حقوق و آداب الطريق ..

جودى

:: مسافر ::
11 يناير 2019
998
0
0
41
الحمدلله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد , و هو على كل شيء قدير , و أصلي و أسلم على نبينا و
سيدنا محمد , و على آله و صحبه أجمعين , ثم أما بعد , فاتقوا الله تعالى و الزموا أوامره و اجتنبوا نواهيه ,
قال سبحانه و تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون ) آل عمران .

أيها المؤمنون , اعلموا أن هناك آدابا يجب على المسلم أن يتأدب بها و أن يتخلق بها حتى يصل إلى درجات
من الكمال في الأدب و حسن الخلق , و من ذلك آداب الطريق و الأسواق ، و التخلق بالأخلاق الحسنة مع
المسلمين في طرقاتهم و مجالسهم و أسواقهم , قال تعالى : ( وَ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأرْضِ
هَوْناً وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ) الفرقان , و قال تعالى : ( وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ
وَ ٱلْبَصَرَ وَ ٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً , وَ لاَ تَمْشِ فِى ٱلأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأرْضَ وَ لَن تَبْلُغَ
ٱلْجِبَالَ طُولاً , كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا ) الإسراء , و قال تعالى : ( وَ إِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ
وَ قَالُواْ لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ ) القصص ..

و في السنة النبوية ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إياكم
و الجلوس في الطرقات ، فقالوا يا رسول الله , ما لنا بدٌّ من مجالسنا نتحدث فيها ، قال : فإن أبيتم إلا
المجلس فأعطوا الطريق حقه ، قالوا و ما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : غض البصر و كف الأذى و رد
السلام ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ) متفق عليه , و في حديث أخرجه الترمذي و البخاري في الأدب
المفرد و ابن حبان , و حسنه الألباني رحمه الله : ( عدَّ النبي صلى الله عليه و سلم من أبواب الخير : تبسمك
في وجه أخيك لك صدقة , و أمرك بالمعروف و نهيك عن المنكر صدقة ، و إرشادك الرجل في أرض الضلال
لك صدقة ، و بصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة ، و إماطتك الحجر و الشوكة و العظم عن الطريق لك
صدقة ، و إفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة ) ..

أيها المؤمنون , في نهيه عليه الصلاة و السلام عن الجلوس في الطرقات سد للذريعة إلى المحرم , فإن
الجلوس في الطرقات مظنة النظر إلى من يمر من النساء الأجنبيات , و تعمد النظر إليهن حرام و ذريعة إلى
الافتتان بهن , و مضايقتهن إغوائهن , و هذا من علل النهي عن الجلوس في الطرقات ، و الطرقات تشمل
أماكن عدة , فمنها الجلوس على الأرصفة , و منها الجلوس في الأسواق و على أبواب المحلات و الدكاكين
أمام الغادي و الرائح ، و منها الجلوس على قارعة الطريق في الشوارع و الأزقة ، و منها ركوب السيارة و
الدوران طوال النهار في الطرقات لمعاكسة النساء و المردان , فهذا أيضا منهي عنه , و يدخل في معنى
المكوث و الجلوس في الطرقات , فغض البصر حق لأهل الطريق من المارة و الجالسين , يحفظ حرماتهم و
عوراتهم ، و النظر كما تعلمون بريد الخطايا ، و إننا لنرى في الطرقات و الأسواق من يُرسل بصره محمَّلاً
ببواعث الفتنة و دواعي الشهوة ، و قد يُتبع ذلك بكلمات و إشارات قاتلة للحياء و العفة , مسقطة للمروءة ,
فهؤلاء يأثمون ببقائهم فيها , لأنهم لم يعطوا الطريق حقه , بل آذوا و ضايقوا دون وازع من حياء , و هذا
الذي يتصيد نساء الجيران و زوارهن ، و بعاكس النساء في الأسواق و طالبات المدارس هو نفسه لا يرضى
أن يفعل ذلك أحد مع أخته أو زوجته أو إحدى قريباته , فكيف بالله يرضى ذلك على نساء المؤمنين ؟ ألا
يتقي الله ؟ ألا يعلم أن الجزاء من جنس العمل ؟ و قد ورد في الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمر رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( يا مَعْشَرَ مَن آمن بلسانِه و لم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه ، لا تُؤْذُوا
المسلمينَ و لا تُعَيِّرُوهم و لا تَتَّبِعُوا عَوْراتِهِم ، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَه , و مَن يَتَتَبَّعِ
اللهُ عَوْرَتَه يَفْضَحْهُ و لو في جوفِ بيتِه ) الترمذي و أحمد و أبو داود , و صححه الألباني ..

وأما المراد بكف الأذى إماطته عن الطريق إن وجد من غيرك ، و الأذى كلمة جامعة لكل ما يؤذي المسلمين
من قول و عمل ، قال عليه الصلاة و السلام : ( لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر
الطريق كانت تؤذي الناس ) مسلم , و في حديث آخر : ( بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على
الطريق ، فأخَّره فشكر الله له فغفر له ) متفق عليه ..
و إذا كان هذا الثواب العظيم لمن يكف الأذى ، فكيف تكون العقوبة لمن يتعمد إيذاء الناس في طرقاتهم و
مجالسهم ، فيهزأ بالمارة و يسخر منهم , و يحتقر الضعفاء و الاطفال , و يضجك من كبار السن و العجائز ,
فيتهكم بهذا و ينتقد هذا , و يغمز و يلمز ذاك , و يؤذي النساء بكلمات فاحشة لا يرضاها لمحارمه , و يضع
النفايات و المستقذرات في طرقهم ، و قد يقضي الحاجة و يرمي المخلفات في متنزهاتهم و حدائثهم و
أماكن استظلالهم و استراحتهم , أخرج الطبراني بسند صحيح من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم ) و حسّن إسناده
المنذري في الترغيب ، و الهيثمي في المجمع ، و الألباني في صحيح الترغيب , و في حديث أبي هريرة عند
مسلم قوله عليه الصلاة و السلام : ( اتقوا اللعَّانين , قالوا و ما اللعانان يا رسول الله ؟ قال : الذي يتخلى
في طريق الناس أو في ظلِّهم ) ..

