَ يَدْعُو بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ، قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا يَقُولُ: «اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ رضي الله عنه إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ.
فلنحرص على هذه البساطة في الدعاء، ولا نتكلَّف أو نعتدي فيه، وهذه هي السُّنَّة المباركة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

276) سُنَّة فك الأسير
من السنن النبوية المهجورة فكُّ الأسرى، ولعلَّ السبب في أن الناس قد هجرت ذلك يرجع إلى قَصْرِ الناسِ للفظ "الأسير" على أسرى الحرب؛ حيث إن إطلاق أسرى الحرب أمرٌ سياسي لا دخل للعامَّة فيه فقد توقَّف الناس عن تطبيق هذه السُّنَّة النبيلة، ومع ذلك فهذه السُّنَّة لها تطبيقاتها المعاصرة التي يمكن أن تُمارَس بسهولة، وذلك مثل السعي لإطلاق المسجونين الذين سُجِنُوا بسبب تراكم الديون عليهم، وذلك عن طريق دفع هذه الديون للدائنين؛ ومن ثَمَّ تنازل الدائن عن القضية، أو عن طريق دفع الكفالات لبعض المسجونين؛ الذين عجزوا عن دفع الكفالة في قضايا بسيطة لا تدخل تحت توصيف الجريمة أو الفساد، وقد وردت هذه السُّنَّة في أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فُكُّوا العَانِيَ، يَعْنِي: الأَسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ».
وروى البخاري عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ». قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ».
ويمكن لنا أداء هذه السُّنَّة منفردين، أو بالاشتراك مع بعض الزملاء لجمع ما يحتاجه السجين لإطلاقه، أو التواصل مع بعض الجمعيات الخيرية المهتمَّة بهذا العمل، ويمكن استخدام أموال الزكاة في هذا العمل؛ حيث إن الغارمين -أي المديونين- من مصارف الزكاة الثمانية، ويُعتبر هذا العمل من باب عتق الرقاب؛ حيث إن السجين في حكم العبد الذي لا يملك حريته، وإطلاقه يعني عتقه؛ وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ». فلنجتهد في تطبيق هذه السُّنَّة النبيلة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

277) سُنَّة قول الشهادة بعد الفجر والمغرب
أعظم شيء في الإسلام هو شهادة التوحيد، ولا يُقْبَل من المرء شيءٌ قبل توحيده لله، وقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: «ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ».
ولذلك فأجر قول شهادة التوحيد كبير للغاية، وكان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينطق بهذه الشهادة عشر مرات دبر صلاة الفجر، وكذلك دبر صلاة المغرب، وكأنه يستقبل النهار والليل بهذا التوحيد المطلق؛ فقد روى الترمذي وحَسَّنَه -وقال الأرناءوط: حسن- عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحُرِسَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ إِلَّا الشِّرْكَ بِاللَّهِ».
وزاد ابن حبان في روايته -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «.. وَمَنْ قَالَهُنَّ إِذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ دُبُرَ صَلَاتِهِ فَمِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ».
فهذه الشهادة الجليلة بهذا العدد لن تأخذ إلا دقائق معدودات، فلا نحرم أنفسنا من أجرها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

278) سُنَّة حفظ اللسان
من أبرز خصائص الشريعة الإسلامية اهتمامها بالأخلاق؛ فقد روى أحمد بإسناد صحيح عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ». ومن أظهر مكارم الأخلاق حفظ اللسان، وقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا».
وغالب الفحش يكون باللسان، فوَضَحَ أن أحسن الأخلاق هو الحرص على نظافة الكلمات، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم اللسان كاشفًا عن مصير الإنسان، أهو إلى الجنة، أم إلى النار؟! فقد روى الحاكم -وقال الذهبي: صحيح- عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه أنه قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانِهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةٌ، قَالَ: «لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ فِي النَّارِ». وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا. قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ».
والأثوار جمع ثور: وهو القطعة، والمقصود أن صدقتها قليلة، ولكن حُسن خلقها أدخلها الجنة، ويكفي أن حُسن الخلق يرفع صاحبه يوم القيامة حتى يجعله قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا..». فلنحرص على حفظ ألسنتنا من إيذاء الناس.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

