الحمد لله رب العالمين , أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد , و هو على كل شيء
قدير , و أشهد أنَّ سيدنا محمداً عبد الله و رسوله , صلى الله و سلم عليه و على آله و أصحابه أجمعين , ثم
أما بعد , فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون , ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ
اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر ..
أيها المؤمنون , إن نعم الله سبحانه علينا عظيمة و كثيرة لا تعد و لا تحصى , قال تعالى : ( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إن الله لغفور رحيم ) النحل , بل بين سبحانه أن أي نعمة يتنعم بها الإنسان فإنها منه تعالى ,
قال تعالى : ( و ما بكم من نعمة فمن الله ) النحل , و إن من أعظم النعم التى وهبها الله لعباده و أباحها لهم
و التي تحقق الاستخلاف في الأرض و تحقق انتشار النوع الإنساني في هذا الكون نعمة النكاح نعمة الزواج ,
هذه النعمة التي امتن الله بها على عباده ، و جعلها دليلا على ربوبيته و وحدانيته و رحمته بعباده , و جعلها
ضرورة من ضروريات الحياة , فبالزواج تحصل مصالح الدين و الدنيا و يحصل به الارتباط بين الناس ، و بسببه
تحصل المودة و التراحم , و يسكن الزوج إلى زوجته و الزوجة إلى زوجها قال تعالى : ( وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم , و
قال تعالى : ( هن لباس لكم و أنتم لباس لهن ... ) البقرة , و جعله سبحانه من سنة الأنبياء و المرسلين ,
فقال تبارك و تعالى : ( و لقد أرسلنا رسلاً من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية ... ) الرعد ..
و لِـما في الزواج من المقاصد العظيمة و الفوائد الجلية و الحكم البالغة , فقد جاءت الآيات القرآنية و الأحاديث
النبوية في الأمر بالزواج و الترغيب فيه , و من ذلك قول الله تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَ ثُلاثَ وَ رُبَاعَ ) النساء ، و قال تعالى : ( وَ أَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) النور ، و الأيامى : جمع أيم ، و هو الذي لا زوج له من الرجال
و النساء , و في الآية حث على النكاح و وعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :
( أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى ) . و قال ابن مسعود رضي الله عنه :
( التمسوا الغنى في النكاح ) و في الحديث : ( ثلاثة حق على الله عونهم : المتزوج يريد العفاف ، و المكاتب
يريد الأداء ، و الغازي في سبيل الله ) رواه أحمد والترمذي والنسائي و ابن ماجة .
و في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
و سلم ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) , و قال صلى الله عليه و سلم : ( إذا أتاكم
من ترضون دينه فزوجوه ) رواه الترمذي و هو حديث صحيح , و بالزواج يحصل تكثير النسل المندوب إلى
طلبه كما في الحديث عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم )
أبو داود و النسائي ، و بالزواج تحصن الفروج و يعم العفاف و الطهر مجتمعات المسلمين , و يكون أدعى
إلى غض الأبصار , و بالزواج تحلو الحياة و تصبح جميلة , و إن حياة المتزوجين أحسن من حياة العزاب بكثير ,
فإن نفوسهم تكون مطمئنة , و عيشتهم تكون هنية , و تتوفر لديهم أسباب الراحة و الدعة و السكون ,
و تنتعش المشاعر و العواطف من المودة و المحبة و الرحمة , ( وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم ,
و بالزواج كذلك تزكو أمور دين المتزوج و دنياه ، كما في الحديث : ( إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين
فليتق الله في النصف الثاني ) رواه البيهقي وحسنه الألباني بمجموع طرقه ، خصوصاً إن وفق لامرأة صالحة
قانتة حافظة للغيب بما حفظ الله ، إن نظر إليها سرته و إن أمرها أطاعته ، و إن غاب عنها حفظته في نفسها
و ماله ، و هذا لا يمكن أن يكون إلا في ذات الدين قال صلى الله عليه و سلم : ( الدنيا متاع و خير متاعها
المرأة الصالحة ) مسلم . و في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
و سلم قال : ( تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ) .
