هذه هي الدولة التي عُرفت بحكم الكشّاف العثمانيين (التُّركُمان) الذين حكموا بلاد النوبة في الفترة بين عامي 1550م ـ 1821م. حتى وقت قريب كان يُظن أن السلطان العثماني سليم الأول الذي قام بغزو مصر في الفترة ما بين 1517 – 1520 هو الذي تقدم صاعداً حتى بلغ بلاد النوبة [يمكن مراجعة هذه النظريات المغلوطة على سبيل المثال في: آدامز، 1977: 610؛ بيركهاردت، 1978]. إلا أن الكشوفات الأثرية التي تمت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين بمنطقة قصر إبريم أثبتت أن ذلك كان السلطان سليم الثاني الذي غزا بلاد النوبة في سنوات 1550م حتى الشلال الثاني [ميناقي، 1988]. بهذا تكونت سنجكية (محلية) إبريم كجزء من إيالة (محافظة) مصر التابعة للإمبراطورية العثمانية. كانت الرئاسة بالنسبة لسنجكية إبريم بلدتي الدّر والديوان اللتين تبعدان حوالي 20 كم شمال إبريم. في 1583م تعمّق العثمانيون جنوباً متجاوزين الشلال الثاني إلى الشلال الثالث مؤسسين بذلك سنجكية المحس. هذا التعمّق أدّى إلى إعمار قلعة صاي لاتخاذها حاميةً عسكرية، ذلك لبعد قلعة إبريم [جون أليكساندر، 2001: 5-9]. وقد كانت الخلفيات الإثنية لجنود السلطان سليم الذين خلّفهم وراءه تعود لعدة أصول من تركيا ومنطقة البلقان بالبحر الأبيض المتوسط بالإضافة إلى بعض جيوب من مسلمي القوقاز [آدامز، 1977: 395]. أصبح الدولاب الإداري لمنطقة السنجكية عسكرياً على رأسه قائد برتبة "بيك"، يعاونه موظفون مدنيون أُطلق عليهم لقب "الكشّاف". وقد تعاقب على قيادة الحاميتين (بالدّر وصاي) عدّة بكوات [جون أليكساندر، 2001: 7]. ويعتبر "حسن قوسي" أول "كاشف" يُعيّن على المنطقة النوبية من الدر حتى الشلال الثاني.
هناك الكثير من الإفادات الشفاهية، وبعض الوثائق ذات الأساس القوي، التي تشير إلى أن التركمان العثمانيين في أول اختراقهم ربما تجاوزوا بلاد النوبة إلى ما وراء بلاد الشايقية. من ذلك الوثيقة التي حررها فرحات شلبي (1880-1973، راجع ترجمته في محمد عثمان فركاوي، شخصيات من رجال الولياب، الخرطوم، بدون تاريخ، 5 في عشرينات القرن العشرين. وقد كان فرحات من أحفاد الكاشف داؤود كارا الذي حكم المنطقة منذ بدايات القرن التاسع عشر من قرية كولب بشمال عبري. وقد ذكر في تلك الوثيقة بوضوح أن حكم أهله الكشّاف قد شمل كل منطقة النوبة والشايقية ومن ثم تجاوزها إلى ما وراء ذلك [راجع نص الوثيقة في فركاوي، 1994: 133]. كان فرحات مهندساً ميكانيكياً خدم كضابط في الجيش الفرنسي إبّان الحرب العالمية الأولى. وعندما وضعت الحرب أوزارها، استقرّ بمصر وافتتح بها أول ورشة ميكانيكية لصيانة السيارات. فإذا وضعنا في الإعتبار قلة السيارات حينها وانحصارها على الأسرة المالكة وعلية القوم، أمكننا ذلك من تكوين فكرة عن المكانة الكبيرة التي كان يتمتع بها فرحات شلبي آنذاك. وأصل الوثيقة أن الأمير عمر طوسون مازح فرحات شلبي و"شاغَلَه" منادياً له "يا بربري!"، فعاجله فرحات بقوله: "وماذا تكون أنت؟" ردّ الأمير عمر طوسون: "أنا تركي طبعاً كما تعلم". كان فرحات شلبي نوبياً ذا نفسٍٍ كبيرة وأَنَفَةٍ شمخاء؛ ففضلاً عن كونه نوبياً أصيلاً لا تخيفه الألقاب، فقد كان من أسرة ذات إرث ملوكي ضارب في القدم، ذلك بحكم أنه سليل الكشّاف الذين حكموا بلاد النوبة لقرون. إلى ذلك فقد كان أيضاً سريع الغضب، حار الطبع. عند ذلك قال له فرحات: "لا تخدع نفسك! إذ لا علاقة لك بالأتراك. أولستَ حفيداً لمحمد علي باشا الألباني؟ ما علاقة الألبان بتركيا؟" وبما أن الأمير عمر طوسون كان على خلق طيب، كما أُثر عنه، كما كانت تربطه علاقات طيبة بالسودانيين عامة والنوبيين خاصة، فقد قبل منه ذلك بصدر رحب وتمادى في الممازحة مغايظاً له بقوله: "أنا ألباني، نعم، لكن ماذا تكون أنت؟" عندها استشاط فرحات غضباً وصرخ فيه قائلاً: "إنني أنا التركي يا ألباني! أنا تركي غزنوي! أنا الأمير ابن الأمراء يا ابن محمد علي البلطجي". عندها انفجر الأمير ضاحكاً، بينما خرج فرحات غاضباً، واتجه مباشرة إلى الكتبخانة (دار الوثائق الخديوية) حيث عكف فيها أياماً يداوم على مراجعة الوثائق المتعلقة بحكم الكشّاف مستخلصاً منها ما يثبت أصله التركي لإفحام الأمير عمر طوسون [رواية محمد مصطفى، من جدّي بالمحس، توفي سنة 2002م عن عمر تجاوز المائة، وقد كان شاهداً على الحادثة].
إن ما يجعلنا نلتفت إلى هذه الإفادة الواردة في الوثيقة بخصوص تجاوز حكم الكشّاف لمنطقة الشايقية نقطتان هامّتان ؛ الأولى إيرادها الصحيح لاسم السلطان العثماني الذي دخل بلاد النوبة، ألا وهو سليم الثاني، بدلاً عن سليم الأول كما اعتقد خطأً المؤرخون. النقطة الثانية عدم إيرادها للتوريخ الخاطئ (1517م) لذلك الغزو؛ فقد أورد فرحات شلبي العام 950 هجرية (أي بين 1565 ـ 1570) على أنه التاريخ الذي حدث فيه الغزو. هذا التاريخ أقرب إلى الدّقة، ذلك لأنه يتوسّط الفترة ما بين بداية الغزو الأول (1550م) الذي توقّف في حدود الشلال الثاني والغزو الثاني (1583م) الذي تقدّم صاعداً حتى الشلال الثالث حيث وقعت معركة حنّك الشهيرة. إن الخطأ المتعلق بهاتين النقطتين (اسم السلطان والتاريخ) لم يُصحّح إلا في أخريات القرن العشرين كما أشرنا أعلاه. إن هذا ليقف دليلاً على أن فرحات شلبي قد وقع في تنقيبه ذلك على مصادر مطلعة، إن لم تكن المصادر الأصلية.
أما بخصوص الإفادات الشفاهية، فقد وقعتُ على عدد وافر منها وذلك إبّان عملي الميداني بمنطقة المناصير بالشلال الرابع عام 2003م وذلك ضمن الفريق الأثري للمتحف البريطاني. إذ يفيد التاريخ الشفاهي للأسرة التي حكمت المنطقة أنها قدمت في ركاب حكم الكشّاف، فضلاً عن أنهم يُعرّفون أنفسهم ككشّاف [محمد جلال هاشم (بالإنكليزية)، "التاريخ الشفاهي لقبيلة المناصير"، 2003]. ولا تزال الذاكرة الشعبية تحكي عن أصلهم التركي وعن صاي وعن الدِّر. أكثر من ذلك، هناك قرية اسمها "الدر" تخليداً لاسم القرية التي قدموا منها في الزمن القديم. هذا بخصوص إقليم المناصير والذي يقع أعلى إقليم الشايقية. بخصوص الأخير نفسه ترد إفادات وبينات تشير إلى وصول الكشّاف هناك. ففي نوري تُعرف أسرة العمدة كنيش بأنهم كشّاف. كان يمكن أن نأخذ ذلك على أنه من قبيل التسمّي بالألقاب التشريفية مما كان شائعاً في ذلك الزمان، إلا أن العمدة محمد أحمد كنيش أطلعني على مراسلات جرت بين جدّه في عشرينات القرن الماضي وبين حفدة الكشّاف بمنطقة السّكّوت تُثبت قرابة الدم هذه [مقابلة بمنزله بنوري 2003].