279) سُنَّة النهي عن التداوي بالخبيث
لا يُصاب المؤمن بمرضٍ إلا كان المرضُ سبيلًا له إلى تكفير ذنوبه؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلَا نَصَبٍ، وَلَا سَقَمٍ، وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ، إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ».
ومن هذا المنطلق لا يجوز للمسلم أن يُفَوِّت هذه الفرصة فيرتكب في مرضه من الخطايا ما يُذْهِب بالمقصود، ومن الخطايا في المرض أن يسعى المريض إلى الشفاء عن طريق أمرٍ حرَّمه الله عز وجل، وما أروع جملة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الجامعة -كما روى البيهقي- التي قال فيها: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».
وكلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مأخوذ من السُّنَّة النبوية؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الخَبِيثِ».
وكلمة الخبيث كلمة شاملة، يندرج تحتها الحرامُ والنجسُ والمنكر، وهي من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وكلُِ خبيثٍ كان على زمانه صلى الله عليه وسلم، أو يظهر بعده، فهو منهيٌّ عنه، ولا يجوز استعماله في التداوي، فالخمر مثلًا حرام؛ لذا لا يجوز استعمالها في الطب، مع أنها قد تُفيد نسبيًّا في بعض الأمراض، ولكنها من الخبيث المحرَّم، وقد روى مسلم أنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ رضي الله عنه، سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ -أَوْ كَرِهَ- أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ».
وثبت بعد ذلك علميًّا أن ضرر الخمر -الذي يؤدي إلى الإصابة بأمراض كثيرة خطيرة- أكبر بكثير من نفعها، فوضحت أهمية السُّنَّة، وأنها أنقذت المسلمين من مهالك كثيرة، وبعضُ الأطباء النفسيين ينصحون مرضاهم أحيانًا بما يخالف الشريعة؛ مثل خلع الحجاب للمرأة، أو الاختلاط بين الجنسين، أو غير ذلك مما منعه الإسلام، فهذا كله من الخبيث الذي نُهينا أن نستعمله في التداوي، فليكن مرضنا طريقًا لتكفير السيئات بدلًا من مضاعفتها، ولنبحث عن الدواء في الحلال الكثير الذي بَثَّه اللهُ عز وجل في الكون.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

280) سُنَّة الاستئذان
من السُّنَّة النبوية أن يستأذن المسلم ثلاث مرات على الناس إذا أراد أن يدخل عليهم، فإن رفضوا دخوله أو لم يتلقَّ ردًّا على استئذانه، فإن عليه أن يرجع؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه ثَلاَثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ».
ومن الواضح في هذه الرواية أن عمر رضي الله عنه لم يكن يعرف بالحكم، وأثبتت الرواية كذلك ذعر أبي موسى رضي الله عنه من عدم معرفة عمر رضي الله عنه بالمسألة! وسبب الذعر وَضَّحته رواية مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، وفيها يَقُولُ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، فَأَتَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه مُغْضَبًا حَتَّى وَقَفَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ»؟ قَالَ أُبَيٌّ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمْسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، ثُمَّ جِئْتُهُ الْيَوْمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ، أَنِّي جِئْتُ أَمْسِ فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا، ثُمَّ انْصَرَفْتُ. قَالَ: قَدْ سَمِعْنَاكَ وَنَحْنُ حِينَئِذٍ عَلَى شُغْلٍ، فَلَوْ مَا اسْتَأْذَنْتَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ. قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ كَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَوَاللهِ، لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ، أَوْ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا. فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فَوَاللهِ، لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثُنَا سِنًّا، قُمْ، يَا أَبَا سَعِيدٍ. فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا.
فوظيفة الاستئذان إذن أن يسمح أو يمنع المستأذِن من الدخول، وبالتالي فلا حرج على المسلم أن يردَّ إنسانًا استأذن عليه، ولا ينبغي للمستأذِن أن يغضب من الرفض، فكل إنسان له أسبابه الخاصة التي تجعله غير قادر على استقبال الناس في كل وقت، والواقع أنها سُنَّة نبوية لو أحسن المسلمون التعامل معها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