و لا يظنن ظان أن الفوائد من النكاح إنما تحصل للشباب فقط , بل هي للشباب و الفتيات على حد سواء ،
و لذلك لا ينبغي للأب أن يُؤخر زواج ابنته إن تقدم لها من يرضى في دينه و خلُقه ..
أيها المؤمنون , إن دفع الخاطب الكفؤ في دينه و خلقه و رده من غير مسوغ شرعي إنما هو معصية لله و
رسوله و خيانة للأمانة و إضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته ، و سوف يحاسب على ذلك يوم لا ينفع مال و
لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، أفلا يكون عند هؤلاء دين و رحمة ؟ , و إن الزواج للشاب و الفتاة من
أفضل الأمور التي يقدمها الأب لابنه إن كان قادراً و لابنته إن تقدم لها صاحب الدين و الخلق , خصوصا في
هذا الزمان الذي ماجت فيه الفتن ، و معظمها و اكثرها يتعلق بالشهوة و الجنس و العري و الدعارة و الرقص
و المجون و الإغراء و التنافس في فتنة الناس , ثم سهولة التواصل بين الجنسين من خلال وسائل التواصل
المعروفة , حتى أصبح طريق الشر و العياذ بالله سهلا ميسورا ، و المعصوم من عصمه الله ، و هذا مصداق
قول النبي صلى الله عليه و سلم ( ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء ) البخاري . و إن
وقوف أولياء الأمور ضد الزواج مخالفة لأوامر الله تعالى و أوامر رسوله صلى الله عليه و سلم التي رغبت
في الزواج المبكر و تيسير أسبابه ، كما أن في ذلك تعريض الشباب و الفتيات للخطر و الفتنة و الفساد ،
لأجل ذلك فليتق الله كل مسلم في نفسه و في أولاده و بناته ، و ليبادر إلى تزويجهم بما تيسر ،
فأعظم النكاح بركة ، أيسره مؤونة كما جاء في الحديث الشريف ..
أيها المؤمنون , إننا و للأسف الشديد نرى شريحة كبيرة من الشباب تعزف عن الزواج الشرعي ، و تهروب من
مسئوليته ، و في ذلك خطر عظيم عليهم و على مجتمعهم و أمتهم . و قد تكون لديهم أسباب معقولة و
غير معقولة , أما غير المعقولة فلسنا في خبرها , بل سنسلط الضوء على المعقول منها و الذي نكاد
نعرفه جميعا , و هذه الأسباب تتلخص في غلاء المهور و ارتفاع تكاليف الزواج ..
المهر أيها الأحباب و الذي هو عمود الأساس في نظام الزواج الذي فرض للمرأة حقاً على الرجل ، و هو
الصداق الذي يعطيه لها دلالة صدق على اقترانه بها و رغبته فيها ، و أنها موضع حبه و بره و عطفه
و رعايته , و لقد تفردت شريعة الإسلام على غيرها من الشرائع و القوانين ، بأنها كرمت المرأة ، و أحسنت
إليها ، و أثبتت لها حقها في التملك و حيازة المال بعد أن كانت في الجاهلية كسقط المتاع ، تباع و تشتري ،
ولهذا أوجب الإسلام على من يتقدم لخطبة المرأة أن يدفع لها الصداق ، و هو عبارة عن نوع من التقدير و
الاحترام ، و ليس ثمناً أو قيمة لها , قال تعالى : ( وَ ءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء منْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ) النساء . و الإسلام لم يحدد مقدار المهر و كميته ، و ذلك لتباين الناس و اختلاف
مستوياتهم و بلدانهم و عاداتهم ، و لكن الاتجاه العام في الشريعة الإسلامية يميل نحو التقليل فيه ،
فذاك أقرب لروح الدين ، فيكون حسب القدرة و حسب التفاهم و الاتفاق , و لم يؤثر عن النبي صلى الله
عليه و سلم ، و لا عن أحد من أصحابه ، أو التابعين لهم بإحسان ، أنهم تغالوا في المهور ، و لا أمروا بذلك ،
بل ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه فأنكحوه ، إلا
تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد ) الترمذي و قال حديث حسن ، و ابن ماجة و الحاكم ،
فالإسلام في حرصه على إقامة الحياة الزوجية الهانئة إنما يقيمها على الدين والخلق ..
