الطريق إلى البعثة
الحلقة الأولى (خمسون حلقة)
قصة حقيقية
الطريق إلى مانشستر
وأخيراً، وفي الثامن والعشرين من شهر أغسطس للعام 2002، تجلت أمام عيني روابي مدينة مانشستر الخضراء المحيطة بمطارها الذي يبعد عنها بضعة أميال، فها أنا أستقل سيارة الفان الزرقاء مع الدكتور أبو عمار الذي استقبلني أنا وعائلتي قادمين من مدينة الدمام مروراً بمطار أمستردام لإكمال دراستي الجامعية في هذه المدينة التاريخية العريقة، دراستي التي تعثرت لسنوات في أدراج بعض المسؤولين غير المسؤولين، والتي ستكون جوهر القصة التي سأسردها خلال فصول الرواية القادمة والتي ستظهر في كتاب لاحقاً، تماماً كما كتبت قبل سنوات روايتي الأولى "مذكراتي اللندنية" والتي سردتها هنا باسم "الطريق إلى لندن" باسم "إنت معاي".
في وسط الطريق وأنا أتمتع بشعاع الشمس الطفيف الذي يتسلل من بين الأشجار الباسقة، استحوذ على تفكيري شريط الذكريات وهو يمخر فوق أمواج أفكاري وأشجاني المرهقة. فأخذنتي بعيداً عن الطريق نحو طفولتي العشوائية عندما بلغت الرابعة من عمري في مدينة الطايف، حيث كانت المدينة في حينها أقرب لقرية صغيرة يعرف سكانها بعضهم بعضاً ويعيشون على البساطة والبركة وتتمتع بأجواء معتدلة أكثر منها الآن وتنتشر في أطرافها البساتين الغناء. تذكرت بيتنا العتيق في حي الريان والمساكن الأخرى المصنوعة من اللبن والطين وأجملها وأكبرها على وجه التقريب بيتنا المبني على طراز حديث نسبياً، بيتنا الذي تزين الزخارف الحجازية مجالسه وألوان أسيابه الزاهية بالأصباغ الزهرية والتفاحية ومنوره الذي يشرف على المطبخ الصغير والغرفة الداخلية التي ننام فيها جميعا خاصة أيام الشتاء بعد أن نشعل المدفأة التي تعمل على الجاز. وعندما أزور البيت الذي يتكون من طابقين هذه الأيام، أستغرب من حجمه الضيئل وقد كنت أجده من قبل منيفاً. في أيام الصبا تلك كان الخيال يسرح بي كثيراً وأنا أتقرفص على برميل صدىء مليئ بالرمل وضع على ركن منزل طيني من الناحية الشمالية لبيتنا يعود لرجل طاعن في السن أشيب من طاقيته البيضاء واسمه العم "أحمد العشي"، كان بيت عم أحمد مبني كذلك من الطين واللبن وفي وسط فنائه حديقة غناء صغيرة بها بعض الأشجار المثمرة كالرمان والتين والتين الشوكي، وفي المواسم تطرح شجيراتها الصغيرة التوت البري والعليق والورد الطايفي. والبرميل الذي كنت أقضي عليه معظم وقتي كان لحماية المنزل من المركبات التي تسير في الطريق من الصدمات. والمفارقة أن العم أحمد توفي لاحقاً بسلام في غرفة نومه، بينما توفي ابنه بالتبني "غازي" في قصر أفراح تهاوى على النساء أثناء أحد الأفراح وعندما دخل غازي لإنقاذ بعض الأطفال الذين كان يسمع أنين إستغاثتهم مال عليه أحد الجدران وقضىفي الحادثة بطريقة درامية أحزنتنا جميعاً.
قصة حقيقية
الطريق إلى مانشستر
وأخيراً، وفي الثامن والعشرين من شهر أغسطس للعام 2002، تجلت أمام عيني روابي مدينة مانشستر الخضراء المحيطة بمطارها الذي يبعد عنها بضعة أميال، فها أنا أستقل سيارة الفان الزرقاء مع الدكتور أبو عمار الذي استقبلني أنا وعائلتي قادمين من مدينة الدمام مروراً بمطار أمستردام لإكمال دراستي الجامعية في هذه المدينة التاريخية العريقة، دراستي التي تعثرت لسنوات في أدراج بعض المسؤولين غير المسؤولين، والتي ستكون جوهر القصة التي سأسردها خلال فصول الرواية القادمة والتي ستظهر في كتاب لاحقاً، تماماً كما كتبت قبل سنوات روايتي الأولى "مذكراتي اللندنية" والتي سردتها هنا باسم "الطريق إلى لندن" باسم "إنت معاي".
