ان ما تكتشفه عين البشر في المرة الاولى قد لا تكفي لملء ظمأ الروح من جمال الطبيعة وجاذبية المكان، كذلك فان المرات الاخرى ربما تكمل تلك الحاجة النفسية للتشوق من جديد، ولاكتشاف المكتشف، ففي كل مرة تتجدد حالة التآلف بين الزائر والمكان، حيث يستطيع الزائر ان يدعي، حتى وان كان يدخل ابواب المدن الجميلة والساحرة التي ربما زارها الملايين من الناس قبله، بانه يكتشف المكان من جديد.
هذا بالضبط ما حدث لي، فلسنوات طويلة كنت اتوهم ان تكون بعض المدن السياحية الاوروبية التي زرتها من قبل، خاتمة للتاريخ والثقافة والفكر، وكذلك لسحر الطبيعة، لكني حقاً أصبت بحالة من الاندهاش الكبير حينما وضعت قدمي ولاول مرة على ارض «لوزان»، هذه المدينة المتفردة بجمالها الساحر، الذي ربما لا يشبه بقية المدن الاوروبية السياحية الاخرى.
في مطار جنيف، الذي يقع في داخل حدود مركز المدينة، وعلى مقربة من بناية «الامم المتحدة» وبناية «اللجنة الدولية الاولمبية» لا يعاني السائح او الزائر اي صعوبة في الوصول الى جميع مدن سويسرا دون استثناء، فتحت المطار مباشرة، توجد محطة قطارات تتوزع سككها الى كل المدن او الهضبات في البلاد، فالسفر هنا يخضع لادارة المسافر، ويستطيع ان يختار بين الطيران او الباصات او القطارات،لكن العديد من السياح يفضلون السفر بالطائرة الى جنيف ثم يقضون يوما او يومين فيها للاطلاع على معالمها السياحية المختلفة، بعدها يسافرون الى المدن الاخرى المستهدفة بواسطة القطار ومنها «لوزان».
المبلغ الذي دفعته في محطة قطارات جنيف للذهاب إلى لوزان بحدود 25 دولاراً، وهي لا تساوي متعة الجلوس والراحة في عربات مجهزة بكل مستلزمات الخدمة، كما لا تساوي أيضا متعة النظر من خلال نوافذ العربة الى تلك الصور الساحرة التي تلحظها العين بصورة سريعة، وكأنها فيلم سينمائي يمضي دون توقف.
[/IMG]
ادوار طبيعية
«لوزان» مدينة مدهشة، فهي تتكون من ثلاثة طوابق، وفي كل طابق من هذه الطوابق الجبلية، التي نحتها الإنسان لتكون منبسطات، توجد كل مستلزمات المدينة العصرية النموذجية، لكن الشيء الغريب في مدينة لوزان، والتي هي عبارة عن ثلاث مدن في مدينة واحدة، ان الانتقال من الطابق الاسفل الى الطابق الثاني أو الثالث بالنسبة للمارة الذين يستعملون أقدامهم، لا يتطلب سوى دقائق قليلة، ففي كل شارع رئيسي تقريبا يوجد مصعد كهربائي واسع يستخدم لغرض الصعود أو النزول من والى هذه الطوابق.
[/IMG]
[/IMG]
وبالإمكان أيضا أن تلقي بنظرك من الطابق الثاني أو الثالث على الطابق الارضي، وهكذا، فالمساحات بين هذه الطوابق ليست مغلقة، وانما هي مساحات مفتوحة وطبيعية، وتربطها طرق جبلية مخصصة لسير السيارات والعربات، وكذلك لسير الناس أيضا، لكن مشاق الصعود بالنسبة للكثيرين من هؤلاء الناس تجعلهم يختصرون الجهد والمسافة باستخدام المصاعد الكهربائية الموزعة في مركز المدينة. شبكة المواصلات في لوزان شبكة واسعة ومتعددة، فهناك «المترو» ومحطات الباصات و«التروليبوس»، وكلها تعمل وفق نظام خاص ومنضبط، الهدف منه تقديم أفضل الخدمات للناس عموما.
لوزان تقع ضمن الكانتون الفرنسي، ومعلوم ان سويسرا تتكون من ثلاثة كانتونات هي الألماني والفرنسي والايطالي، وبذلك فإن الأهالي يتحدثون بثلاث لغات طبقا لمكان معيشتهم في أي من هذه الكانتونات.
مستوى المعيشة بالنسبة للسكان جيد للغاية، حتى ان مكاسب الأقليات الأجنبية ومعظمها قدمت إلى سويسرا ابان الكوارث، اوهروبا من الأنظمة الشمولية، تعتبر مكاسب ربما تفوق الكثير من المكاسب التي يحصل عليها هؤلاء الناس في بلدان أوروبية أخرى. يبلغ عدد سكان لوزان نحو 130 ألف نسمة، والمدينة تشعر بنوع الفضفاضية لقلة نفوسها، وهي تقع على منحدر موقع النزول من الهضبة السويسرية الى الشمال من شاطئ بحيرة جنيف العملاقة، التي تربط جنيف بلوزان لوسعها وكبر حجمها، فكلا المدينتين تقعان على ضفاف هذه البحيرة الرائعة. فمن سواحلها يستطيع الزائر ان يرى تلك الجبال التي تفصل سويسرا عن فرنسا، وهي ربما لا تبلغ مسافة الوصول اليها عبر البحيرة الا بضعة كيلومترات فقط. الجبال مازالت تكتسي بطبقة من الثلج الأبيض، واذا ما وقع عليها ضوء الشمس، فإنها تبعث بألوان جميلة مختلطة ببياض الثلج.