281) سُنَّة التحفيز بالجنة والنار
من عادة الناس والشعوب المختلفة أن تُحَفِّز العاملين في أي هيئة أو مؤسسة عن طريق الثواب والعقاب، ويكون هذا عن طريق الأمور المادية فقط؛ مثل لفت النظر، والخصومات، أو الترقيات، والتكريم العلني، ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستخدم -أيضًا- هذا الأسلوب؛ فإنه كان يُكْثِر من تحفيز المسلمين للعمل عن طريق ترغيبهم في الجنة، أو ترهيبهم من النار؛ لأن نهاية رحلة الإنسان في الدنيا ليست مجرَّد ترقٍّ في المنصب، أو كثرة في المال، إنما النهاية تكون إلى جنةٍ أو نار، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُريد لهذه القضية أن تذهب من ذهن المسلم أبدًا؛ لذلك كان دائم التذكير بها؛ فمن هذا مثلًا تحفيز المسلم على الصدق؛ فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».
وأيضًا تحفيزه صلى الله عليه وسلم على إفشاء روح السلام في المجتمع؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».
وعندما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُحَفِّز المسلمين على الإنفاق خَوَّفهم من النار؛ فقد روى البخاري عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».
وهذه مجرد أمثلة، والأمر يخرج عن الإحصاء؛ فلنستخدم هذه الوسيلة النبوية في تحفيز أبنائنا، وعُمَّالنا، وإخواننا، وكل المسلمين على العمل الصالح، وهذا هو مراد الله عز وجل، الذي قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

282) سُنَّة عدم القراءة مع الإمام
من السُّنَّة أن يستمع المأموم إلى قراءة الإمام في الصلوات الجهرية؛ كصلاة الصبح، والمغرب، والعشاء، والجمعة، والعيدين، ولا يُسَنُّ للمأموم أن يقرأ -ولو بصوت منخفض- مع الإمام؛ لأن هذا من ناحيةٍ قد يُؤَدِّي إلى اضطراب الإمام، ومن ناحية أخرى قد يصرف ذهن المأموم عن الخشوع في الصلاة؛ بل قد يصرف بقية المأمومين عن سماع الإمام؛ لذا فإن السُّنَّة النبوية هي صمت المأموم أثناء قراءة القرآن، وذلك مع كامل الإنصات له؛ وقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالقِرَاءَةِ، فَقَالَ: «هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟». فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «إِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ القُرْآنَ؟». قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ القِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّلَوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وبالإضافة إلى ذلك يُسَنُّ للمأموم في الصلوات السِّرِّيَّة؛ أي الظهر والعصر، ألا يرفع صوته بالقراءة؛ فقد روى مسلم عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الظُّهْرِ -أَوِ الْعَصْرِ- فَقَالَ: «أَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟». فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا». أي: نازعنيها، وعليه فإن السُّنَّة أن يستمع المأموم إلى الإمام في الصلوات الجهرية، وأن يجعل قراءته خافتة تمامًا في أثناء الصلوات السِّرِّيَّة فلا يسمعه أحد.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

283) سُنَّة ختام قيام الليل
كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختم قيامه لليل بسؤاله النور من ربِّ العالمين، وكان يقول في دعائه -وذلك كما روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا».
وكان يقول هذا الدعاء أحيانًا في آخر صلاته، وأحيانًا أخرى بعد انتهاء الصلاة، وأحيانًا ثالثة وهو في طريقه إلى صلاة الفجر، وجميلٌ أن يدعو المسلم ربَّه أن يرزقه النور؛ خاصة أن هذا الدعاء يكون في جوف الليل، والظلام شديد، وجميلٌ كذلك أن يتصوَّر المسلم أن الله سيرزقه النور في ظلمات يوم القيامة نظير عبادته له سبحانه في ظلام الليل، وهذا ما فهمناه من رواية الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: «بَشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ».
لهذا كان الرسول يدعو بهذا الدعاء الرقيق في هذا التوقيت، فلنحفظ هذا الدعاء، ولنحرص على ترديده في هذا الوقت.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