في وسط الطريق وأنا أتمتع بشعاع الشمس الطفيف الذي يتسلل من بين الأشجار الباسقة، استحوذ على تفكيري شريط الذكريات وهو يمخر فوق أمواج أفكاري وأشجاني المرهقة. فأخذنتي بعيداً عن الطريق نحو طفولتي العشوائية عندما بلغت الرابعة من عمري في مدينة الطايف، حيث كانت المدينة في حينها أقرب لقرية صغيرة يعرف سكانها بعضهم بعضاً ويعيشون على البساطة والبركة وتتمتع بأجواء معتدلة أكثر منها الآن وتنتشر في أطرافها البساتين الغناء. تذكرت بيتنا العتيق في حي الريان والمساكن الأخرى المصنوعة من اللبن والطين وأجملها وأكبرها على وجه التقريب بيتنا المبني على طراز حديث نسبياً، بيتنا الذي تزين الزخارف الحجازية مجالسه وألوان أسيابه الزاهية بالأصباغ الزهرية والتفاحية ومنوره الذي يشرف على المطبخ الصغير والغرفة الداخلية التي ننام فيها جميعا خاصة أيام الشتاء بعد أن نشعل المدفأة التي تعمل على الجاز. وعندما أزور البيت الذي يتكون من طابقين هذه الأيام، أستغرب من حجمه الضيئل وقد كنت أجده من قبل منيفاً. في أيام الصبا تلك كان الخيال يسرح بي كثيراً وأنا أتقرفص على برميل صدىء مليئ بالرمل وضع على ركن منزل طيني من الناحية الشمالية لبيتنا يعود لرجل طاعن في السن أشيب من طاقيته البيضاء واسمه العم "أحمد العشي"، كان بيت عم أحمد مبني كذلك من الطين واللبن وفي وسط فنائه حديقة غناء صغيرة بها بعض الأشجار المثمرة كالرمان والتين والتين الشوكي، وفي المواسم تطرح شجيراتها الصغيرة التوت البري والعليق والورد الطايفي. والبرميل الذي كنت أقضي عليه معظم وقتي كان لحماية المنزل من المركبات التي تسير في الطريق من الصدمات. والمفارقة أن العم أحمد توفي لاحقاً بسلام في غرفة نومه، بينما توفي ابنه بالتبني "غازي" في قصر أفراح تهاوى على النساء أثناء أحد الأفراح وعندما دخل غازي لإنقاذ بعض الأطفال الذين كان يسمع أنين إستغاثتهم مال عليه أحد الجدران وقضىفي الحادثة بطريقة درامية أحزنتنا جميعاً.
ولطالما أطلت الجلوس على ذلك البرميل والذي تحول لونه إلى السواد الحالك بفعل تعاقب الشمس عليه سنوات مديدة، حيث بدت عليه كتابات بارزة باللغة الإنجليزية عرفت بعد أن كبرت أنها تدل على أن البرميل من مخلفات الحرب العالمية الثانية، فكيف رمت به الأقدار من أراضي المعركة وأتت به إلى حارتنا الوادعة والتي تحمل جل أسراري وشكلت شخصيتي الطرية لتبقى آثارها محفورة في أعماقي حتى اليوم، بالرغم من أني خرجت لاحقاً للدنيا الكبيرة وتجولت في معظم دول العالم شرقها وغربها، لكن تبقى تلك السنوات هي هيكل ذاتي مهما تغيرت ملامحي ومظهر الخارجي.
وفوق البرميل كنت أترنم وأنا غراً بأغنية كانت مشهورة في تلك الأيام تعود للفنان دريد لحام "غوار الطوشة" في مسلسل (حمام الهنا) عندما انتهى به مطاف معضلته في الظفر "بفطوم حيص بيص" والزواج منها إلى السجن لينشد بحزن:
وفوق البرميل كنت أترنم وأنا غراً بأغنية كانت مشهورة في تلك الأيام تعود للفنان دريد لحام "غوار الطوشة" في مسلسل (حمام الهنا) عندما انتهى به مطاف معضلته في الظفر "بفطوم حيص بيص" والزواج منها إلى السجن لينشد بحزن:
فطوم فطوم فطومة
خبيني ببيت المونة
بكرا لمّا بيجي البرد
مالك غير الكانونة
خبيني ببيت المونة
بكرا لمّا بيجي البرد
مالك غير الكانونة
لم تكن معظم شوارع الطايف بشكل عام سوى شوارع ترابية، ويتوفر الأسفلت فقط في منطقة السوق وكذلك حول بعض قصور الأمراء في حي شهار أو الفيصلية أو في منطقة الهدا السياحية. بل أنه على مرمى بيتنا من جهة الشرق على ضفة الوادي كانت توجد بعض الخيام كمستقر ومقام لبعض البدو الرحل، بما في ذلك مخفر الشرطة الذي كانت خيامه البالية خاكية اللون. ولم يميز حينا سوى شيئين، المقبرة المواجهة لبيتنا والوادي الذي يقع خلف المقبرة مباشرة. فعندما يهطلالمطر كنا نذهب إلى الوادي الذي يبعد نحو مئة متر عنا فننظر بشغف كيف تحول إلى نهر هادر فنتسلقفروع الشجرة التي ترتفع على سفح الوادي لنتمتع بالمنظر الخلاب وزبد الماء يلامس أقدامنا.
أما سكان الطايف فكانوا أناس شهماء وبسطاء لأقصى مدى، ففيها الكثير من القبائل المشهورة بقوة الشكيمةمثل هوازن وعتيبة، وبني غامد وزهران في منطقة الشهداء. كما يوجد الكثير من السكان الذين تعود أصولهم لبخارى وسمرقند والهند ويقطنون بحي البخارية. وقبائل الجعدة تقطن في حي ملاصق لنا، وقد سميت الحارة باسمهم، وكان صبيانهم يناصبون العداءلأبناء حينا دون هوادة. والمشكلة الإستراتجية أن حي الجعدة كان مصدر التموين بالخبز من "الفران" الوحيد، العم حاتم اليماني، فكلما ذهبنا لإحضار التميس لا نضمن أن ندخل في عراكشرس في كل مرة، ولكن لا بد من المجازفة اليومية وإلا قضينا من الجوع.
كان أبي في مفهوم تلك الأيام من أكبر رجال الأعمال في مدينة الطايف ويمتهن النشاط العقاري بحرفية، بجانب تاجر آخر اسمه عبد الله بن بكر، وسميت حارتنا باسمه وكذلك والدي الذي تنسب إليه كذلك منطقة كاملة تسمى إلى هذا اليومباسمه (الصالحية)، ويبدو أنها نسبت إليه بسبب أن أغلب المبايعات كانت تحمل اسمه. بيد أن إنشغال أبي عناكان ملحوظاً، خاصة حينما أنشأ مزرعة للدواجن في منطقة قريبة من الردف مع التاجر الشهير فقية. وأذكر أنه عندما وصلت للسنة الخامسة من عمري عندما نزور المزرعة أنه كان يحملني ويضع أقدامي وسط مطهر يوجد كبركة صغيرة أمام مدخل الحظائر قبل الدخول حيث كانت من أسعد اللحظات عندما نتجول فيهاونلاحق الدجاج في أنحائها.
وما لبث أبي بعد حين أن بدأ أبي بتغييرتجارته فقام ببيع المزرعة وأغلب أراضيه وأغلى واحدة بيعت بتسعة ملايين ريال لوزارة التعليم في العام 1975، وأتجه لاستيراد الشاحنات من بيروت من مع شريك من أقربائنا في مدينة جدة عن طريق تاجرلبناني اسمه أبي اللمع. فأصبح أبي يغيب عنابالشهور لدرجة كانت تمر الأيام ولا أعرف هل هو في البيت أم في لبنان. وقد حصل أن طرق أحد الجيران باب منزلنا وسألني عن أبيفأخبرته بأن أبي قد سافر إلى لبنان وخرجت بعدها لألعب مع أقراني في شوارع الحي، فتفاجأت بأن وجدت أبي متقرفصاً في مركاز العم سلطان الحربي، فتوقفت لثوان ونظرت نحوه شذراً وكأن الأمر لا يعنيني وتابعت اللعب مع أصدقائي، فقد وصلت لمرحلةلا أفرق بين أهمية وجوده وحاجتي كطفل لحنان والده.