الصراع بين النوبيين والتُّركُمان

ابو فيصل 1

Junior Member
5 سبتمبر 2015
332
0
0
لم تدم العلاقة بين النّوبيين من أصولٍ نوبيةٍ بحتة وإخوتهم من أصولٍ تركية (التّركمان) كثيراً على الحال الطيّبة التي بدأوا بها. فالمجموعة الأولى كان لا يزال قسم كبير منها على النصرانية، بينما كانت المجموعة الثانية على الإسلام بلا استثناء. وقد كان ذلك زمنُ الإسلام، حيث كانت النصرانية في تضعضع بين النوبيين إزاء العقيدة الجديدة الصاعدة. فإذا كانت المجموعة الأولى تملك الأرض (بنية الإقتصاد التحتية)، فقد كانت المجموعة الثانية في المقابل تملك السلطة ذات القوة المادية القسرية والسيطرة التامة على التجارة. لهذا كان من الطبيعي أن تعمد المجموعة الثانية إلى تجريد المجموعة الأولى من الأرض. وقد تمّ لها هذا عبر مراحل بدأت باستهداف النصرانية أولاً، ثمّ مروراً بالسّحل والتقتيل والإرغام على الهجرة والإضطهاد، ثم أخيراً بالإستيلاء على الأرض واستعباد المجموعة الثّانية للمجموعة الأولى. وقد ورد ذكر الصراع الذي دار بين المجموعتين في صاي. وهكذا مرّت على النوبيين فترة أصبحت فيها كلمة "نوبي" موازية لكلمة "عبد"، فكان أن أصبحت الهويّة النوبية ذات محمولات سالبة مرتبطة بالعبودية والنصرانية. وقد دفع هذا بالنوبيين إلى نكران ماضيهم المسيحي والتبرؤ منه، ولعلّ هذا هو ما جعلنا ننسى أنسابنا الموغلة في المسيحية [لمزيد من التفاصيل راجع مناقشتنا لكيفية تخلّص بعض أهل صيصاب من اسم ياسكي أدناه].
من ذلك مثلاً الحرب التي دارت بين الملك النوبي المسيحي توما (يرد الاسم في سيد مسل [1974: 161-162] على أنه "توم") والعرب المسلمين وكيف تشتّت شمل النوبة حتّى أصبح مضرب الأمثال (tarim Toman mugmarangon). من ذلك أيضاً الصراع الذي دار بين أناس يُعرفون باسم "أولاد شامة" ("شامنجي"، أي "أولاد شامة"، أو في تخريج آخر "أولاد الشام" إشارةً إلى أصل عربي مع استبعادنا له نسبةً لعلاقاتهم القويّة بالتّركمان المتملّكين في صاي) ضد أهل البلد الأصليين (أي النوبيين) بقرية عمارة شمالي عبري. فقد اتّفقت المجموعتان على عقد اجتماع سلمي لحلّ الخلافات الناشبة بينهما، في الوقت الذي كان فيه "أولاد شامة" يُبيّتون النّيّة على الغدر. تقول الرّواية، حسبما ورت في سيّد مُسُل [1973: 156-157]:
"وفي الليلة السابقة لنهار الإجتماع وتحت ستر الظلام نقل ... "أولاد شامة" أسلحتهم خلسةً لمكان الإجتماع. وفي الصباح التالي تدفق الناس من العنصرين لمكان الإجتماع. وحرص [أولاد شامة] أن يجلس كل فرد منهم فوق المكان الذي عنده سلاحه المدفون. وعندما بدأ الحوار، قاد [أولاد شامة] التفاوض إلى طريق مسدود يوحي إلى النزاع بالسيف. وبالفعل قامت بين العنصرين معركة كلامية تحولت في الحال إلى حرب بين قوم مسلحين وآخرين عُزّل من السلاح. وفي سرعة انتصر [أولاد شامة] وقتلوا النوبيين وأبادوهم ورجعوا إلى القرية وأسروا نساءهم وملكوا الأطفال. وقد هرب بعض المقاتلين من النوبيين من ساحة المعركة إلى بلاد بعيدة مجهولة. ويقول الناس في عمارة إن أولئك النوبة ما زالوا يُعدّون العدّة لإعادة فتح بلدة عمارة من مكانهم الذي رحلوا إليه."