284) سُنَّة الصلاة إلى سترة
أراد الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يُصَلِّي صلاته خاشعًا لله دون شواغل أو ملهيات؛ لذلك منع الناس من المرور بين يدي المصلِّي حتى لا يصرفون ذهنه عن صلاته؛ وقد روى البخاري عن أَبِي جُهَيْمٍ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ». قَالَ أَبُو النَّضْرِ -أحد رواة الحديث-: لاَ أَدْرِي، أَقَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً.
ولكي يُساعد المصلِّي نفسه على الخشوع، ولكي يُساعد الناسَ في تطبيق سُنَّة عدم المرور بين يدي المصلِّي، شَرَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّة جميلة، وهي سُنَّة الصلاة إلى سترة، وهذا يعني أن يضع المصلِّي أمامه شيئًا حائلًا يُصَلِّي إليه، فمَنْ أراد أن يمرَّ فليفعل ذلك من خلف السترة، وبذلك يحفظ المصلِّي خشوعه في الصلاة دون أن يُرهق الناس بانتظار انتهاء صلاته؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: حسن صحيح- عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا».
وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرْكَزُ لَهُ الحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا».
وروى البخاري عن أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالأَبْطَحِ، فَجَاءَهُ بِلاَلٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَرَجَ بِلاَلٌ بِالعَنَزَةِ -أي العصا- حَتَّى رَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالأَبْطَحِ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ».
وروى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ المُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ، حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ المَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ». والسواري هي أعمدة المسجد، وكانوا يُصَلُّون إليها كسترة.
ومن السُّنَّة أن يجعل المصلِّي السترة قريبة لئلاَّ يُضَيِّق على المسلمين طريقهم؛ فقد روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: «كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ». وفي رواية أبي داود المذكورة آنفًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.. وَلْيَدْنُ مِنْهَا». أي من السترة، فلنحرص على هذه السُّنَّة المهمَّة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

285) سُنَّة الغداء والقيلولة بعد الجمعة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن ينتبه إلى أهمية يوم الجمعة؛ فإن الأمم السابقة قد نُبِّهت لأهمية هذا اليوم ولكنهم غفلوا عنه، فضاع عليهم خيرٌ كثير؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة، وحُذَيْفَةَ رضي الله عنهما، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا فَهَدَانَا اللهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ، وَالسَّبْتَ، وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ».
لذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار من السنن الخاصة بيوم الجمعة؛ ومن هذه السنن أنه كان يتناول طعام الغداء وينام القيلولة بعد صلاة الجمعة؛ فقد روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: «كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى بَعْدَ الجُمُعَةِ». وفي رواية مسلم: «مَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ».
ولعل الكثير من المسلمين يفعلون ذلك الآن دون أن يدروا أنها سُنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الواقع أن معرفة سُنِّية هذا الفعل أمرٌ مهمٌّ؛ لأننا عرفنا بذلك نظام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، فهم كانوا يتناولون طعام الغداء في كل أيام الأسبوع قبل صلاة الظهر، أما في يوم الجمعة فكانوا يُؤَخِّرون ذلك بعد صلاة الجمعة؛ لأنهم يُبَكِّرون في الذهاب إلى المسجد، فلا يجدون وقتًا للغداء؛ فقد روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: «كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الجُمُعَةِ». مع العلم أنهم كانوا يبدءون يومهم من قبل صلاة الفجر؛ ومن ثَمَّ كانوا يحتاجون للغداء في منتصف النهار قبل صلاة الظهر، باستثناء يوم الجمعة كما تَبَيَّن لنا، فلنحرص على هذه السنن الجميلة، فنجعل ذهابنا إلى المسجد يوم الجمعة مبكِّرًا جدًّا، ثم نعود مباشرة لتناول طعام الغداء فالقيلولة، ولنعلم أن لنا في ذلك أجرًا كبيرًا لأننا مُتَّبعون فيه للسُّنَّة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