يُفهم من الروايات الشفاهية بأن الكشّاف تحصّنوا بقلعة كجبي شمال مروي كما فعلوا في صاي وقصر إبريم. وعندما عجزوا عن السيطرة على إقليم الشايقية، تراجعوا شمالاً، لكن ليس قبل أن ينفرد فرع منهم بحكم منطقة المناصير على الجنوب من الشايقية. من جانب آخر تفيد بعض الروايات الشفاهية التي جمعناها عن مملكتي أرقو والمحس بوجود صلات قوية مع الكشّاف. على أيٍّ، فمن الواضح أن حكم الكشّاف انحصر على منطقتي النوبة الوسطى (الأطراف الشمالية للمحس والسّكّوت وأرض الحجر) والسفلى، أي حلفا وجنوب أسوان بمصر (أي منطقة الفاديجّا). فإذا كان ذلك ناجماً عن التقلص، فهو مما يحتاج لمزيد من البحث والتقصّي
ق
هناك الكثير من الإفادات الشفاهية، وبعض الوثائق ذات الأساس القوي، التي تشير إلى أن التركمان العثمانيين في أول اختراقهم ربما تجاوزوا بلاد النوبة إلى ما وراء بلاد الشايقية. من ذلك الوثيقة التي حررها فرحات شلبي (1880-1973، راجع ترجمته في محمد عثمان فركاوي، شخصيات من رجال الولياب، الخرطوم، بدون تاريخ، 5 في عشرينات القرن العشرين. وقد كان فرحات من أحفاد الكاشف داؤود كارا الذي حكم المنطقة منذ بدايات القرن التاسع عشر من قرية كولب بشمال عبري. وقد ذكر في تلك الوثيقة بوضوح أن حكم أهله الكشّاف قد شمل كل منطقة النوبة والشايقية ومن ثم تجاوزها إلى ما وراء ذلك [راجع نص الوثيقة في فركاوي، 1994: 133]. كان فرحات مهندساً ميكانيكياً خدم كضابط في الجيش الفرنسي إبّان الحرب العالمية الأولى. وعندما وضعت الحرب أوزارها، استقرّ بمصر وافتتح بها أول ورشة ميكانيكية لصيانة السيارات. فإذا وضعنا في الإعتبار قلة السيارات حينها وانحصارها على الأسرة المالكة وعلية القوم، أمكننا ذلك من تكوين فكرة عن المكانة الكبيرة التي كان يتمتع بها فرحات شلبي آنذاك. وأصل الوثيقة أن الأمير عمر طوسون مازح فرحات شلبي و"شاغَلَه" منادياً له "يا بربري!"، فعاجله فرحات بقوله: "وماذا تكون أنت؟" ردّ الأمير عمر طوسون: "أنا تركي طبعاً كما تعلم". كان فرحات شلبي نوبياً ذا نفسٍٍ كبيرة وأَنَفَةٍ شمخاء؛ ففضلاً عن كونه نوبياً أصيلاً لا تخيفه الألقاب، فقد كان من أسرة ذات إرث ملوكي ضارب في القدم، ذلك بحكم أنه سليل الكشّاف الذين حكموا بلاد النوبة لقرون. إلى ذلك فقد كان أيضاً سريع الغضب، حار الطبع. عند ذلك قال له فرحات: "لا تخدع نفسك! إذ لا علاقة لك بالأتراك. أولستَ حفيداً لمحمد علي باشا الألباني؟ ما علاقة الألبان بتركيا؟" وبما أن الأمير عمر طوسون كان على خلق طيب، كما أُثر عنه، كما كانت تربطه علاقات طيبة بالسودانيين عامة والنوبيين خاصة، فقد قبل منه ذلك بصدر رحب وتمادى في الممازحة مغايظاً له بقوله: "أنا ألباني، نعم، لكن ماذا تكون أنت؟" عندها استشاط فرحات غضباً وصرخ فيه قائلاً: "إنني أنا التركي يا ألباني! أنا تركي غزنوي! أنا الأمير ابن الأمراء يا ابن محمد علي البلطجي". عندها انفجر الأمير ضاحكاً، بينما خرج فرحات غاضباً، واتجه مباشرة إلى الكتبخانة (دار الوثائق الخديوية) حيث عكف فيها أياماً يداوم على مراجعة الوثائق المتعلقة بحكم الكشّاف مستخلصاً منها ما يثبت أصله التركي لإفحام الأمير عمر طوسون [رواية محمد مصطفى، من جدّي بالمحس، توفي سنة 2002م عن عمر تجاوز المائة، وقد كان شاهداً على الحادثة].