و الإسلام اعتبر أن المرأة كلما كان مهرها قليلاً كان خيرها كثيراً ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن أعظم النكاح بركة ، أيسره مؤونة ) أحمد و البيهقي . و روى الإمام
أحمد و البيهقي و الحاكم مرفوعاً : ( إن من يمن المرأة تيسير خطبتها و تيسير صداقها ) ، و كان صداق
أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و بناته في حدود خمسمائة درهم ، و زوج امرأة على رجل فقير ليس
عنده شيء من المال بما معه من القرآن ، بعد أن قال له : ( التمس و لو خاتماً من حديد , فلم يجد
شيئاً . فقال : أمعك من القرآن شيء ؟ قال : نعم سورة كذا و كذا و سورة كذا ، لسور سماها ،
فقال : قد زوجناكها بما معك من القرآن ) متفق عليه .
و رسولنا صلى الله عليه و سلم هو الأسوة و القدوة لهذه الأمة فلم يكن صلى الله عليه و سلم يزيد في
مهر نسائه أو بناته عن خمسمائة درهم ، أخرجه أبو داود بسنده عن أبي الجعفاء السلمي قال : ( خطبنا عمر
رضي الله عنه فقال : ألا لا تغالوا بصداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان
أولاكم بها النبي صلى الله عليه و سلم ، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة من نسائه ، و
لا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشر أوقية ) , و الله تعالى يقول : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَ الْيَوْمَ الآخِرَ وَ ذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) الأحزاب ..
و لقد خطب أبو طلحة رضي الله عنه أم سليم , فطلبت أن يكون مهرها الإسلام , فكان كذلك ، أسلم و
تزوجها رضوان الله عليهم أجمعين . بل إن سعيد بن المسيب رحمه الله زوج ابنته على درهمين .
و الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، أخرج أبو داود بسنده
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من أعطى في صداق امرأة ملء
كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل ) . وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على وزن نواة من ذهب ،
أخرجه أبو داود : بسنده عن أنس رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى عبد الرحمن بن
عوف و عليه ردعُ زعفران ، فقال النبي عليه الصلاة و السلام : مهيم , أي مالك ؟ فقال : يا رسول الله ،
تزوجت امرأة . قال : ما أصدقتها ؟ قال : وزن نواة من ذهب ، قال : أولم ولو بشاة ) .
و مع هذه السنة الواضحة الصريحة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله ، فقد وقع كثير من
الناس فيما يخالفها , و ليس من الحكمة و لا من المصلحة التغالي في المهور و الإسراف في حفلات
الزواج ، و طلب الأولياء من المتزوج الأموال الباهظة و الولائم المرهقة و القصور الغالية التي يعجز عنها
الكثير من الناس اليوم ، فيقعون في الدين و السلف ، مما يكون سبباً للحرمان من الزواج ، و تأيم الفتيان
و الفتيات . كل هذا حدا بالشباب إلى العزوف عن الزواج و الإعراض عنه ، و ما ظهر الفساد و انتشر الشر
إلا يوم أن رأى الشباب أن الزواج مسئولية ترهق كواهلهم ، و أعباء ثقيلة لا طاقة لهم بها ، فأحجموا عنه
و تولوا عنه و هم معرضون .