286) سُنَّة الإيثار
جميلٌ أن يتصدَّق المسلم على المحتاجين والفقراء، ولكن عجيبٌ حقًّا أن يُفَضِّل المسلمُ غيره على نفسه، فيعطي بينما هو في حاجة! وهذا هو الإيثار الذي ذكره الله عز وجل في كتابه في حقِّ الأنصار رضي الله عنهم؛ وذلك حين قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، والإيثار سُنَّة نبوية راقية، فقد روى البخاري عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ، فِيهَا حَاشِيَتُهَا». أَتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا. «فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ». فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا. قَالَ القَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ. قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
ففي هذا الموقف نفهم أبعاد هذه السُّنَّة النبوية العجيبة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى البردة، وليس عنده بديل لها، وقد لبسها من فوره لشدِّة احتياجه لها؛ ولكنه عندما وجد سائلًا يطلبها ما تردَّد في التصدُّق عليه بها، فهذا هو الإيثار، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تشجيع المسلمين على التحلِّي بهذه السُّنَّة الجميلة؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ. فَقَالَ: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟». فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي. قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِ السِّرَاجَ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ، فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ. قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ».
فهذا الخُلُق الراقي يفتح المجال أمام جميع المسلمين ليكونوا من أصحاب الفضل والعطاء، فليس بالضرورة أن تكون ثريًّا فتعطي من فضل مالك؛ بل يمكن أن تكون محتاجًا وتعطي، وليس أجر ذلك بالهيِّن؛ بل هو الفَلَاح بعينه، فقد خَتَم اللهُ آية الإيثار بقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، فلْنَسْعَ إلى هذا الفلاح.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

287) سُنَّة الاستعاذة من الشرك
أسوأ ما يمكن أن يقوم به الإنسان في هذه الدنيا أن يُشْرِك بالله عز وجل؛ فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ».
وعندما يسمع المسلمُ كلمةَ "الشِّرْك" يظنُّ أنها كلمة بعيدة عن حياته؛ ولكن الواقع أن المرء يمكن أن يُشْرِك بالله في صورٍ كثيرة، وليس بالضرورة أن يسجد لشجرة، أو يذبح لصنم؛ ولكنه قد يعمل كثيرًا لغير الله، ويُقَدِّم رضا الناس على رضا خالقه، ويحبهم أو يخاف منهم، أكثر من حبِّه أو خوفه من الله، وقد يُشْرِك في دعائه، أو عبادته، أو معاملاته، وهو يدري أحيانًا، ولا يدري في الأكثر، وهذا أمر خطير مُهْلِك، وقد روى البزار -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الرِّبَا سَبْعُونَ بَابًا, وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ».
وهذا يكشف لنا أهمية السُّنَّة التي بين أيدينا؛ وهي سُنَّة الاستعاذة بالله من الشِّرْك؛ فقد روى البخاري في الأدب المفرد -وقال الألباني: صحيح- عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟». قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ».
وروى أحمد -بإسناد صحيح- عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ, وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ».
فلنحرص على ترديد هذا الدعاء القصير يوميًّا فإنه وقايةٌ لنا من شرٍّ عظيم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

288) سُنَّة التبشير بالنصر
كثيرًا ما تمرُّ الأمة الإسلامية بأزمات وشدائد، وقد يُحْبَط بعض المسلمين عند رؤية أهل الباطل يُسيطرون أحيانًا على مقاليد الأمور، وهذا الإحباط ليس من شيم المؤمنين؛ وقد قال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]؛ لهذا كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبَشِّر المسلمين دومًا بالنصر، حتى لو كانت المشاهدات المادية تُشِير إلى عكس ذلك، فالواقع أن المسألة عقائديةٌ بحتة؛ فالله لا يُعجزه شيء، وهو قادر على تبديل الحال إلى غيره في لحظة؛ وقد روى البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رضي الله عنه، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
وفَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الشيء نفسَه مع عدي بن حاتم رضي الله عنه عند أول أيام إسلامه، فكان من كلماته -كما روى البخاري عنه-: «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ». وكان من كلماته: «وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى». وكان من كلماته أيضًا: «وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ».
ومثل ذلك كثير في السُّنَّة النبوية، فلتكن هذه هي عقيدتنا، ولتكن البشرى في قلوبنا وعلى ألسنتنا، ولنعلم أن هذه هي سُنَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

289) سُنَّة ذكر الله
لعلَّ أكثر عبادة كان يقوم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عبادة الذكر؛ فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ». فكان له صلى الله عليه وسلم في كل موطنٍ أو موقفٍ ذِكْرٌ؛ وهذه سُنَّة نبوية في غاية الأهمية، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعلها الوصية الوحيدة لمسلمٍ طَلَبَ وصيةً مختصرةً؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».
ورَفَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جدًّا من أجر الذكر حتى جعل الذاكرين هم أسبق الناس إلى الجنة؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ. فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ». قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ».
بل روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى». قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه: «مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».
فلنحافظ على هذه السُّنَّة الرائعة في كل أوقاتنا، ولنحذر من الغفلة؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ».
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

290) سُنَّة دعاء المنتبه ليلًا
كثيرًا ما ينتبه الإنسان أثناء نومه فيستيقظ لبرهة؛ سواء كان ذلك لتقلُّبه في فراشه، أو لرؤيته حُلْمًا، أو لسماعه صوتًا، أو لغير ذلك، ثم يُكمل المرء نومه بعد انتباهته المؤقتة، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ في هذه الانتباهة القصيرة، وهي ذكرٌ ودعاء، وقد يُتْبِع ذلك بوضوء وصلاة؛ فقد روى البخاري عَنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ».

291) سُنَّة منع المارِّ بين يدي المصلِّي
من السُّنَّة أن يحافظ المسلمون على صلاة بعضهم البعض، فيحرص كلُّ مسلم على ألا يشغل إخوانه في صلاتهم أو يلهيهم؛ وذلك حتى لا يُفْسِد خشوعهم، وقد عَلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّة أمور تُعِين على ذلك؛ منها عدم المرور بين يدي المصَلِّي؛ فقد روى البخاري عن أَبِي جُهَيْمٍ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ». قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ أَدْرِي أَقَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً.
ولكن ماذا لو ترك مسلمٌ هذه السُّنَّة ولم يكترث بها، ومَرَّ أمام المصلِّي تمامًا؟ يأتي هنا دور سُنَّة منع المارِّ بين يدي المصلِّي من فعل ذلك؛ فقد روى البخاري عن أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنَ الأُولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ».
وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ».
وليلحظ المسلم أن يتدرج في المنع، فيُشِير بيده أولًا لتنبيه المارِّ، فإذا أَبَى فليدفعه دفعًا خفيفًا، فإن أَبَى زاد في دفعه، وعلى الأئمة في المساجد أن يُنَبِّهوا المصلِّين إلى ذلك الحُكْم حتى لا تحدث مشاحنات بين المسلمين، وليحرص كل مسلم على الصلاة إلى سترة قريبة كي يسمح للناس بالمرور أمامه من خلف السترة دون حرج.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

