لا يمكـن لدلهـي أن تعـرف مساحـة نفسهـا .. وحدوهـا النهائية .! قد تخمّن رقمـا لكنه يظـل رقمـا مشكـوكا فيـه.! هـذا الامتداد اللانهائـي للمدينة يستفزني .. أنا بحاجة لمدينة ملمومة .! أشعر بها وكـأنها تخصني وتعنيني .. تكونُ مهتمة بي وتطـلق لقلبي العنـان .! أتجول في شوارعهـا وحين أتعـب أعـودُ إلى غرفتـي ماشيا .. أتوه في ساحاتهـا فأجـرب لـذة الخروج من متاهـتي .! دلهـي ربما تكون محبة بطريقتهـا .. لكن إحساسهـا لا يصلني.! ما علينـا .. وصلـت دلهـي في الرابعةِ عصرا .. 4 أكتوبر 2015 .. انقضـى يومـي الأول في الطريـق.! كنـت قادمـا من هاريدوار كمـا تعرفـون.! سـت ساعـات أخـرى .. مـا أطـول مشاويـر الهنـد.! لكـن خارطـة الهنـد تسخـر مني .. كـاد عليّ التدقيق في الخراطـة لأكتشـف النقطـة التي كـنتُ فيهـا .. هاريدوار وكـل ولاية أوتارخند بكـل قراها ومدنهـا وسهولهـا وجبالهـا وشوارعهـا المنهكة مجرد نقطـة ملونة صغـيرة فـي هـذا العـالم الهنـدي المهـيب.! نهار حارقٌ آخر .. درجة الحرارة 37 مئويّـة.! كـنتُ متحمسـا لاكتشـافِ المدينـةِ التـي لم أستلطفهـا .! لكنـي لن أكتشفهـا دفعـة واحـدة .. سيكـون عليّ تـرك شـيء للمـراتِ القادمـة! ففي جعبتـي العديد من الوجهـاتِ الهنديـة..ودلهـي محطـة إجباريّـة في الوصـولِ إليهـا.!
دخـلتُ من البوابةِ الصغيـرة .. ما بعد البوابة لا يشبـه ما قبلهـا .. فهنـا الأشجـار أنيقة والطرقـات منظمـة ومرصوفـة .. حتى اللوحـات الإرشاديّـة من النوع الغالـي.! يبـدو أنهـم لم يسترخصـوا حين فكـروا في الترويـج لهـذه المقبـرةِ الملكيّـة .! والتـي تحـولـت لمقبـرة جماعية للأمراء المغـول.! اللغة العربية هـي اللغـة الرسمية في المقبـرة.! وعلـى غير الناطقيـن بهـا مراعـاة ذلـك.! أستعرض مهاراتي في قراءةِ الآيات الكريمةِ والأدعيةِ حين يمر بي الهنـود الذيـن باتـوا غربـاء في وطنهـم.. بودّي لو أفضفـض فلا يفهمنـي سواهـا .! الزوار يتقدمون مستعجلـين ناحية البوابةِ الكبيـرة التي تفصلنا عـن الضريـح .. صاحـبِ الحكاية .! وقـد تأكـدوا من جاهزية كاميراتهـم .. فعلـت مثلهم بحركـة غير إراديّـة.. يتزاحمـون عند القـوس الأوسـط! هنـاك يرقـد الإمبراطـور همايـون .. وكل هـذهِ الحدائـق والبوابـات والنقوش والقبـاب مكتوبـةٌ باسمـه.. ممهـورة بختمـه ومنذورة لروحـه .. لكنه عاجـزٌ عن قطـفِ الزهـرةِ اليانعـةِ عند قدميـه.! لا يمكنـه التجـول في الحديقـةِ ليـلا ومسامـرة النجـوم .. ولا الجـلوس تحـت الشجـرةِ المعمّـرة يسـار الضريـح .. لا يمكنـه حتى مطـاردة السناجـب.! الضريح الملكـي يتوسـط القبة البيضـاء .. وحـوله عشراتُ الأضرحـة في الحجـرات المجـاورة .. وجميعهـا توصلُ إليـه.! هذه هي حدودك الطبيعية يا صاحـب القبـر .. تنتهـي حيـث ينتهي جسدك.! ومـا عدا ذلـك فهـو ملـكٌ للحياة.! ولـكن .. أين ترقـد الحاجة بيجـوم؟! أيهـا ضريـح الأميـرة العاشقـة.؟! هل تكـون قد اختـارت لنفسهـا ضريحـا منزويـا .؟! أم أنّ من بعدهـا كـانوا أقل وفاءا منهـا .!! لا أدري .. يعجبني أن يكـون السؤال بلا إجابـة .! لتظـل القصة مفتوحـة وبلا نهاية .. قصـة حـب مجنونـة ومكلّفـة.!