و الناظر في حال الشاب حديث التخرج من أين له أن يأتي بآلاف الريالات حتى يكوّن أسرة و ينشئ بيتاً
حسب رغبة أهل الفتاة التي يخطبها و حسب العادات و التقاليد التي يحتكمون إليها ؟, أليس من العقل بل
من الدين أن يتعاون الآباء و الأمهات ، فيكونوا عوناً للشباب على الزواج ، و يسعوا بكل وسيلة إلى تسهيله
و تيسيره و التخفيف من أعبائه ؟ , أليس من الأولى لهم من أن يساهموا في إحصان أبنائهم بدلاً من
الانحراف و البحث عن المتعة المحرمة و الانجراف و السفر إلى خارج البلاد ؟ ..
و ختاما , فإني أذكر بسنة كريمة ثبتت عن الحبيب عليه الصلاة و السلام , حيث شرع النظر إلى المخطوبة ,
ليتأمل الرجل جمال المرأة و حسنها و ما يدعوه إلى نكاحها ، و هي كذلك ، بل لقد رد النبي صلى الله عليه
و سلم رجلا تزوج امرأة من الأنصار فقال : ( هل نظرت إليها ؟ قال : لا . قال : اذهب فانظر إليها فإن في
أعين الأنصار شيئاً ) مسلم , و قد بيّن النبي صلى الله عليه و سلم العلة في هذا النظر فقال : ( فإنه أحرى
أن يؤدم بينكما ) النسائي و غيره , أي يؤلف و يوفق بينكما , و إن تمت هذه الخطبة و رضي كل من
الطرفين بالآخر فيبقى الرجل أجنبياً من المرأة و تبقى هي أجنبية منه ما لم يعقد عقد النكاح ..
أكتفي بما تم جمعه هنا , داعيا المولى سبحانه أن يوفقنا إلى الخير و سبل الخير , و إلى ما فيه الصلاح
و الهدى و الخير , و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين ..
و إلى لقاء آخر عما قريب إن شاء الله , و السلام عليكم و رحمة الله
قدير , و أشهد أنَّ سيدنا محمداً عبد الله و رسوله , صلى الله و سلم عليه و على آله و أصحابه أجمعين , ثم
أما بعد , فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون , ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ
اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر ..
أيها المؤمنون , إن نعم الله سبحانه علينا عظيمة و كثيرة لا تعد و لا تحصى , قال تعالى : ( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إن الله لغفور رحيم ) النحل , بل بين سبحانه أن أي نعمة يتنعم بها الإنسان فإنها منه تعالى ,
قال تعالى : ( و ما بكم من نعمة فمن الله ) النحل , و إن من أعظم النعم التى وهبها الله لعباده و أباحها لهم
و التي تحقق الاستخلاف في الأرض و تحقق انتشار النوع الإنساني في هذا الكون نعمة النكاح نعمة الزواج ,
هذه النعمة التي امتن الله بها على عباده ، و جعلها دليلا على ربوبيته و وحدانيته و رحمته بعباده , و جعلها
ضرورة من ضروريات الحياة , فبالزواج تحصل مصالح الدين و الدنيا و يحصل به الارتباط بين الناس ، و بسببه
تحصل المودة و التراحم , و يسكن الزوج إلى زوجته و الزوجة إلى زوجها قال تعالى : ( وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم , و
قال تعالى : ( هن لباس لكم و أنتم لباس لهن ... ) البقرة , و جعله سبحانه من سنة الأنبياء و المرسلين ,
فقال تبارك و تعالى : ( و لقد أرسلنا رسلاً من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية ... ) الرعد ..
و لِـما في الزواج من المقاصد العظيمة و الفوائد الجلية و الحكم البالغة , فقد جاءت الآيات القرآنية و الأحاديث
النبوية في الأمر بالزواج و الترغيب فيه , و من ذلك قول الله تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَ ثُلاثَ وَ رُبَاعَ ) النساء ، و قال تعالى : ( وَ أَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) النور ، و الأيامى : جمع أيم ، و هو الذي لا زوج له من الرجال
و النساء , و في الآية حث على النكاح و وعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :
( أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى ) . و قال ابن مسعود رضي الله عنه :
( التمسوا الغنى في النكاح ) و في الحديث : ( ثلاثة حق على الله عونهم : المتزوج يريد العفاف ، و المكاتب
يريد الأداء ، و الغازي في سبيل الله ) رواه أحمد والترمذي والنسائي و ابن ماجة .
و في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
و سلم ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) , و قال صلى الله عليه و سلم : ( إذا أتاكم
من ترضون دينه فزوجوه ) رواه الترمذي و هو حديث صحيح , و بالزواج يحصل تكثير النسل المندوب إلى
طلبه كما في الحديث عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم )
أبو داود و النسائي ، و بالزواج تحصن الفروج و يعم العفاف و الطهر مجتمعات المسلمين , و يكون أدعى
إلى غض الأبصار , و بالزواج تحلو الحياة و تصبح جميلة , و إن حياة المتزوجين أحسن من حياة العزاب بكثير ,
فإن نفوسهم تكون مطمئنة , و عيشتهم تكون هنية , و تتوفر لديهم أسباب الراحة و الدعة و السكون ,
و تنتعش المشاعر و العواطف من المودة و المحبة و الرحمة , ( وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم ,
و بالزواج كذلك تزكو أمور دين المتزوج و دنياه ، كما في الحديث : ( إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين
فليتق الله في النصف الثاني ) رواه البيهقي وحسنه الألباني بمجموع طرقه ، خصوصاً إن وفق لامرأة صالحة
قانتة حافظة للغيب بما حفظ الله ، إن نظر إليها سرته و إن أمرها أطاعته ، و إن غاب عنها حفظته في نفسها
و ماله ، و هذا لا يمكن أن يكون إلا في ذات الدين قال صلى الله عليه و سلم : ( الدنيا متاع و خير متاعها
المرأة الصالحة ) مسلم . و في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
و سلم قال : ( تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ) .
و لا يظنن ظان أن الفوائد من النكاح إنما تحصل للشباب فقط , بل هي للشباب و الفتيات على حد سواء ،
و لذلك لا ينبغي للأب أن يُؤخر زواج ابنته إن تقدم لها من يرضى في دينه و خلُقه ..
أيها المؤمنون , إن دفع الخاطب الكفؤ في دينه و خلقه و رده من غير مسوغ شرعي إنما هو معصية لله و
رسوله و خيانة للأمانة و إضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته ، و سوف يحاسب على ذلك يوم لا ينفع مال و
لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، أفلا يكون عند هؤلاء دين و رحمة ؟ , و إن الزواج للشاب و الفتاة من
أفضل الأمور التي يقدمها الأب لابنه إن كان قادراً و لابنته إن تقدم لها صاحب الدين و الخلق , خصوصا في
هذا الزمان الذي ماجت فيه الفتن ، و معظمها و اكثرها يتعلق بالشهوة و الجنس و العري و الدعارة و الرقص
و المجون و الإغراء و التنافس في فتنة الناس , ثم سهولة التواصل بين الجنسين من خلال وسائل التواصل
المعروفة , حتى أصبح طريق الشر و العياذ بالله سهلا ميسورا ، و المعصوم من عصمه الله ، و هذا مصداق
قول النبي صلى الله عليه و سلم ( ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء ) البخاري . و إن
وقوف أولياء الأمور ضد الزواج مخالفة لأوامر الله تعالى و أوامر رسوله صلى الله عليه و سلم التي رغبت
في الزواج المبكر و تيسير أسبابه ، كما أن في ذلك تعريض الشباب و الفتيات للخطر و الفتنة و الفساد ،
لأجل ذلك فليتق الله كل مسلم في نفسه و في أولاده و بناته ، و ليبادر إلى تزويجهم بما تيسر ،
فأعظم النكاح بركة ، أيسره مؤونة كما جاء في الحديث الشريف ..