292) سُنَّة قصر الخطبة
يعتقد بعض الأئمة والدعاة أن قلة حضور المسلمين لدروس العلم تُعْطِي الخطباء العذرَ لكي يُطيلوا خطبة الجمعة؛ وذلك لاستغلال الفرصة لتعليم المسلمين، ولكن الواقع أن السُّنَّة النبوية الصحيحة تقضي بقصر الخطبة على الرغم من كل الأعذار التي يُقَدِّمها الخطباء! فقد روى مسلم عن أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ رضي الله عنه، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ؛ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ -أي أَطَلْتَ قليلًا- فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ -أي علامة- مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا».
وروى النسائي -وقال الألباني: صحيح- عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه، يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ». فهذه هي السُّنَّة، ولقد قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الواقع المخالف للسُّنَّة، والذي ستُقْبِل الأمة عليه، من كون الخطباء يطيلون في الخطبة، غير مكترثين بتطبيق السُّنَّة؛ فقد روى روى مَالِكٌ -وقال ابن عبد البر: وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَّصِلَةٍ حِسَانٍ مُتَوَاتِرَةٍ- عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ لِإِنْسَانٍ: إنك في زمان كثيرٌ فقهاؤه، قليلٌ قرَّاؤه، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُونَ الْخُطْبَةَ، يُبَدُّونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، يُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيُقَصِّرُونَ الصَّلَاةَ، يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ.
والواقع أن المسلمين في هذا الزمان الذي قَلَّت فيه الدروس والمواعظ يحتاجون إلى تشجيع لحضور خطبة الجمعة مبكِّرين ومُنْصِتِين، ولن يكون ذلك إلا إذا أيقنوا أن الخطيب يحرص على ما قلَّ ودلَّ، وأنهم لن يُصابوا بالملل والضيق إذا حضروا الخطبة من أولى لحظاتها، فليحرص الأئمة على هذه السُّنَّة، وليجتهد المصلُّون الغيورون على سُنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم في إيصال هذه المعاني لخطباء مساجدهم.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

293) سُنَّة تقبيل الأطفال
الإسلام دين الرحمة، وأبلغ مظاهر رحمته تكون مع الضعفاء، والأطفال من أكثر الضعفاء الذين يحتاجون إلى عطف ورِقَّة وحنان، ومن أروع الأمور أن السُّنَّة النبوية تُلْزِم المسلمين برحمة الأطفال، وتجعل في العطف بهم دليلًا على صلاح قلوبهم، وتضع لهذه الرحمة معايير وعلامات وطرقًا مختلفة، وكان من ذلك تقبيلهم؛ فقد روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ».
وروى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم». قَالَ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ».
ومن الرائع أن نعلم أن هذه الرحمة كانت في بيئة غير معتادة على هذا السلوك الرقيق، فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، أَبْصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ». وفي رواية لمسلم عَنْ عَائِشَةَ ل، قَالَ له: «وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ».
فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الرحمة بالأطفال وتقبيلهم دليلًا على وجود الرحمة في قلب المسلم، فلتكن هذه الرِّقَّة هي شعارنا في التعامل مع الأطفال بشكل عامٍّ، وأطفالنا على وجه الخصوص.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

294) سُنَّة الدعاء عند دخول الخلاء
الحرب بين الشيطان والإنسان لن تقف أبدًا؛ فقد أقسم الشيطان أن يُهْلِك كلَّ مَنْ يستطيع من بني آدم عليه السلام؛ فقد قال تعالى يحكي عزم الشيطان: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، وللشيطان طرق كثيرة في إغواء البشر؛ ومن أهم هذه الطرق كشف العورة، ويعتبر الشيطان هذا الكشف خطوة أولى لما بعدها من فواحش، ويسعى لذلك بكل طاقته، ويستمتع برؤية الإنسان عاريًا، ويستغلُّ عريه لبثِّ الأفكار الفاسدة فيه، قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 26، 27]؛ فهذه هي طريقته ومنهاجه؛ لذلك كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بالله من الشيطان عند مواطن التعرِّي، فكان يفعل ذلك عند دخوله للخلاء لقضاء الحاجة؛ فقد روى البخاري عن أَنَسٍ رضي الله عنه، أنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ». والخبث هم ذكور الجنِّ، والخبائث هم إناثهم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله -أيضًا- من الشيطان عند الجماع؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ».
فلتكن هذه عادتنا وسُنَّتنا عن هذه المواطن، ولنعلم أن ترك هذه السُّنَّة يُعطي فرصة للشيطان للوسوسة بالشَّرِّ، فلا ننسَ ذلك أبدًا.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].