و نحن لا نتألم إلا من شيء نحس به و نراه و نسمعه ، و لا نتضرر إلا من الخبثاء المتعرضين على الطرقات
للعفيفات الطاهرات الحرائر , و هم كثيرون عندنا يجوبون الشوارع و الطرقات و يترصدون لطالبات المدارس ,
و إننا لنشكو إلى الله تعالى , ثم إلى ولاة الأمور و أنصار الفضيلة ما نعانيه من هؤلاء الأوغاد السفلة الأراذل
الفارغين المتمردين على كل أدب جم و خلق رفيع ، رضوا أن يكونوا في هذه الحياة كالبهائم بل هم أضل ،
ليس لهم هم سوى إشباع رغباتهم الشهوانية و الجسدية , قال تعالى : ( و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون
كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم ) محمد ، و قال تعالى : ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن
هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) الفرقان ..

و أما إفشاء السلام , فيسلم ابتداءً , و يرده على من سلم , و السلام أدب كريم يتخلق به أبناء الإسلام ، و
حقٌ يحفظونه لإخوانهم ، يغرس المحبة و يزرع الألفة و يغسل الأحقاد و يزيل الإحن ، ويستجلب به رضا الله
وغفرانه ، و في الحديث قال عليه الصلاة و السلام : ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، و لا تؤمنوا حتى تحابوا ،
أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة ,
و إننا لنأسف و نتحسر على البعض الذين تكون تحيتهم هي السباب و الشتم و اللعن أحيانا , و هذا من أمور
الجاهلية التي يجب على المسلم تركها و أن يستبدل بدلا منها ما أمرنا به و هو السلام , و في فضل إفشاء
السلام روى البخاري و مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( أن رجلا سأل النبي صلى
الله عليه و سلم : أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام و تقرأ السلام على من عرفت و من لم تعرف ) .

و أخيرا أيها المؤمنون , فإن الجامع لهذه الآداب و الحقوق هي تلك الكلمة الجامعة المانعة : ( الأمر بالمعروف
و النهي عن المنكر ) , و يدخل في ذلك ما شئتم من مكارم الأخلاق و الآداب و المروءات , و هذا باب واسع
جدا , و هو واجب على الكفاية , و ينبغي لمن رأى منكرا أن ينكره حسب استطاعته , فإن لم يستطع فبقلبه
كما ورد بذلك الحديث عنه صلى الله عليه و سلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه
فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان ) مسلم , فمن رأى مثلا امرأة متبرجة سافرة عن وجهها
مائلة مميلة فينكر عليها فعلها هذا إن أمن الفتنة و يأمرها بالحجاب الشرعي و يذكرها بما ورد من الوعيد في
التبرج حتى تتعظ و تترك ما هي عليه , و إن رأى شابا يتسكع في الطرقات و يجوب بسيارته الشوارع و الأزقة
ليبحث عن ضحية يؤذيها فهذا ينهى أيضا و يذكر بالله , فإن لم ينتصح يبلغ الشيخ أو تبلّغ إحدى الدوريات
لتقبض عليه و ينال جزاء فعلته و جرمه و إيذائه لنساء المسلمين .

أيها المؤمنون . إن علينا أن نأخذ من كل خلق أرفعه و من كل أدب أرمقه , فهذا رسول الله صلى الله عليه و
سلم ما بعث إلا ليتم مكارم الأخلاق ، و لهذا ينبغي لكل مسلم أن يكون عضوا صالحا في مجتمعه قدوة
للأجيال بعده ، و لا يكون عضوا فاسدا و مفسدا و قدوة سيئة للأجيال بعده .
و على الضعيف الذي لا يأمن على نفسه الفتنة أن يجتنب الجلوس في الطرقات حسب استطاعته , ومن أصر
بعد هذا كله على الجلوس في الطرقات أو لم يكن له بدٌّ إلا الجلوس فيها فليعط الطريق حقه من حفظ اللّقطة
و إرشاد الضال و رد الباغي عن ظلمه و حسن المقابلة و كف الأذى و إفشاء السلام و إزالة المنكر و هداية
الأعمى و إماطة الأذى عن الطريق و أن يدل المستدل على حاجته و يحمل مع الضعيف و يسعى مع اللهفان
المستغيث , فهذا كله صدقة و يؤجر بهذه الأفعال .

أيها المؤمنون , إن من لم يعط الطريق حقه يُتبع نفسه هواها ، و يريد أن يملأ عينه بمناها ، فيَذلُّ بعد عز ،
و يفسق بعد عفة . إن هذه المواطن إن لم تُرْعَ فيها آداب الإسلام , فهي مرتع خصيب للذنوب من أذية و
غِيبة و نميمة و سخرية و الكذب و الإفك المبين , أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( يٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَ أْمُرْ
بِٱلْمَعْرُوفِ وَ ٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَ ٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلاْمُورِ , وَ لاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لاَ
تَمْشِ فِى ٱلأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ , وَ ٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ ٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ
أَنكَرَ ٱلاْصْوٰتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ ) لقمان ..

اللهم صل و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين ..