بسم الله الرحمن الرحيم
مشاهدة من سراييفو
اليوم الأول
قلت لها مرة: لماذا لاتحكي لي كل شيء؟ يجب أن تحكي لي ولجميع أبناءك وأحفادك ، يجب أن يعرفوا الحقيقة ، يجب على العالم أن يعرف الحقيقة ، لماذا أتيتم هنا؟ وكيف أتيتم؟ لماذا تركتم دياركم؟
كانت تسمعني وتشيح بنظرها عني ، كأنها تنظر إلى شيء بعيد في زاوية الصالة ، وكأن صالتها ذلك اليوم لم يكن لها سقف ، كانت تخترق بعينها السقوف كلها وتنظر إلى مكان آخر ، وزمن آخر ، تنهدت قليلا وأجابت "بني ، إن قصصت عليك كل شيء فلن تعيش كما تعيش الآن ، ستتغير حياتك ، ليس كل ما رأيت يُحكى ، لماذا تريد أن تعرف ما مر بنا؟ دع تلك الذكريات لأصحابها الذين ماتوا ، لقد عانوا ما عانوا حتى وصلوا هنا ، وعاشوا بعد ذلك كل ذكرياتهم المؤلمة يوما بعد يوم ، لماذا تريد أن تحفر قبورهم؟ لا أستطيع يابني ، دع لنا ذكرانا وعِش حياتك هانئا ، إسعد بحياتك ، وأَسعِد من حولك ويكفيك فخرا أن لك من الأجداد من هاجر لأجل دينه ومبدأه ، لم يضحِّ بأي منهما ، هاجر لكي يحافظ على ما تبقى منا".
لم أستطع أن أستشف منها أكثر من ذلك ، أستلهمت من كبريائها والهالة التي كانت تحيطها ثم مرضها وتعبها قبل موتها معاناة عظيمة ، رأيتها قليلا بعد ذلك ، فقد بدأت في أزمة الزهايمر ورحلت متعبة ، كان قلبي يتقطع كلما رأيتها في مرضها ، فقد كنت دائما أراها كالجبال لا تهتز ، تلك جدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
تذكرتها اليوم في سراييفو ، جئت هنا وأنا أظن أني سأشاهد بقايا قليلة لحرب دمرت بلدا حيا ، أكلت أخضره ويابسه ، بلد شاهدنا حربه مع بداية الإرسال الفضائي في بلادنا ، وبداية دخول القنوات الفضائية ، كنا نشاهد صورا ونسمع أخبارا تعذبنا ، وكنا في عمر الشباب الناشىء ، كنا نسمع عنها في كل القنوات ، وفي الصحف وخطب المساجد ، وكم دعونا الله فرجا لأهلها ، وكم سعدنا إذ توقفت الحرب بعد تدخل قوات الناتو ، وكم أعجبني الرئيس الوسيم كلينتون لما قام به بقيادته لحلف الناتو للتدخل ، وكم إزدادت وسامته في عيني.
جئت سراييفو وأنا أتمنى أن أرى بلدا تعافى من الحرب ، سمعت عنها أنها تعافت ، وأنها عادت أجمل مما كانت ، تمنيتها بيروت الحريري ، ودعوت الله أن لا تعود كما صارت بيروت حزب الله ، لم أتمنى أبدا أن أشاهد ما يرمز للحرب ، فقلبي يجنح دائما للسلم ، وليست بي عقدة مشاهدة عذابات الناس.
مليئة هي بدور العبادة ، المساجد أغلبها ، وقد تكون عيني غلّبت المساجد بعاطفتي ، محاطة بجبال مكسوة بالغابات ، يخترقها نهر وينصفها ، بيوتها كلها مغطاة بالقرميد ، جوها عليل بارد رغم أننا في منتصف الصيف ، قالت لنا فتاة الإستقبال "يوجد جهاز تكييف في الغرفة ولكن غالبا لن تحتاجوه في الليل" ، لم نصدقها ، ثم تنازعنا الألحفة إذا وخزنا برد الليل ، تعشينا في مطعم على مطل مشرف على المدينة ، وسمعنا المآذن تنادي "الله أكبر ، الله أكبر" وقت الغروب في نداء إشتقنا إليه منذ أن بدأنا الإجازة.
اليوم ، كانت أول وجهاتنا قلبها ، وسط المدينة القديم الذي كان أول ما أنشىء فيها علي يد مؤسسها الغازي خسرو بك ، وجدنا في طريقنا مساجد حديثة وقديمة ، وشاهدنا مباني مازالت تحمل جروحا وندبا على أجسادها ، كأنها تقول أنا شاهد مصاب لم يزل يتألم ، وشاهدنا مباني حديثة ، على واجهاتها شاشات بإعلانات حديثة ، كأنها تقول لا تصدقوا تلكم العواجيز ، نحن أبناء اليوم ولا نعلم عنهن إلا حديثا غابرا.
معرض عن صور الحرب مقام في أحد صالاتها ، قرأت مراجعاته في أحد مواقع السفر فوجدت له تفضيل عال ، قلت لأبنائي "لكي تعلموا ما هي هذه البلد ، فلنشاهد جزءا من تاريخها" ، دخلنا وماكان في النية أن نرى ما رأينا.
صور شخصية تملأ الصالة الأولى ، أشخاص كانوا أباء وأمهات وأبناء وأقارب ، أصبحوا صورا معلقة على الجدران ، لا يُعلم أين مقابرهم أو أين محياهم ، كانوا ماكانوا ، وصاروا بعضا من تعداد يجاوز الآلاف ، هُجروا ، وعُذبوا ، وذبحوا بأبشع الصور ، ثم دفنوا أو حرقوا ، لا يعلم إلا الله مصيرهم.
وفي الصالة الثانية صورعريضة لمساكن مؤقتة مازالت تؤي أناسا بالآلاف ، رغم مرور أكثر من عشرون عاما على إنتهاء الحرب ، مازالوا هناك يعيشون في مساكن قيل أنها مؤقتة ، صورة ليد إنسان حي تلبس قفاز تمسك بيد تستخرج من بين التراب لمن كان يوما إنسان حي ، وصورة لتوابيت عديدة ، لأناس عديدون أستخرجت جثامينهم من مقبرة جماعية ليُعلم عن أصحابها ويعاد دفنهم بما يليق بهم مرة أخرى تحت التراب ، وصورة لجمجمة سيدة فُرِّغت من محتواها إلا العظام والشعر ، وصورة لسيدتين تقرآن الفاتحة على جثة ملقاة أمامهم وجدوها على قارعة الطريق! صور عديدة ، تحملت بعضها ، وأسترجعت لما بعدها ، ثم أنهرت فلم أستطع أن أمنع عيناي من أن تغسل عنها ما ترى ، وقلبا شهق بما درى ، وأنينا لم أستطع أن أخمده فَعَلَا.
تتوسط الصالة الثانية شاشة كبيرة يعرض فيها تسجيل وثائقي عن مذبحة سربرينتسا ، بعض التقديرات تقول مايزيد عن عشرون ألفا ، والبعض شبه الرسمية تقول أكثر من عشرة آلاف ، المكتشف حتى الآن مقابر لما يزيد عن ثمانية آلاف ضحية لمذبحة قذرة ، إستهدفت عرقا بكامله ، في معركة غير متكافئة على الإطلاق ، شعب أعزل لا يحمل حتى سكينا ، وجيش قذر يستند على دعم من جمهورية صربيا المجاورة ذاخر بالدبابات وجميع أنواع الرشاشات والمدافع ، سفكوا دماء لأناس كانوا يعيشون جنبهم في سلام إلى وقت قريب ، تصوير لمجموعة من الشباب معقودة أياديهم إلى الخلف ، يؤمر أحدهم فيتقدم فيطلق عليه ، ثم يؤمر من يليه بالتقدم فيؤتى عليه كسابقه ، وهكذا كل واحد يشاهد سابقيه حتى إنتهوا عن بكرة أبيهم صفا طويلا يقف عليه ضابط بفخر لئيم ، تكاد دمائهم تتساقط من نابيه إذا أظهرهما لمن يصوره.
لقاء مع سيدة تحكي عن زوجها الذي ربت على كتفها فأحست برعشته وهو يهمس لها "سيكون كل شيء على ما يرام" ، ثم بعدها بلحظة إختفى مع سيارة كبيرة كانت تمر وتختطف كل رجل يمشي في الطريق المؤلم الذي يحمل عناء المهجرون من بيوتهم وقراهم ، أم تحكي كيف إحتضنها إبنها المراهق إلى أخر لحظة سحبوه فيها وهو ينوح ، تقول لم يكن خائفا ، كان يصرخ لا أريد ترككِ أمي وحدك ، لم تره بعدها ولم تعلم عنه شيئا ، شاب يحكي كيف ترك والدته في معسكر اللاجئين الهولندي ولم يدخلوه وأخاه فهربوا ثم قتل أخاه وهرب هو في الغابات ونجى ولم يجد أي طرف خبر عن عائلته بعد ذلك.
إنتهينا من المعرض وخرجنا وأنا أتذكر جدتي ، كانت تعلم أن من عاش فظاعة التهجير وسفك الدماء لن يستطيع العيش بسلام مرة أخرى ، يقولون في المعرض أن كثيرا من المهجرين مازالوا يعيشون في مساكن للاجئين قيل لهم أنها مؤقتة ومازالوا فيها بعد أكثر من عشرون عاما ، أكدت ذلك جارتي في الفندق الأسترالية بوسنية الأصل ذات السبعون عاما ، تقول أنها تعلم عنهم وشاهدتهم ، تقول كيف يرجعون؟ وأين يرجعون؟ عشرون عاما وهم يعيشون في مساكن لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء ، منسيون لا أحد يوليهم أي إعتبار ، كثيرون منهم يعيشون داخل مأساتهم ، لا يتذكرون إلا يوم المذبحة.
في آخر شاشات المعرض شاشة عند باب الخروج ، معروض عليها صور من مأساة الشعب السوري ، صور للمهجرين ولما كانت يوما مدنا وأصبحت خرائب ، صور للمخيمات ، نفس المأساة تتكرر ، ونفس الصمت يتكرر ، تغيرت الأماكن ولم تتغير الأحداث ، وبعد عشرون عاما من الآن ، سيكتب أحدهم إن أحيانا الله عن المهجرين السوريين في مخيمات الملاجىء ، عن مآسيهم وأمراضهم وعللهم ، وعن نسيانهم ولا أحد يوليهم أي إعتبار!
عبارة أخيرة كانت مكتوبة على زجاج المصعد ونحن نغادر "أصبحتم أنت أيضا شهودٌ على المذبحة!".
يبقى السؤال: هل ستتجاوز البوسنة مأساتها؟ وهل سيستمر السلام المفروض من الناتو؟ إلى مشاهدات أخرى في الأيام القادمة.
مشاهدة وتسجيل: حسام عابد أندجاني
في 8 ذو القعدة 1437هـ
الموافق 11 أغسطس 2016م
مشاهدة من سراييفو
اليوم الأول
قلت لها مرة: لماذا لاتحكي لي كل شيء؟ يجب أن تحكي لي ولجميع أبناءك وأحفادك ، يجب أن يعرفوا الحقيقة ، يجب على العالم أن يعرف الحقيقة ، لماذا أتيتم هنا؟ وكيف أتيتم؟ لماذا تركتم دياركم؟
كانت تسمعني وتشيح بنظرها عني ، كأنها تنظر إلى شيء بعيد في زاوية الصالة ، وكأن صالتها ذلك اليوم لم يكن لها سقف ، كانت تخترق بعينها السقوف كلها وتنظر إلى مكان آخر ، وزمن آخر ، تنهدت قليلا وأجابت "بني ، إن قصصت عليك كل شيء فلن تعيش كما تعيش الآن ، ستتغير حياتك ، ليس كل ما رأيت يُحكى ، لماذا تريد أن تعرف ما مر بنا؟ دع تلك الذكريات لأصحابها الذين ماتوا ، لقد عانوا ما عانوا حتى وصلوا هنا ، وعاشوا بعد ذلك كل ذكرياتهم المؤلمة يوما بعد يوم ، لماذا تريد أن تحفر قبورهم؟ لا أستطيع يابني ، دع لنا ذكرانا وعِش حياتك هانئا ، إسعد بحياتك ، وأَسعِد من حولك ويكفيك فخرا أن لك من الأجداد من هاجر لأجل دينه ومبدأه ، لم يضحِّ بأي منهما ، هاجر لكي يحافظ على ما تبقى منا".
لم أستطع أن أستشف منها أكثر من ذلك ، أستلهمت من كبريائها والهالة التي كانت تحيطها ثم مرضها وتعبها قبل موتها معاناة عظيمة ، رأيتها قليلا بعد ذلك ، فقد بدأت في أزمة الزهايمر ورحلت متعبة ، كان قلبي يتقطع كلما رأيتها في مرضها ، فقد كنت دائما أراها كالجبال لا تهتز ، تلك جدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
تذكرتها اليوم في سراييفو ، جئت هنا وأنا أظن أني سأشاهد بقايا قليلة لحرب دمرت بلدا حيا ، أكلت أخضره ويابسه ، بلد شاهدنا حربه مع بداية الإرسال الفضائي في بلادنا ، وبداية دخول القنوات الفضائية ، كنا نشاهد صورا ونسمع أخبارا تعذبنا ، وكنا في عمر الشباب الناشىء ، كنا نسمع عنها في كل القنوات ، وفي الصحف وخطب المساجد ، وكم دعونا الله فرجا لأهلها ، وكم سعدنا إذ توقفت الحرب بعد تدخل قوات الناتو ، وكم أعجبني الرئيس الوسيم كلينتون لما قام به بقيادته لحلف الناتو للتدخل ، وكم إزدادت وسامته في عيني.
جئت سراييفو وأنا أتمنى أن أرى بلدا تعافى من الحرب ، سمعت عنها أنها تعافت ، وأنها عادت أجمل مما كانت ، تمنيتها بيروت الحريري ، ودعوت الله أن لا تعود كما صارت بيروت حزب الله ، لم أتمنى أبدا أن أشاهد ما يرمز للحرب ، فقلبي يجنح دائما للسلم ، وليست بي عقدة مشاهدة عذابات الناس.
مليئة هي بدور العبادة ، المساجد أغلبها ، وقد تكون عيني غلّبت المساجد بعاطفتي ، محاطة بجبال مكسوة بالغابات ، يخترقها نهر وينصفها ، بيوتها كلها مغطاة بالقرميد ، جوها عليل بارد رغم أننا في منتصف الصيف ، قالت لنا فتاة الإستقبال "يوجد جهاز تكييف في الغرفة ولكن غالبا لن تحتاجوه في الليل" ، لم نصدقها ، ثم تنازعنا الألحفة إذا وخزنا برد الليل ، تعشينا في مطعم على مطل مشرف على المدينة ، وسمعنا المآذن تنادي "الله أكبر ، الله أكبر" وقت الغروب في نداء إشتقنا إليه منذ أن بدأنا الإجازة.
اليوم ، كانت أول وجهاتنا قلبها ، وسط المدينة القديم الذي كان أول ما أنشىء فيها علي يد مؤسسها الغازي خسرو بك ، وجدنا في طريقنا مساجد حديثة وقديمة ، وشاهدنا مباني مازالت تحمل جروحا وندبا على أجسادها ، كأنها تقول أنا شاهد مصاب لم يزل يتألم ، وشاهدنا مباني حديثة ، على واجهاتها شاشات بإعلانات حديثة ، كأنها تقول لا تصدقوا تلكم العواجيز ، نحن أبناء اليوم ولا نعلم عنهن إلا حديثا غابرا.
معرض عن صور الحرب مقام في أحد صالاتها ، قرأت مراجعاته في أحد مواقع السفر فوجدت له تفضيل عال ، قلت لأبنائي "لكي تعلموا ما هي هذه البلد ، فلنشاهد جزءا من تاريخها" ، دخلنا وماكان في النية أن نرى ما رأينا.
صور شخصية تملأ الصالة الأولى ، أشخاص كانوا أباء وأمهات وأبناء وأقارب ، أصبحوا صورا معلقة على الجدران ، لا يُعلم أين مقابرهم أو أين محياهم ، كانوا ماكانوا ، وصاروا بعضا من تعداد يجاوز الآلاف ، هُجروا ، وعُذبوا ، وذبحوا بأبشع الصور ، ثم دفنوا أو حرقوا ، لا يعلم إلا الله مصيرهم.
وفي الصالة الثانية صورعريضة لمساكن مؤقتة مازالت تؤي أناسا بالآلاف ، رغم مرور أكثر من عشرون عاما على إنتهاء الحرب ، مازالوا هناك يعيشون في مساكن قيل أنها مؤقتة ، صورة ليد إنسان حي تلبس قفاز تمسك بيد تستخرج من بين التراب لمن كان يوما إنسان حي ، وصورة لتوابيت عديدة ، لأناس عديدون أستخرجت جثامينهم من مقبرة جماعية ليُعلم عن أصحابها ويعاد دفنهم بما يليق بهم مرة أخرى تحت التراب ، وصورة لجمجمة سيدة فُرِّغت من محتواها إلا العظام والشعر ، وصورة لسيدتين تقرآن الفاتحة على جثة ملقاة أمامهم وجدوها على قارعة الطريق! صور عديدة ، تحملت بعضها ، وأسترجعت لما بعدها ، ثم أنهرت فلم أستطع أن أمنع عيناي من أن تغسل عنها ما ترى ، وقلبا شهق بما درى ، وأنينا لم أستطع أن أخمده فَعَلَا.
تتوسط الصالة الثانية شاشة كبيرة يعرض فيها تسجيل وثائقي عن مذبحة سربرينتسا ، بعض التقديرات تقول مايزيد عن عشرون ألفا ، والبعض شبه الرسمية تقول أكثر من عشرة آلاف ، المكتشف حتى الآن مقابر لما يزيد عن ثمانية آلاف ضحية لمذبحة قذرة ، إستهدفت عرقا بكامله ، في معركة غير متكافئة على الإطلاق ، شعب أعزل لا يحمل حتى سكينا ، وجيش قذر يستند على دعم من جمهورية صربيا المجاورة ذاخر بالدبابات وجميع أنواع الرشاشات والمدافع ، سفكوا دماء لأناس كانوا يعيشون جنبهم في سلام إلى وقت قريب ، تصوير لمجموعة من الشباب معقودة أياديهم إلى الخلف ، يؤمر أحدهم فيتقدم فيطلق عليه ، ثم يؤمر من يليه بالتقدم فيؤتى عليه كسابقه ، وهكذا كل واحد يشاهد سابقيه حتى إنتهوا عن بكرة أبيهم صفا طويلا يقف عليه ضابط بفخر لئيم ، تكاد دمائهم تتساقط من نابيه إذا أظهرهما لمن يصوره.
لقاء مع سيدة تحكي عن زوجها الذي ربت على كتفها فأحست برعشته وهو يهمس لها "سيكون كل شيء على ما يرام" ، ثم بعدها بلحظة إختفى مع سيارة كبيرة كانت تمر وتختطف كل رجل يمشي في الطريق المؤلم الذي يحمل عناء المهجرون من بيوتهم وقراهم ، أم تحكي كيف إحتضنها إبنها المراهق إلى أخر لحظة سحبوه فيها وهو ينوح ، تقول لم يكن خائفا ، كان يصرخ لا أريد ترككِ أمي وحدك ، لم تره بعدها ولم تعلم عنه شيئا ، شاب يحكي كيف ترك والدته في معسكر اللاجئين الهولندي ولم يدخلوه وأخاه فهربوا ثم قتل أخاه وهرب هو في الغابات ونجى ولم يجد أي طرف خبر عن عائلته بعد ذلك.
إنتهينا من المعرض وخرجنا وأنا أتذكر جدتي ، كانت تعلم أن من عاش فظاعة التهجير وسفك الدماء لن يستطيع العيش بسلام مرة أخرى ، يقولون في المعرض أن كثيرا من المهجرين مازالوا يعيشون في مساكن للاجئين قيل لهم أنها مؤقتة ومازالوا فيها بعد أكثر من عشرون عاما ، أكدت ذلك جارتي في الفندق الأسترالية بوسنية الأصل ذات السبعون عاما ، تقول أنها تعلم عنهم وشاهدتهم ، تقول كيف يرجعون؟ وأين يرجعون؟ عشرون عاما وهم يعيشون في مساكن لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء ، منسيون لا أحد يوليهم أي إعتبار ، كثيرون منهم يعيشون داخل مأساتهم ، لا يتذكرون إلا يوم المذبحة.
في آخر شاشات المعرض شاشة عند باب الخروج ، معروض عليها صور من مأساة الشعب السوري ، صور للمهجرين ولما كانت يوما مدنا وأصبحت خرائب ، صور للمخيمات ، نفس المأساة تتكرر ، ونفس الصمت يتكرر ، تغيرت الأماكن ولم تتغير الأحداث ، وبعد عشرون عاما من الآن ، سيكتب أحدهم إن أحيانا الله عن المهجرين السوريين في مخيمات الملاجىء ، عن مآسيهم وأمراضهم وعللهم ، وعن نسيانهم ولا أحد يوليهم أي إعتبار!
عبارة أخيرة كانت مكتوبة على زجاج المصعد ونحن نغادر "أصبحتم أنت أيضا شهودٌ على المذبحة!".
يبقى السؤال: هل ستتجاوز البوسنة مأساتها؟ وهل سيستمر السلام المفروض من الناتو؟ إلى مشاهدات أخرى في الأيام القادمة.
مشاهدة وتسجيل: حسام عابد أندجاني
في 8 ذو القعدة 1437هـ
الموافق 11 أغسطس 2016م