مدينة دلهـي لاحدود لها

بسنت

:: مسافر ::
13 نوفمبر 2018
1,001
5
0
40
لا يمكـن لدلهـي أن تعـرف مساحـة نفسهـا .. وحدوهـا النهائية .! قد تخمّن رقمـا لكنه يظـل رقمـا مشكـوكا فيـه.! هـذا الامتداد اللانهائـي للمدينة يستفزني .. أنا بحاجة لمدينة ملمومة .! أشعر بها وكـأنها تخصني وتعنيني .. تكونُ مهتمة بي وتطـلق لقلبي العنـان .! أتجول في شوارعهـا وحين أتعـب أعـودُ إلى غرفتـي ماشيا .. أتوه في ساحاتهـا فأجـرب لـذة الخروج من متاهـتي .! دلهـي ربما تكون محبة بطريقتهـا .. لكن إحساسهـا لا يصلني.!
ما علينـا .. وصلـت دلهـي في الرابعةِ عصرا ..
4 أكتوبر 2015 .. انقضـى يومـي الأول في الطريـق.!
كنـت قادمـا من هاريدوار كمـا تعرفـون.!
سـت ساعـات أخـرى .. مـا أطـول مشاويـر الهنـد.!
لكـن خارطـة الهنـد تسخـر مني .. كـاد عليّ التدقيق في الخراطـة لأكتشـف النقطـة التي كـنتُ فيهـا .. هاريدوار وكـل ولاية أوتارخند بكـل قراها ومدنهـا وسهولهـا وجبالهـا وشوارعهـا المنهكة مجرد نقطـة ملونة صغـيرة فـي هـذا العـالم الهنـدي المهـيب.!
نهار حارقٌ آخر .. درجة الحرارة 37 مئويّـة.! كـنتُ متحمسـا لاكتشـافِ المدينـةِ التـي لم أستلطفهـا .!
لكنـي لن أكتشفهـا دفعـة واحـدة .. سيكـون عليّ تـرك شـيء للمـراتِ القادمـة! ففي جعبتـي العديد من الوجهـاتِ الهنديـة..ودلهـي محطـة إجباريّـة في الوصـولِ إليهـا.!







 
ستكـون البدايـة مـع أشهـر مئذنة فـي كـلِ بلادِ الهنـد .. يسمونهـا " قطـب منـار ".!
اسمهـا مفعم بالعاطفةِ والشجـن ..في كلمـة منار تحديـدا .. أمـا الاسم الملكـي الذي يصاحبهـا فلا يعنيني بـشيء .! من الناحيةِ التاريخية فإنّ عمر هـذه المئذنـة تسعة قرون وأكـثر.!
تخيـلوا معـي ذلـك.. ظـلت صامـدة فـي وجـه محيطـها المتغيّـر والمتلـون.! تبدلـتِ الو لاءات وتصـدعت الممـالك وتهـاوت.. أظـن لأنهـا لم تكـن رمـزا دينيـا خالصـا .! بـل كـانت تحفة فنية إنسانيـة .. كـانت أشبه بالرسـالة .. ربما أكـونُ مبالغـا لكـنّ قساة القـلب لا يمكنهـم إلا أن يتوقفـوا عنـدهـا.! ستتفتـح أحاسيسهـم المغطـاة بطبقـة من الأحقاد والضغائـن.. سيلقـون بمعاولهـم جانـبا.. لم لا نسمـو معهـا وهـي ترتقـي نحـو السمـاء.! كـانت صدمـة إيجابية.. لقـد فوجـئتُ بارتفاعهـا .. 72 متـرا .!
توقعتهـا أقـل إبهـارا مـن ذلـك.! فـي محيطهـا مسجدٌ متهـدم ولم يبق منـه إلا أعمـدة متصدعـة وعليهـا نقـوش هندوسيـة.. الأمـرانِ لا يستويـان ..! لاحقا فهمـتُ السر حول ذلـك .. فالحـاكم المملوكـي قطـب الديـن أيبـك قام بتهـديم 27 معبـدا هندوسيا لإقامـةِ هـذا المسـجد .. أقامـه ببقايـا تلـك المعابـدِ المهدّمـة .. وسمّـاه قـوة الإسـلام.!






