مدينة جبيل

ابو فيصل 1

Junior Member
5 سبتمبر 2015
332
0
0
1407147992961.jpg


الميناء جمال آخر في المدينةيختلف الجلوس في المقاهي اللبنانية عن غيرها من المقاهي، فالغرسون فيها يقرأ الزبون من أول نظرة، ويعرف ما يفكر فيه قبل أن يتحدث معه، كنت جالسا في أحد مقاهي بيروت الجانبية البعيدة عن الأنظار.. جاءني الغرسون ليأخذ طلبي وبعد أن عاد همس لي بذوق رفيع وهو يصب قهوتي في الفنجان: «أعتقد أنك تبحث عن شيء جديد في لبنان، هل زرت مدينة جبيل؟»، ثم أشار لي باتجاه الشمال، وقال انها تقع بعد شاطئ جونيه الجميل، ووضع قهوتي على الطاولة واستأذن بنفس الذوق الرفيع الذي قدم به.
ابتسمت عندما سمعت اسم جبيل، فنحن في الخليج نعرفها مدينة في السعودية، أما في لبنان فهي جديدة علينا، هذه الصدفة حمستني لزيارتها، لم يكن الوصول الى مدينة جبيل صعبا، فالتاكسي في لبنان يوصلك الى كل مكان، اخترت رجلا مسنا لكي يسرد لي تاريخ المنطقة والأحداث التاريخية والعصرية التي مرت بها طوال الطريق، لأنني أعلم أن الشباب لن يتحدثوا مع الزبون الا عن هيفاء وهبي أو محمد حماقي، أما التاريخ فلا يعرف قيمته الا من عاشه، ساعة ونصف مرت علي في الطريق الى جبيل كأنها لحظات.. كان أبو جودت ــ 60 سنة ــ سائق التاكسي يتميز بأسلوب قصصي جذاب، سرد لي كل الأحداث وحكى لي تاريخ المنطقة صوتا وصورة وكأنني أشاهد فيلما سينمائيا، كان يتحدث بشوق كبير وكأنه تاريخ صنعه هو بنفسه.

1407147992982.jpg


كان الطريق جميلا.. بدأ من بيروت باتجاه جونية في الشمال، بعد ربع ساعة تقريبا توقف أبوجودت وأشار الى البحر وقال «هيدا (هذا) المنتجع كتير حلو، عبارة عن شاليهات خمس نجوم يتبع الفورسيزن، ما بيعرفوه الخليجيين وما بييجو هون لهلق» - ويعني الى الآن- تابع سيره على الطريق السريع، ثم أشار بيده مرة أخرى الى منطقة أخرى وقال «وهيدا اده ساند.. شاطئ كتير بيجنن ما بتعرفوه كمان»، وتابع سيره الى أن وصلنا الى الجبيل، مدينة عامرة بالعمارات العالية، لم يتوقف أبوجودت وسط هذا العمران، بل تجاوزه الى أن توقف على الشاطئ أمام فندق صغير قديم ولكنه جميل.
هدوء ورومانسية وجمالكانت الحياة في المدينة هادئة الى حد كبير، لم ألاحظ فيها أي حركة تدل على أنها مدينة سياحية من الدرجة الأولى، كما قال لي أبو جودت والغرسون في المقهى، دخلت الفندق فاستقبلتني موظفة الاستقبال بطريقة جيدة، وقدمت لي عصير برتقال طازجا.. اللبنانيون يعرفون كيف يسوقون لبلدهم بطريقة محترفة، كانت الموظفة سمينة جدا الى درجة أنها لم تكن تستطيع أن تتحرك من مقعدها الى طابعة الكمبيوتر، فاضطررت الى أن أدخل خلف طاولة الاستقبال لكي أتسلم ورقة الدخول وكرت الباب، دخلت غرفتي الصغيرة الأنيقة النظيفة جدا، ووقفت في الشرفة المطلة على البحر.. هنا أدركت سر هذه المدينة وسر حب الناس لها، انها درة البحر الأبيض المتوسط، هواؤها عليل والمنظر المطل من شرفة الفندق هو في حد ذاته سياحة رائعة.
شواء لذيذ
فضلت أن أخرج من الفندق وأتجول في المدينة لكي أتعرف عليها منذ البداية، فالحياة عبارة عن مجهول يجب أن تتعرف عليه والسياحة علم معرفة المجهول من الأماكن والتعرف على العالم حولك، جذبني الهواء العليل القادم من البحر لأتوجه إليه مباشرة، لم أنتظر أكثر من دقائق معدودة لأتخذ قرار السير على قدميّ مباشرة إلى المارينا، هناك كان الوضع مختلفا تماما عن وسط المدينة، المطاعم ممتلئة بروادها.. والمقاعد الجميلة الملونة تزين الواجهة البحرية، أعجبني المنظر كثيرا.. خاصة أن رائحة الشواء اللبناني اللذيذ الشهير في فترة الغداء يجبر السائح والمار في الطريق على دخول أقرب مطعم والسير خلف رائحة الشواء كالمسحور، كانت المفاجأة في انتظاري غير بعيدة.. هذه الرائحة لم تكن تصدر إلا من مطعم واحد فقط، ولا توجد فيه مقاعد فارغة، أما المطاعم الأخرى التي تملأ المكان فكانت كلها إيطالية أو أميركية، علي إذن أن أتغدى ستيك أو بيتزا! ياحلاوة المشويات اللبنانية مع التبولة، ولكن لا يوجد مكان فاضطررت إلى أن أحجز لي طاولة للعشاء، فالجلوس على المارينا أمام اليخوت الجميلة لا يفوت.
الرجل المسن

1407147992993.jpg


بعد الغداء الإيطالي لابد من شرب القهوة التركية اللذيذة، كانت طاولتي قريبة جدا من طاولة رجل مسن أنيق جدا، استأذنته بأن أشرب قهوتي معه على طاولته، ولكن على حسابي فرحب بي، كان الجلوس معه أشبه برحلة في تاريخ المدينة التي كانت تسمى في السابق بيبلوس أو قراءة في تاريخها العريق، كان صوت هذا الرجل المسن الأنيق أشبه بموسيقى قديمة خرجت من قيثارة تراثية تعيش في كتب التاريخ تحكي قصة أناس بنوا هذه المدينة وتركوها هدية لمن يأتي بعدهم، جمال البحر وهدوؤه وروعته هنا شيء مختلف، كأنه بساط سحري يحملنا على ظهره ويطوف بنا أجواء رومانسية حالمة وسط موسيقى هادئة من صوت البحر وهدير أمواجه المسالمة على جوانب اليخوت الواقفة بأمان على المارينا.
يتميز أهل جبيل اللبنانية بهدوئهم مع ابتسامة تزين وجوههم البيضاء المشربة حمرة، طوال البنية على عكس ما توقعت، فأهل البحر نادرا ما يكونون بهذا الطول، كما أنهم خليط عجيب من كل أديان العالم، ويحبون الغرباء ويأنسون بوجودهم، وكرماء الى أبعد الحدود ويتحدثون اللغات العربية والفرنسية والانكليزية، يشربون الشاي أكثر من القهوة ولا يتحدثون في السياسة الا قليلا، ويحبون الشواء البحري بطريقة جنونية، لكنهم بدأوا يفضلون الطعام الايطالي أكثر من أي شيء آخر.​