إن ما يجعلنا نلتفت إلى هذه الإفادة الواردة في الوثيقة بخصوص تجاوز حكم الكشّاف لمنطقة الشايقية نقطتان هامّتان ؛ الأولى إيرادها الصحيح لاسم السلطان العثماني الذي دخل بلاد النوبة، ألا وهو سليم الثاني، بدلاً عن سليم الأول كما اعتقد خطأً المؤرخون. النقطة الثانية عدم إيرادها للتوريخ الخاطئ (1517م) لذلك الغزو؛ فقد أورد فرحات شلبي العام 950 هجرية (أي بين 1565 ـ 1570) على أنه التاريخ الذي حدث فيه الغزو. هذا التاريخ أقرب إلى الدّقة، ذلك لأنه يتوسّط الفترة ما بين بداية الغزو الأول (1550م) الذي توقّف في حدود الشلال الثاني والغزو الثاني (1583م) الذي تقدّم صاعداً حتى الشلال الثالث حيث وقعت معركة حنّك الشهيرة. إن الخطأ المتعلق بهاتين النقطتين (اسم السلطان والتاريخ) لم يُصحّح إلا في أخريات القرن العشرين كما أشرنا أعلاه. إن هذا ليقف دليلاً على أن فرحات شلبي قد وقع في تنقيبه ذلك على مصادر مطلعة، إن لم تكن المصادر الأصلية.
أما بخصوص الإفادات الشفاهية، فقد وقعتُ على عدد وافر منها وذلك إبّان عملي الميداني بمنطقة المناصير بالشلال الرابع عام 2003م وذلك ضمن الفريق الأثري للمتحف البريطاني. إذ يفيد التاريخ الشفاهي للأسرة التي حكمت المنطقة أنها قدمت في ركاب حكم الكشّاف، فضلاً عن أنهم يُعرّفون أنفسهم ككشّاف [محمد جلال هاشم (بالإنكليزية)، "التاريخ الشفاهي لقبيلة المناصير"، 2003]. ولا تزال الذاكرة الشعبية تحكي عن أصلهم التركي وعن صاي وعن الدِّر. أكثر من ذلك، هناك قرية اسمها "الدر" تخليداً لاسم القرية التي قدموا منها في الزمن القديم. هذا بخصوص إقليم المناصير والذي يقع أعلى إقليم الشايقية. بخصوص الأخير نفسه ترد إفادات وبينات تشير إلى وصول الكشّاف هناك. ففي نوري تُعرف أسرة العمدة كنيش بأنهم كشّاف. كان يمكن أن نأخذ ذلك على أنه من قبيل التسمّي بالألقاب التشريفية مما كان شائعاً في ذلك الزمان، إلا أن العمدة محمد أحمد كنيش أطلعني على مراسلات جرت بين جدّه في عشرينات القرن الماضي وبين حفدة الكشّاف بمنطقة السّكّوت تُثبت قرابة الدم هذه [مقابلة بمنزله بنوري 2003].
يُفهم من الروايات الشفاهية بأن الكشّاف تحصّنوا بقلعة كجبي شمال مروي كما فعلوا في صاي وقصر إبريم. وعندما عجزوا عن السيطرة على إقليم الشايقية، تراجعوا شمالاً، لكن ليس قبل أن ينفرد فرع منهم بحكم منطقة المناصير على الجنوب من الشايقية. من جانب آخر تفيد بعض الروايات الشفاهية التي جمعناها عن مملكتي أرقو والمحس بوجود صلات قوية مع الكشّاف. على أيٍّ، فمن الواضح أن حكم الكشّاف انحصر على منطقتي النوبة الوسطى (الأطراف الشمالية للمحس والسّكّوت وأرض الحجر) والسفلى، أي حلفا وجنوب أسوان بمصر (أي منطقة الفاديجّا). فإذا كان ذلك ناجماً عن التقلص، فهو مما يحتاج لمزيد من البحث والتقصّي
ق