أيها المؤمنون , إننا و للأسف الشديد نرى شريحة كبيرة من الشباب تعزف عن الزواج الشرعي ، و تهروب من
مسئوليته ، و في ذلك خطر عظيم عليهم و على مجتمعهم و أمتهم . و قد تكون لديهم أسباب معقولة و
غير معقولة , أما غير المعقولة فلسنا في خبرها , بل سنسلط الضوء على المعقول منها و الذي نكاد
نعرفه جميعا , و هذه الأسباب تتلخص في غلاء المهور و ارتفاع تكاليف الزواج ..
المهر أيها الأحباب و الذي هو عمود الأساس في نظام الزواج الذي فرض للمرأة حقاً على الرجل ، و هو
الصداق الذي يعطيه لها دلالة صدق على اقترانه بها و رغبته فيها ، و أنها موضع حبه و بره و عطفه
و رعايته , و لقد تفردت شريعة الإسلام على غيرها من الشرائع و القوانين ، بأنها كرمت المرأة ، و أحسنت
إليها ، و أثبتت لها حقها في التملك و حيازة المال بعد أن كانت في الجاهلية كسقط المتاع ، تباع و تشتري ،
ولهذا أوجب الإسلام على من يتقدم لخطبة المرأة أن يدفع لها الصداق ، و هو عبارة عن نوع من التقدير و
الاحترام ، و ليس ثمناً أو قيمة لها , قال تعالى : ( وَ ءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء منْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ) النساء . و الإسلام لم يحدد مقدار المهر و كميته ، و ذلك لتباين الناس و اختلاف
مستوياتهم و بلدانهم و عاداتهم ، و لكن الاتجاه العام في الشريعة الإسلامية يميل نحو التقليل فيه ،
فذاك أقرب لروح الدين ، فيكون حسب القدرة و حسب التفاهم و الاتفاق , و لم يؤثر عن النبي صلى الله
عليه و سلم ، و لا عن أحد من أصحابه ، أو التابعين لهم بإحسان ، أنهم تغالوا في المهور ، و لا أمروا بذلك ،
بل ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه فأنكحوه ، إلا
تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد ) الترمذي و قال حديث حسن ، و ابن ماجة و الحاكم ،
فالإسلام في حرصه على إقامة الحياة الزوجية الهانئة إنما يقيمها على الدين والخلق ..
و الإسلام اعتبر أن المرأة كلما كان مهرها قليلاً كان خيرها كثيراً ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن أعظم النكاح بركة ، أيسره مؤونة ) أحمد و البيهقي . و روى الإمام
أحمد و البيهقي و الحاكم مرفوعاً : ( إن من يمن المرأة تيسير خطبتها و تيسير صداقها ) ، و كان صداق
أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و بناته في حدود خمسمائة درهم ، و زوج امرأة على رجل فقير ليس
عنده شيء من المال بما معه من القرآن ، بعد أن قال له : ( التمس و لو خاتماً من حديد , فلم يجد
شيئاً . فقال : أمعك من القرآن شيء ؟ قال : نعم سورة كذا و كذا و سورة كذا ، لسور سماها ،
فقال : قد زوجناكها بما معك من القرآن ) متفق عليه .
و رسولنا صلى الله عليه و سلم هو الأسوة و القدوة لهذه الأمة فلم يكن صلى الله عليه و سلم يزيد في
مهر نسائه أو بناته عن خمسمائة درهم ، أخرجه أبو داود بسنده عن أبي الجعفاء السلمي قال : ( خطبنا عمر
رضي الله عنه فقال : ألا لا تغالوا بصداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان
أولاكم بها النبي صلى الله عليه و سلم ، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة من نسائه ، و
لا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشر أوقية ) , و الله تعالى يقول : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَ الْيَوْمَ الآخِرَ وَ ذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) الأحزاب ..