انهار لوزان
تجري في لوزان اربعة انهار هي Flon و Love و Vuachere وRiolet وهذه الانهار لها سحر ربما لا يوجد مثيل له في اوروبا فضلا عن كونها تخترق اجمل الاماكن الجبلية، وتصطف على جنباتها الغابات واشجار الفواكه المختلفة فانها ايضا موضع للنزهة والرياضة المائية والصيد. وكما اشرنا فان وسط المدينة بني على ثلاثة تلال تربطها العديد من الجسور الجميلة، وبعضها جسور كبيرة مثل جسر Besieres ، وجسر Chauderon فضلا عن ميناء «Ouchy» الرائع الذي تحولت بعض اماكنه الى مواقع لنزهة السياح وكذلك العشاق لكونه يطل على مناظر رومانسية جذابة للغاية.
مرافق المدينة الاثرية والسياحية كثيرة، وجلها بني في القرون الوسطى، فمثلا كاتدرائية سانت ميدي التي تعتبر تحفة تاريخية من التحف الفريدة في اوروبا قد بنيت عام 1405 وكذلك الحال بالنسبة الى كنيسة القديس لورانس وقصر Rumine الذي يدهش حتى اهل المدينة فكيف الحال بالنسبة للزوار الاجانب.
كاتدرائية سانت ميدي
كنيسة القديس لورانس
قصر Rumine
في «لوزان» توجد حدائق ومتنزهات كثيرة، ابرزها حديقة النباتات التي تحتوي على اصناف وانواع مختلفة من الزهور والنباتات والاعشاب. وهناك حديقة المناظر الطبيعية«Repos» وقد بنيت هذه الحديقة في القرون الوسطى ايضا، كذلك يوجد في المدينة، المتحف الرياضي في بناية «اللجنة الاولمبية الدولية». وتعتبر ساحة Palud واحدة من بين العديد من الساحات الاخرى، التي بنيت في القرن الثامن عشر، ومنها العديد من المباني المعمارية القديمة والجميلة.
الوسط التراثي
وفي ميدان المدينة «سان فرانسوا» وكذلك في الساحات والشوارع الاخرى تنتشر المطاعم والمحلات التجارية والاسواق المختلفة، فعلى مقربة من جامعة لوزان تتوزع شوارع قديمة وضيقة وهي جذابة للغاية وفيها اسواق شعبية ممتعة، اما ساحة الجامعة الكبيرة، فتتحول في كل يوم سبت الى اسواق في الهواء الطلق.
ولعل ابرز معالم المدينة الاثرية التي يعمها السياح من كل حدب وصوب هي قلعة Gruyeres التي تبعد عن مركز المدينة اكثر من 50 كيلو مترا، وتقع وسط الطبيعة الخضراء في الجبال القريبة من جبال الالب في Fribourg ويبلغ ارتفاعها 830 مترا وتعتبر من بين اكثر القلاع عظمة في سويسرا، واسمها مشتق من اسم طائر الكركي الشعاري «Grue» لذلك سمي بيت النبلاء ايضا بـ Gruyeres وهو يقع في القلعة وقد عرف منذ القرن الحادي عشر. وتناوب على ملكية القلعة عدد من النبلاء ومنذ عام 1848 اصبحت ملكا لعائلتي Bovy و Balland وقد اشترتها الدولة عام 1938 واسست فيها متحفا لها وللمدينة، يقصده السياح حاليا من كل مكان.
ادخلت على القلعة انواع من فن العمارة الرائع، وقد ساهم في بناء الصورة المعمارية للقلعة فنانون كبار مثل كورت كاميليا برثليمي مين واخرون. وقد غلب على رسوماتهم الطابع الرومانسي الارستقراطي الذي يبهر المشاهد العصري لقوة تكنيكه وتركيبة الوانه وصوره الجمالية الاخرى.
«لوزان» مدينة متميزة حقا، ففيها يشعر السائح بانه ربما يحتاج الى المزيد من الوقت لمشاهدة معالمها الكثيرة، او ربما لحاجته الى المتعة واللهو، لانها ايضا مدينة النوادي الليلية الجميلة وربما للهدوء والتأمل، لذلك فان معظم الكتاب والادباء والشعراء الاوروبيين يأتون اليها للتفكير والتأمل والكتابة، فأجواؤها الهادئة والممتعة تساعد على استنهاض العقل والذاكرة، فهي مدينة كما يقولون لاصحاب الذوق الجيد.
لمدينة لوزان حكومة محلية، تقوم بادارتها طبقا للقوانين السويسرية والشائع جدا ان هذه الحكومة لا تتسامح مع اي نوع من المخالفات، لذلك فان اهالي المدينة ملتزمون جدا في صيانة القانون ويتجنبون قدر الامكان ارتكاب اي نوع من الاخطاء او المخالفات، لذلك يشعر الاجنبي السائح بصورة واضحة بوجود امان عام واستقرار منقطع النظير.