الطلاق الحلال البغيض

جودى

:: مسافر ::
11 يناير 2019
998
0
0
41
الحمد لله رب العالمين , أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد , و هو على كل شيء
قدير , و أشهد أنَّ سيدنا محمداً عبد الله و رسوله , صلى الله و سلم عليه و على آله و أصحابه أجمعين , ثم
أما بعد , فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون , ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ
اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر ..

أيها المؤمنون , إن واقع كثير من المسلمين هذه الأيام يظهر صورا متنوعة من الإستعجال و اللامبالاة و
التسرع , إستعجال في الأفعال , و تسرع في الأقوال , تستعجل الأيدي في الضرب و البطش , و تتسرع
الأفواه بالكلام و التلفظ بأي شيء دون تأن و مراعاة لما يخرج منها , ألفاظ و كلمات تخرج من فم المرء لا
يلقي لها بالا ، ربما أهوت به في مسالك الضياع و الندم , و من هذه الكلمات ما يكون معولا صُلبا تتهدم
به أسر و بيوت و مجتمعات , و منها ما ينقل قائلها من السعادة و الهناء إلى المحنة و الشقاء و الصراعات .
و من هذه الكلمات أيها المؤمنون كلمة خطيرة مؤثرة , كلمة أبكت عيونا و أجهشت قلوبا و روعت أفئدة ,
كلمة صغيرة الحجم ، جليلة الخطب و التأثير ، إنها كلمة الطلاق ، و ما أدراك ما الطلاق ؟ , كلمة الوداع و
الفراق ، كلمة النزاع و الشقاق , و الجحيمُ و الألمُ الذي لايُطاقُ .
و قد جاء في حديث مرسل , ما روي عنه عليه الصلاة و السلام : ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق ) , و هو
حديث ضعيف , و له شاهد ضعيف عن معاذ رضي الله عنه : ( ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق ) ,
غير أن الحديث مع ترجيح ضعفه ، فإن معناه صحيح , فإن الله تعالى يكره الطلاق ، و لكنه لم يحرمه على
عباده للتوسعة لهم ..

أيها المؤمنون , إن العِشرة الزوجية ضرب خاص من المحبة و المودة ، ليس له في العلاقات مثيل , فهو
الذي يسكن به زوجان ، و يلتقي به بشران ، فيكون كل منهما متمما لوجود الآخر ، يبنيان به بيت السعادة ,
و ينتجان بالتقائهما البنين و الأحفاد , قال تعالى : ( وَ ٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ
أَزْوٰجِكُم بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) النحل , و إن إختلال هذه العشرة بين الزوجين يذكي نار الخلافات و الخصام و الفرقة ،
و من الواجب علينا أن نذكر أن البيوت لا تبقى دائما على حالها من الهناء و الصفاء , و الإستقرار و السعادة ,
و النسيم العليل قد لا يهب عليلا داخل البيوت على الدوام ، فقد يتعكر الجو و قد تثور الزوابع , و قد يحدث
ما يؤثر على السعادة و الإستقرار , و إن توقع الراحة الكاملة قد يكون وهما ، و من العقل توطين النفس على
قبول بعض المضايقات ، و ليس هناك من إنسان كامل . قال تعالى : ( فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئاً وَ يَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) النساء , و قال عليه الصلاة و السلام : ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها
خلقا رضي منها آخر ) مسلم , و هنا تأتي حكمة الأزواج و صبرهم و تفاهمهم , و مدى قدرتهم على معالجة
الخلافات و حل المشكلات , و مدى صدقهم و إخلاصهم و سعيهم إلى تجاوز الأمواج العاتية , و الوصول
بالمراكب إلى شواطيء الأمان , و من ثم تقوية روابط الزواج لتبقى متينة طوال تواجدهم معا , و تأتي كذلك
حكمة الأهل و الأقارب في السعي في إيجاد الحلول الإصلاح و التقريب و بذل الجهد في ذلك , و إن كنا قد
نرى في حالات كثيرة تدخلا سلبيا غير مرغوب من الآباء و الأهل و الأقارب , قال تعالى : ( وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ
بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا )
النساء , و الصُّلح بين الزوجين مرغَّب فيه شرعًا ، فلأحدهما أن يقدِّم مالاً أو يتنازَل عن بعض حقوقه في
سبيل المحافظة على رباط الزوجيَّة ، و طرد شبح الطلاق , يقول سبحانه : ( وَ إِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ ) النساء .

أيها المؤمنون , لو أحب الأزواج أنفسهم حبا صادقا و سكن بعضهم إلى بعض ، و لو تأملوا في آيات القرآن و
أحاديث خير الأنام لما انساقوا في جحيم الخلافات و لما أغرقوا مركبهم في محيط الظلمات , و لتحلى كل
منهم بالصبر و الحكمة و التغاضي و تقديم التنازلات , و لسارع كل منهم إلى العفو و التسامح و التصالح ,
قال تعالى : ( وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم , و قال تعالى : ( هن لباس لكم و أنتم لباس لهن ... ) البقرة , و قال رسول الله
صلى الله عليه و سلم : ( خيركم خيركم لأهله ، و أنا خيركم لأهلي ) الترمذي و ابن ماجة بإسناد صحيح , و
من كانت هذه حاله فلن يستنكف أن يكون ممتثلا لما خوطب به من قول الحبيب عليه الصلاة و السلام :
( استوصوا بالنساء خيرا ) متفق عليه , و قد سئل عليه الصلاة و السلام : ( ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال :
تطعمها إذا طعمت ، و تكسوها إذا اكتسيت ، و لا تضرب الوجه و لا تُقَبِّح ، و لا تهجر إلا في البيت ) أحمد و
أبو داود , و قال صلى الله عليه و سلم : ( الدنيا متاع , و خير متاعها المرأة الصالحة ) مسلم , و من كان هذا
حالها من الصلاح لامتثلت لقوله عليه الصلاة و السلام : ( لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد , لأمرت الزوجة أن
تسجد لزوجها ) الترمذي و أبو داود و ابن ماجة و هو صحيح , و لتأملت فيما أخرجه أحمد عن الحُصين بن
مِحْصَن : ( أنَّ عمَّةً له أتتِ النبي صلى الله عليه و سلم في حاجة ، ففرَغت من حاجتها ، فقال لها النبي صلى
الله عليه و سلم : أذات زوج أنتِ ؟، قالت نعم ، قال : كيف أنتِ له ؟ ، قالت ما آلوه إلاَّ ما عجَزت عنه ، قال :
فانظري أين أنتِ منه ، فإنما هو جنَّتك و نارُك ) , و لتأملت أيضا في قول عائشة رضي الله عنها : ( يا معشر
النساء لو تعلمن بحق أزواجكم عليكن ، لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها ) ,
و لتاملت أيضا في قوله عليه الصلاة و السلام : ( إذا صلت المرأة خمسها و حصنت فرجها و أطاعت
بعلها ، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت ) ابن حبان و هو حديث صحيح ..
فما أشد حماقة الرجل يسيء معاشرة امرأته , و ما أشد حماقة المرأة تسيء معاملة بعلها .

أيها المؤمنون , تذكروا أن لكم القوامة على النساء , قال تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ
اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) النساء , و تذكروا أيضا قوله تعالى : ( وَ لَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِى
عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ) البقرة , و تذكروا أيضا أن قوامة الرجل لا تعني إيذاء الزوجة أو استغناءه عنها ، فالله تعالى
يقول : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَ أَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) البقرة , فاصبرْ أيها الزوج فإنَّ الصبرَ جميلٌ و عواقُبهُ حميدةٌ منَ
اللهِ الكريم الحليم , انظرْ إلَى عواقبهِ الأليمةِ و نهاياتِهِ العظيمةِ ، انظرْ لعواقبهِ علَى الأبناءِ والبناتِ ، و انظرْ
إلَى عواقبه علَى الذريةِ الضعيفةِ ، فكمْ بُدِّدَ شملُها و تفرَّقَ قلبُها ، بسببِ ما جناهُ الطلاقُ عليها . و اصبر
فإن كانتِ المرأةُ ساءَتكَ فلعلَّ الله أن يخرجَ منها ذريةً صالحةً تَقَرُّ بها عيُنكَ , قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنه
في قوله تعاَلى : ( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) النساء ، قال : هوَ
الولدُ الصالحُ . فالمرأةُ تكونُ عندَ زوجٍ تؤذيهِ و تسبُّه و تُهينُهُ و تُؤلِمُهُ , فيصبرُ لوجهِ الله و يحتسبُ أجرَهُ عندَ
اللهِ ، و يعلمُ أنَّ معَهُ اللهُ , فما هيَ إلا أعوامٌ حتَّى يُقرَّ اللهُ عينَهُ بذريةٍ صالحةٍ ، و ما يدريكَ فلعلَّ هذهِ المرأةَ
التي تكونُ عليكَ اليومَ جحيماً لعلَّها أن تكـونَ بعدَ أيامٍ سلاماً و نعيماً ، و ما يدريكَ فلعلَّها تحفظُكَ في آخرِ
عمرِكَ ، صبرٌ فإنَّ الصبرَ عواقُبهُ حميدةٌ ، و إنَّ معَ العسْرِ يُسراً ..

أيها المؤمنون ، الطلاق كلمة بغيضة ، لا ينازع أحد في خطرها و تأثيرها ، و ما تسببه من الشقاق و النزاعات ,
و تشتت الأسر و خراب المجتمعات , و مع ذلك فقد يكون حلا ضروريا عند استنفاذ كل الحلول المتاحة التي
تبقي على الزوجين تحت سقف واحد , و قد يحتاجه الزوجان حينما يتعذر العيش تحت ظل واحد ، و يبلغ
النفور بينهما مبلغا يصعب معه التودد ، فالواجب أن يتفرقا بالمعروف و الإحسان ، كما اجتمعا بهذا القصد ,
قال تعالى : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) البقرة , و قال تعالى : ( وَ إِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ
ٱللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَ كَانَ ٱللَّهُ واسِعاً حَكِيماً ) النساء .

أيها المؤمنون , لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحساد و الواشون و أهل النميمة ، و الذين أوغروا الصدور
بين الأزواج , فنشروا الكراهية و الحقد , و صيروا أسباب المودة و الإلتئام أسبابا للتباغض و الإنقسام , و
لربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة ، بدت سببا مباشرا في كثير من الخلافات ، فقد يتدخل الأب ، و
قد تتدخل الأم أو الأخ أو الأخت ، فيحار الزوج من يقدم؟ والديه الذين فرحا به وليدا و ربياه صغيرا ؟ أم
زَوْجَتهُ التي هجرت أهلها وفارقت عشها من أجله ؟ إن هذه لمُرتَقَيَاتٌ صعبة ، أهونها أصعب الصعاب ،
و أحلاها أمرّ من المر , إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية ، لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر ،
فما بال أولئك يهجمون على البيوت فيأتونها من ظهورها و يمزقون ستارها و يهتكون حجابها ، و يوقعون
العداوة و البغضاء بين الأزواج ؟ , إنه لا يغيب عن فهم عاقل ، أن شر هؤلاء مستطير ، و أن ما يفعلونه
بين الأزواج فتنة في الأرض و فساد كبير , و إن التفريق بين الأزواج من أعظم ما يفرح به أبليس عند بعثه
سراياه كما أخبر به النبى صلى الله عليه و سلم فى الحديث الذى رواه مسلم قال عليه الصلاة و السلام :
( إِنَّ الشَّيْطَانَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى المَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي النَّاسِ فَأَقْرَبُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ فِتْنَةً ،
يَجِيءُ أَحَدَهُمْ فَيَقُولُ مَا زِلْتُ بِفُلاَنٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَ هُوَ يَقُولُ كَذَا وَ كَذَا , فَيَقُولَ إِبْلِيسُ لاَ وَ اللَّهِ مَا صَنَعْتُ
شَيْئاً , وَ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَـيْنَهُ وَ بَـيْنَ أَهْلِهِ , قَالَ فَيُقَرِّبُهُ وَ يُدْنِيهِ و يلتزمه
وَ يَقُولُ نِعَمَ أَنْتَ ) مسلم , فاتقوا الله تعالى يا من تسعون لتخريب البيوت و التفريق بين الأزواج ..

أيها المؤمنون , اتقوا الله في الأزواجِ و الزوجاتِ ، و يا معاشرَ الأزواجِ تريَّثوا فيما أنتمْ قادمونَ عليه ، إذا
أردتَ الطلاقَ فاستشرِ العلماءَ و راجعِ الحكماءَ ، و التمسْ أهلَ الفضلِ و الصُّلحاءَ و اسْألْهم عمَّا أنتَ فيهِ ,
و خذْ كلمةً منهمْ تثِّبُتكَ و نصيحةً تقوِّيكَ , و إذا أردتَ الطلاقَ فاستْخرِ الله و أنزلْ حوائجَكَ بالله تعالى ،
فإن كنتَ مريداً للطلاقِ فخذْ بسنةِ رسول اللهِ صلى الله عليه و سلم , و طِّلقْها طلقةً واحدةً في طُهْرٍ لْم
تُجامعْها فيهِ ، لاتطِّلقْها و هيَ حائضٌ فتلكَ حدودُ اللهِ : ( وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ )الطلاق ,
و إذا طلقَتها فطلقْها طلقةً واحدةً لا تزيد ، ( جاءَ رجلٌ إلَى ابنَ عباسٍ فقالَ : يا ابْنَ عباسٍ طلقتُ امرأتي
مِائةَ تطليقةً . قالَ رضي الله عنه ثلاثٌ حَرُمَتْ بهنَّ عليكَ ، و سبعٌ و تسعونَ اتخذتَ بها كتابَ اللهِ هُزُواً )

اللهمَّ أصلحْ نياتِنا ، اللهمَّ أصلحْ أزواجَنا و ذرياتِنا و خذْ بنواصِينا إلَى ما يُرضيكَ عنَّا , اللهم صل
و سلم و زد و بارك على نبينا و حبيبنا محمد و على آله و صحبه أجمعين ..