 
تتنـاثر الأضرحـة في الباحـة الكـبيرة نسبيّـا.. تتخذهـا السناجـب مكـانا لاستراحتهـا ربمـا لأنهـا تعلمـت أنهـا في مأمن هنـا .. فالزوار يحترمـون قدسية المـوتى عـادة .. ولذلـك فإنهـم سيتوقفـون عن ملاحقتهـا طـالما ظـلت بالقـربِ من الأضرحـة.!
نعـودُ للمئذنـة .. لقطـب منـار .!
طـلاب المدارس يلتقطـون معهـا صـور السيلفـي.!
كـان بالإمكـان صعـود المئذنـة .. لكـنّ بعض المحبطـين الذيـن قرروا أن ينهـوا حياتهـم هنـا تسبـبوا فـي إغـلاق الدرجِ المـؤدي للقمّـة!
أتخيل نفـسي وقـد تجمع حولـي الزوار وطـلاب المدارسِ وعمـال النظـافةِ ويطالبـوني بترجمـة تلك النقوش والزخرفـات التـي تـزيّن المنـارة بوصفـي العربيّ الوحيد هنـا .! أتخيلهـم وقد جـلسوا مقرفصين بانتظـارِ مـا يقـوله المترجـم سعيد الحـظ.!
تتمـايل الحـروفُ وتنثني فأتمـايلُ معهـا وأنثني .! وأتوه فـي لجـةِ المقاصدِ والمعانـي .! وأفقـد قدرتـي على البـوح .. فأهـربُ منهـم تطـاردني النظـراتُ الحائـرة والضحكـات.!


arabtrvl144869392981.jpg



arabtrvl1448693929842.jpg




arabtrvl1448693929873.jpg







 
دلهـي وإن بـدت مكفهـرة ومنشغلة عن الاعتنـاءِ بنفسهـا إلا أنهـا لا تخفـي انحيـازهـا للعشّـاق وإن كـان ذلـك تلميحـا لا تصريحـا.. ففي دلهـي للحـب مقامـات وأوليـاء ومعابـد وحكايـات وأقاصيـص مخفية.!
هـل سمعتـم بالحاجـةِ بيجـوم .؟!
لا أظنكـم سمعتـم بهـا .. ولا أنـا كذلـك.!
هـي زوجـة الإمبراطـور المغولي همايـون .. والمـرأة التي خلدت ذكراه .. وجنّبته أن يكـون مجرد حاشية صغيرة ورقم عابـر .. وحرّمته على النسيان.!
وحين مـات نقلـت رفاتـه معهـا للمنافـي البعيـدة .. تخيلوهـا وهـي تحمـل جثة زوجهـا معهـا .. وتدفنه حيـث تحـط رحالهـا .!
وبعـد 14 عامـا عـادتِ الأميـرة العاشقـة إلى المدينة التي طردتهـا وطاردتهـا.. مكللـة بالنصـرِ .!
اطمـأنت الأميـرة للمدينة التي خانـت عهدهـا يومـا.! وسلمتهـا جثة حبيبهـا التـي أنهكهـا الترحـال .. ستكون دلهـي هـي مستقـرها الأرضـي الأخيـر.!
وعاودتِ الأميـرة فكـرة قديمـة .. فكـرة حالمـة ومجنونـة .. ستبنـي لزوجهـا ضريحـا يضاهـي ضريـح جدّه جنكيـز خـان .! ضريـح ملكـي مبهـر تحفـه الحدائـق الغنّـاء .. وتعلـوه قبّـة بيضـاء .!
فكـان لهـا مـا أرادت.!







 
دخـلتُ من البوابةِ الصغيـرة .. ما بعد البوابة لا يشبـه ما قبلهـا .. فهنـا الأشجـار أنيقة والطرقـات منظمـة ومرصوفـة .. حتى اللوحـات الإرشاديّـة من النوع الغالـي.! يبـدو أنهـم لم يسترخصـوا حين فكـروا في الترويـج لهـذه المقبـرةِ الملكيّـة .!
والتـي تحـولـت لمقبـرة جماعية للأمراء المغـول.! اللغة العربية هـي اللغـة الرسمية في المقبـرة.! وعلـى غير الناطقيـن بهـا مراعـاة ذلـك.!
أستعرض مهاراتي في قراءةِ الآيات الكريمةِ والأدعيةِ حين يمر بي الهنـود الذيـن باتـوا غربـاء في وطنهـم.. بودّي لو أفضفـض فلا يفهمنـي سواهـا .!
الزوار يتقدمون مستعجلـين ناحية البوابةِ الكبيـرة التي تفصلنا عـن الضريـح .. صاحـبِ الحكاية .!
وقـد تأكـدوا من جاهزية كاميراتهـم .. فعلـت مثلهم بحركـة غير إراديّـة.. يتزاحمـون عند القـوس الأوسـط!
هنـاك يرقـد الإمبراطـور همايـون .. وكل هـذهِ الحدائـق والبوابـات والنقوش والقبـاب مكتوبـةٌ باسمـه.. ممهـورة بختمـه ومنذورة لروحـه .. لكنه عاجـزٌ عن قطـفِ الزهـرةِ اليانعـةِ عند قدميـه.!
لا يمكنـه التجـول في الحديقـةِ ليـلا ومسامـرة النجـوم .. ولا الجـلوس تحـت الشجـرةِ المعمّـرة يسـار الضريـح .. لا يمكنـه حتى مطـاردة السناجـب.!
الضريح الملكـي يتوسـط القبة البيضـاء ..
وحـوله عشراتُ الأضرحـة في الحجـرات المجـاورة .. وجميعهـا توصلُ إليـه.! هذه هي حدودك الطبيعية يا صاحـب القبـر .. تنتهـي حيـث ينتهي جسدك.!
ومـا عدا ذلـك فهـو ملـكٌ للحياة.!
ولـكن .. أين ترقـد الحاجة بيجـوم؟!
أيهـا ضريـح الأميـرة العاشقـة.؟! هل تكـون قد اختـارت لنفسهـا ضريحـا منزويـا .؟! أم أنّ من بعدهـا كـانوا أقل وفاءا منهـا .!! لا أدري .. يعجبني أن يكـون السؤال بلا إجابـة .! لتظـل القصة مفتوحـة وبلا نهاية .. قصـة حـب مجنونـة ومكلّفـة.!








 
وفي صباح اليوم التالـي كـان مؤشر الحرارة لا يـزال ثابتـا .. 37 درجـة مئويّـة .! إنه يومي الثـالث والأخيـر فـي دلهـي .. كـنتُ متحمسـا لزيـارةِ المعبـد البهـائي .. أو معبـد اللوتـس .. والاسـمُ الأخـير أعمـق دلالـة وأقـل طائفيـة .. تصميمـه العجـيب يمنحـه حضـورا خاصـا ومبهجـا .. فاللوتـس هـي زهـرة الهنـد المقدسـة ورمـز النقاءِ والصفاء.!
نقطـة التفتيـش هـي الحد الفاصـل بين عالمـين وحاليـن .. بين الفوضوية الصاخـبةِ والعشوائيـةِ وبيـن الأناقـة والفخـامة والهـدوء .. القمة في الهـدوء! تربكني الهنـد بتناقضاتهـا الفاحشـة .. تبدّل الهند وجوههـا وأقنعتهـا .. ولا أدري أيهـا الأصـل وأيهـا لزوم الحفـلات التنكرية.! يتهافـت الفقـراء علـى اللوتـس لأنّ الجمـال هنـا متاح للجميـع وبالمجـان.! كلمـة بالمجـان كافيـة لإثـارةِ نوازع كامنة فـي نفوسنـا.! تستفزني الحديقـة باتساعهـا ودقـة تفاصيلهـا وانسجامهـا مـع تلـك التحفة البيضـاء .!
التحفة الرخامية البيضـاء ساطعةٌ كالشمس وتعتلـي المشهـد .. وعلـى الزوار الصعـود إليهـا .! تقابلـك بحيـرة نظيفـة تفصلـك عـن هيكـل المعبـد .. تشعـرك وكأنـه يعوم فوق المـاء .. حركـة رمزيـة .! يجمعنـا المرشـدون فـي صفـوف طويلـة .. يرددون التعليمـات بلهجـة تقتـرب من التهـديد .. ربمـا لـم تكـن كذلـك .. لكنـي شعـرتُ بهـا كذلـك.!
التـزمـوا الهـدوء والتصويـر ممنـوع .. هل هـذا مفهـوم؟! نهـز رؤوسنا بالإيجـاب وكلنـا عزيمـة وإصرار على التقيـد بكافة التوجيهـات .. ثم تفـتح بوابـات اللوتس بطريقة استعراضية ومتكلفـة.! ندخـل بحـذر خشيـة أن نرتكـب حماقـة تفسّر بسوء نية.!
تسع بوابـات بعددِ ديانـاتِ العالـم .. كلهـا تفضي لنقطةِ التلاقـي .. تظللنـا بتلات الزهـرة المكونة لجسدِ المعبـد ..! خجـلتُ من نفسي فلقـد كـنتُ مشغـولا بالتـلصص علـى المرشـدةِ الجميلـة الموكلـة بنـا .! توقـفتُ عـن محاولـة اكتشـاف زوايـا الجمـال الخارجـي للقاعـة الفسيحـة والمشمسـة .. يغـرق البعـض في صلـواتهـم الصامتـة .. يغمضون عيونهـم ويبتهلـون لأجلِ سلام البشريّـة ..
حـان وقـتُ الانصـراف .. مـا الذي تغيـر فينـا.!
للقـلوب حسابـاتها الخاصةِ بهـا ..







 
كـنتُ في الطريـقِ إلى القلعةِ الحمراء حيـن فكـّرتُ في رحلتـي التاليةِ للهنـد .. وضعـتُ مخططـاتِ الزيـارةِ الثالثـةِ والرابعـة .. وحتى العاشـرة .! لـم يكـن خاطـرا طارئـا .. ولكـني فتنـتُ بالهنـد ولا يمكننـي فراقهـا .! تخيـلتُ نفسـي وأنـا في كشميـر ومنـالي وشيمـلا وميغالايـا وراجستان وأغـرا .. سياحة من خيـال لكنّ نفسي تتوقُ لتلك النواحـي ..!
مـا أشد زحام نيودلهـي .. تتحرش بي المدينة لتقيس مدى قدرتـي على التحمّـل.! ربما أكونُ ملولا ومزاجيا ولكنّي أيـضا حالـم وأبحـث عن مغامـرات صغيـرة .!
وصلـتُ القلعـة الحمـراء أخيـرا .. " لال قلعـة " كمـا يسميهـا الهنـود.! مفخـرة هندية أخـرى لدرجـة أنّ الهنـد ترفـع علمهـا الوطني احتفالا بعيـدِ الاستقـلال فـوقهـا .. ذلـك يعنـي الكثيـر أليـس كذلـك.؟! لكنهـا مفخـرة ناقصة بالنسبةِ لسائـح مثلـي .. لأنّها وإن كـانت مهيبـة ومتراميةِ الأطـراف ومتعـددة الأغـراض .. إلا أنهـا تفوح سياسة وهـذا ما يجعلهـا أقل بهاء وجمـالا .! وبالتالـي فهـي ليسـت بمستـوى معبد اللوتس وضريح همايون وقطـب منـار .! المواقـف بعيـدة عن مدخـلِ القلعة العتيـدة .. أتمشـى قليـلا تحـت الشمس الحارقـة .. بوابـة ضخمـة ونقطة تفتيش للجيـش .. أتجـاوزهـا فتقابلنـي هياكـل ومبـان متناثـرة بلا تناسـق وبحيـرات صغيـرة وسنـاجـب .. أيهـا تستحق الوقـوف عندهـا .. ورفعـا للعتـب أمر عليهـا سريعـا ولا شيء يستهويني.! ويزيدني ذلـك عطشا وانزعاجـا .. وبهـدوء أتـركُ القلعـة للهنـود الذيـن ربمـا يجدون فيهـا مـا يعزز حسهم الوطني.! أمـا أنـا فكـان عليّ الانسحـاب بعيـدا ..
فلقـد حـان موعـدُ الرحيـل.!


- انتهـى -