و لقد خطب أبو طلحة رضي الله عنه أم سليم , فطلبت أن يكون مهرها الإسلام , فكان كذلك ، أسلم و
تزوجها رضوان الله عليهم أجمعين . بل إن سعيد بن المسيب رحمه الله زوج ابنته على درهمين .
و الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، أخرج أبو داود بسنده
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من أعطى في صداق امرأة ملء
كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل ) . وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على وزن نواة من ذهب ،
أخرجه أبو داود : بسنده عن أنس رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى عبد الرحمن بن
عوف و عليه ردعُ زعفران ، فقال النبي عليه الصلاة و السلام : مهيم , أي مالك ؟ فقال : يا رسول الله ،
تزوجت امرأة . قال : ما أصدقتها ؟ قال : وزن نواة من ذهب ، قال : أولم ولو بشاة ) .
و مع هذه السنة الواضحة الصريحة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله ، فقد وقع كثير من
الناس فيما يخالفها , و ليس من الحكمة و لا من المصلحة التغالي في المهور و الإسراف في حفلات
الزواج ، و طلب الأولياء من المتزوج الأموال الباهظة و الولائم المرهقة و القصور الغالية التي يعجز عنها
الكثير من الناس اليوم ، فيقعون في الدين و السلف ، مما يكون سبباً للحرمان من الزواج ، و تأيم الفتيان
و الفتيات . كل هذا حدا بالشباب إلى العزوف عن الزواج و الإعراض عنه ، و ما ظهر الفساد و انتشر الشر
إلا يوم أن رأى الشباب أن الزواج مسئولية ترهق كواهلهم ، و أعباء ثقيلة لا طاقة لهم بها ، فأحجموا عنه
و تولوا عنه و هم معرضون .
و الناظر في حال الشاب حديث التخرج من أين له أن يأتي بآلاف الريالات حتى يكوّن أسرة و ينشئ بيتاً
حسب رغبة أهل الفتاة التي يخطبها و حسب العادات و التقاليد التي يحتكمون إليها ؟, أليس من العقل بل
من الدين أن يتعاون الآباء و الأمهات ، فيكونوا عوناً للشباب على الزواج ، و يسعوا بكل وسيلة إلى تسهيله
و تيسيره و التخفيف من أعبائه ؟ , أليس من الأولى لهم من أن يساهموا في إحصان أبنائهم بدلاً من
الانحراف و البحث عن المتعة المحرمة و الانجراف و السفر إلى خارج البلاد ؟ ..
و ختاما , فإني أذكر بسنة كريمة ثبتت عن الحبيب عليه الصلاة و السلام , حيث شرع النظر إلى المخطوبة ,
ليتأمل الرجل جمال المرأة و حسنها و ما يدعوه إلى نكاحها ، و هي كذلك ، بل لقد رد النبي صلى الله عليه
و سلم رجلا تزوج امرأة من الأنصار فقال : ( هل نظرت إليها ؟ قال : لا . قال : اذهب فانظر إليها فإن في
أعين الأنصار شيئاً ) مسلم , و قد بيّن النبي صلى الله عليه و سلم العلة في هذا النظر فقال : ( فإنه أحرى
أن يؤدم بينكما ) النسائي و غيره , أي يؤلف و يوفق بينكما , و إن تمت هذه الخطبة و رضي كل من
الطرفين بالآخر فيبقى الرجل أجنبياً من المرأة و تبقى هي أجنبية منه ما لم يعقد عقد النكاح ..
أكتفي بما تم جمعه هنا , داعيا المولى سبحانه أن يوفقنا إلى الخير و سبل الخير , و إلى ما فيه الصلاح
و الهدى و الخير , و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين ..
و إلى لقاء آخر عما قريب إن شاء الله , و السلام عليكم و رحمة الله