تتريك النوبة أم تنويب الأتراك:
ذكرنا من قبل أن "حسن قوسي" كان أول "كاشف" يُعيّن على المنطقة النوبية من الدر حتى الشلال الثاني. وقد حكم هو وأبناؤه البلاد بطريقة لامركزية حيث كان الكاشف في البداية بالدر بينما توزع أبناؤه كحكام محليين على باقي المنطقة. لكن هؤلاء كانوا حكاماً مدنيين، بينما استندت التركية الأولى على قوة عسكرية ضاربة تكونت من إنكشارية الأقوام التركية والأوربية المتوسطية والأوسط آسيوية. وقد توزعت هذه القوة العسكرية على حاميتين أساسيتين هما قلعة إبريم بالنوبة السفلى بمصر وقلعة صاي بالنوبة الوسطى. فكيف انتهى الأمر باستتبابه للكُشّاف الذين حكموا البلاد حتى إلى ما بعد التركية الثانية عام 1821م من عدة عواصم بدأت بالدّر وجزيرة صاي، ثم أخيراً جزيرة كولب ودغيم، ودبيرة شمالي حلفا ثمّ كوشي شمالي عبري؟ فأين ذهبت الإدارة العسكرية، خاصةً وأنه كانت لها اليد الطولى. من المعروف أن قلعة إبريم أُخليت وتوقّف العمل بها عام 1812م بعد المعركة الضارية التي أُجليت عنها إثر ذلك قوات المماليك الفارّة من وجه محمد علي باشا. هذا بينما استمرّت قلعة صاي حتى عام 1887م عندما هاجمها الدراويش من طلائع جيش ود النجومي [جون أليكساندر، 2001: 12]. فكيف تلاشت الإدارة العسكرية بينما بقي الكشّاف يحكمون المنطقة إلى ما بعد 1821م، أي عهد التركية الثانية، كما استمروا في نفس جبروتهم وطغيانهم؟ يبدو أن العثمانيين العسكريين قد ذابوا بطريقةٍ ما داخل المجتمع النوبي، خاصةً عندما سُمح لهم بالزواج من المحليين بعد 1600م [المرجع السابق: 9]. من زاوية أخرى يبدو وكأن النوبيين بدورهم قد ذابوا أيضاً داخل المجموعات التُّركُمانية الغازية. فمن ذاب في من؟ ومن هنا يقفز السؤال: هل تمّ تتريك النوبة أم تنويب الأتراك؟
تمثّل الكشّاف التّركمان الثقافة النوبية تماماً، ونسيوا لغاتهم الأوروبية. ويذكر بيركهاردت أن كاشف صاي عام 1813م لم يتمكن من أن ينطق جملة "إمش يا مُعرّص"، عندما همّ بطرده من دائرة حكمه آذناً له بالقفول نحو مصر. فقد نطق لفظة السباب على النحو التالي: "إنشي يا مآرس" [بيركهاردت، 1987: 63]. كما ذكر أن الكشاف دأبوا على الزواج والمصاهرة في كل حي تغلبوا عليه. واليوم تعرف العديد من البيوتات والأسر باسم الولياب، يتعامل الناس معهم على أنهم أبناء وحفدة الكشاف. وقلما تخلو أسرة ـ خاصةً في السّكّوت وحلفا ـ من دماء الكشاف الحارة [راجع ذلك في محمد عثمان فركاوي، 1994]. ولكن هل جميع الكشّاف من الولياب؟

إن نظرة سريعة لقوائم الأنساب الواردة في كتاب الولياب لفركاوي [1994]، أو تلك الواردة في "أنساب السّكّوت" لشهدي (محمد) مصطفى فرح [راجع ذلك في المواقع الإلكترونية لجزيرة صاي(www.jazeratsai.com) وعبري/تبج (www.abritabag.com)] تجعل المرء يشكّ فيما إذا كان النوبة مجرد مجموعة إثنية أناضولية؛ فجميع الناس يبدو أنهم أتراك. وفي الحقّ ما أتراكُ النوبة إلاّ شتيتُ أقوامٍ عثمانيين قدموا كأجنادٍ لحاميتين صغيرتين قبل 500 عام. فأين النوبة، وهم على هذه الأرض قبل ذلك قروناً وسنين عددا؟ إنّ المتفحّص لتاريخ الكّشّاف ـ وهو الأحدث والأقرب إلينا ـ يجد أنه شديد الاضطراب، منفرط الأحداث. فمثلاً تواتر في التاريخ أن حسن قوسي (أو قوصي كما ورد أيضاً في فركاوي، 1994: 20) هو أوّل كاشف تمّ تعيينه بعد انسحاب السلطان سليم، وقد جعل مدينة الدِّر بالنوبة السفلى كرسيَّ كشوفيّته، ومن ثمّ توزّع أبناؤه حتى جنوب صاي بالنوبة العليا يحكمون كنوّاب له. من المفترض أن هؤلاء هم التّركمان الذين أصبحوا يُعرفون فيما بعد باسم "الولياب" بين النوبيين المستتركين أو الأتراك المتنوّبين ـ كيفما اتفق. وترد سلسلة أنسابهم في كتاب فركاوي الذي يحمل ذات العنوان [1994]. ويعتبر آخر الكشّاف بالسّكّوت أحمد كارا الذي توفّي بأرقو في طريق عودته من دنقلا أخريات 1860م وقد ورثها من أخيه دهب داؤود كارا، وهما ابنا داؤود كارا الذي كان كاشف السّكّوت وحلفا وقد توفّي بجزيرة كُلب حوالي عام 1838م [فركاوي، 1994: 127]. ويُعتبر داؤود كارا بمثابة الكاشف الرابع في سلسلة الولياب، إذ الأول ولي كار علي الذي عاش منتصف القرن الثامن عشر، والثاني ابنه سليمان ولي كار، والثالث كار بن سليمان، فالرابع فداؤود بن كار (داؤود كارة)، فالخامس دهب ثم أخيراً السادس أحمد كارة. وليس من المؤكد إذا ما كان "كار" أو "كارا/كارة" لقباً (كارة/كارا يعني الأسود بالتركية) أم اسماً. لكن من المؤكد أن هؤلاء ليسوا من أبناء حسن قوسي بأي حال من الأحوال. فأين الكشّاف من أبناء حسن قوسي، ذلك لأنه من المؤكد أن حسن قوسي وأبناءه من بعده كانوا أول الكشّاف. هل نخلص من هذا أن هناك كشافاً من أبناء حسن قوسي، كما أن هناك كشافاً من أبناء ولي كار علي! فهل هناك كشاف آخرون من أسر أخرى؟ سنرى بعد قليل.

إن اضطراب أنساب الولياب يعكسه الجدول التالي، نقلاً من فركاوي [1994: 137] بتصرّف، حيث نقف عند داؤود كارا فقط (نكتبها كارة كما جرى بذلك العرف) ، مع كامل استبعادنا لقائمة إبراهيم محمد حسن بتيك:
(1)وثيقة محمد سالم سمل: الأمير هنكار ؟/؟ ؟ ؟ ؟ / سليمان/ ولي/؟ ؟ ؟ ؟/سليمان/ ولي/؟؟؟/كاشف كارة/ داؤود كارة

(2)وثيقة أحمد سليمان كار: الأمير هنكار/؟ ؟ ؟ ؟/الأمير سليمان/ولي/علي/سليمان/ولي /سليمان/كاشف كارة/داؤود كارة

(3) وثيقة صالح محمد طاهر:؟ ؟ ؟ ؟/؟ ؟ ؟ ؟/؟ ؟ ؟ ؟/ الأمير عبد المنعم؟/الأمير علي/ الأمير كار؟/ ولي/الأمير سليمان / الأمير كاشف كار؟/ سليمان (شقيق داؤود كارة؟)

(4) وثيقة فرحات شلبي:الأمير هنكار/الأمير كار الأول/ الأمير سليمان/الأمير ولي كار/ ؟ ؟ ؟/ الأمير سليمان الثاني /الأمير ولي الثاني/كاشف كارة/ داؤود كارة​